بوح الجسد قراءة في “مخلوقات منذورة للمهانة” لأحمد طليمات

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 35
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رشيد برقان

يسجل المثل المأثور أن «إمارة الدار على باب الدار»، والباب الذي نحن بصدده موضوع بعناية، حيث إن العنوان “مخلوقات منذورة للمهانة” يمكّننا من الانتباه إلى النكرة. بل النكرة العميقة فليس هناك شخصيات أي أناس،  ولكننا بصدد مخلوقات فقط، وفي هذا ما فيه من التدمير والاندثار. كما أن لفظ «منذورة» تحيل على البعد المأساوي لهذه الشخصيات التي حُدّد مصيرها قبلا، وبدون أن تفعل أو ترتكب جرما، أو ما تستحق به مصيرها، ولعل هذا ما يجعلنا نقتحم عوالم الأقاصيص بنَفَسٍ تراجيدي مثقل بالرغبة في التعرف على المصائر والمآلات، ومشبع بالتعاطف والإشفاق. وإذا كان  النذر يشوبه بعض التفاؤل وحسن الطالع، فان مخلوقاتنا هنا منذورة للمهانة مما يغلق مجال التفاؤل، ويترك النص مفتوحا على نوع من السوداوية.وتتعزز هذه السوداوية عندما نتأمل الصورة التي ترفض أن تقدم لنا ملامح واضحة عن شخصياتها، ففي الصورة ما يشبه الشخص وما يشبه الأشكال.

ولا أظن أن لعبة شد الانتباه والاستفزاز ستنتهي حتى عندما ننتقل إلى الجنس الأدبي المختار، لأن الأقصوصة، في حد ذاتها، لا تزال قارة غير محددة المعالم والرسوم. كما أن التفاتة إلى الصفحة الأخيرة تنبؤنا بأن علاقة أحمد طليمات ليست بعيدة بالأقصوصة، وهي منقطعة الآن حتى إشعار آخر. فقد بدأ أولا بالرواية مع المختصرين “المختصر  في مقامات الأنفاق” و”المختصر من تخرصات الكوارثي وترخصاته أو وجدناها”. وانتقل إلى القصة أو الأقصوصة مع “السيد لينين…والسيد فرويد…والسيد تحفة”. وهو الآن بصدد الارتحال إلى قارة الشعر عبر إصدارين لم يجف حبرهما بعد: “لحاءات حليمة …وللحروف شمائل” و”أسميها إشعارا”.

تركز هذه المجموعة القصصية على ذات الكاتب وتتدرج من المحيط به إلى دواخله؛ فالمجموعة تمتد على مدى عشرين ومائة صفحة، بها ثلاثون قصة، وضعها الكاتب في  أربعة أبواب هي: “الكاتب وفضاءاته” ، و”الكاتب وإحباطاته” و”الكاتب وأنثياته” و”الكاتب ومخلوقاته” ولعل في الأبواب المذكورة سالفا موجّها قويا نحو الموضوعات الرئيسية لهذه المجموعة القصصية.

والكاتب بوصفه ذاتا حاملة لوعي، ساعية للتفرّد والبروز في فضاء المدينة هو المقولة البارزة في المجموعة القصصية، وهو المنظار المقترح لرؤية العالم. وبهذا تندرج هذه المجموعة ضمن خاصية من خاصيات المرحلة المقتضية لانغماس الذات في ذاتها، واقتراح رؤية للعالم من خلال هذه الذات ونوعية تمثلها للعالم والأشياء. وهذه الذات المقترحة هنا هي تركيب لذاتين، أولهما هي صورة المجذوب الذي تراكمت خاصياته في الثقافة الشعبية المغربية باعتباره إنسانا حاملا لوعي جعله يتخذ مسافة نقدية بينه وبين مايعتمل في العالم  من سلوكيات وتصرفات. وهو ممتلك لقدرات لغوية يعدّها مفتاحا لعلاج فساد العالم. ولأجل توصيل خطابه، وبيان مصداقية مايحمله من أطروحات، يبرز للمجتمع في صورة متصوّف زاهد في الحياة وفي ملذاتها ومباهجها، مخالف لشروط الأناقة والمظهر الجميل، معتمد على مرجعية دينية من خلالها يرى التحولات والتغيرات بدعة وزيغا عن المسار الصحيح، تستحق النبذ والمقاطعة.

أما ثانيهما فهي صورة المثقف الملتزم بقضايا الناس، والساعي نحو التغيير والتسلح بفكر علمي نقدي يسعى الى إشاعته وسط العالم. ولعل خير تعبير عن هذه التوليفة هي المقطع التالي:

« لا شيء من مرئيات الرجل، عاد كما كان … لا المدينة … لا الربوع، ولا الناس…

يصدّق الرجل قانون النزول الى النهر… بل وينهله منقوعا مذابا في ماء النهر..

لكن لا يصدّق ما يجري أمام عينيه:

حشرات حديدية مرعبة … حشرات بالعشرات، حشرات بالمآت، بكل الألوان هي … ومن شتى الأشكال … و شتى الأحجام … وفي كل اتجاه تتلوّى … مارقة زاحفة حتى لتكاد تتخذ من استواءات الجسد الهشّ للرجل، طرقا سيّارة … أفواهها زاعقة ناعبة … مخارجها فاسية ضارطة … ».[1]

فالمدينة تحولت والمجذوب يدرك قوانين العلم، ولكنها لاتسعفه لرؤية التحولات ضمن مسار تاريخي متطور؛ لأن رؤية المتصوف المتديّن ترى التحوّلات بدعة يجب توعية الناس من خطورتها على نقاء وصفاء الصورة الأولى للمدينة.

الكاتب وفضاءاته: وفيها يرصد السارد المحيط المتجلي في المدينة التي تبدّلت وتحوّلت في حين أنه بقي ثابتا، وظل متمسكا برؤيته وتمثلاته القديمة. ومن هنا ينبع التوتر الذي يزكي الحكي؛ فالمدينة غبارية تعود إلى أصلها بما هو اندثار ودمار، تغزوها الحشرات والمرابض باعتبارها أشياء وأماكن محتقرة لا تستسيغها عين السارد. كما أن لونها أصبح رماديا بفعل زحف الإسمنت على العوالم الخضراء والمعمار العتيق. وفضلا عن ما ذكر هي مدينة ظالمة تصبّ على أطفالها قَدَرًا أكبر من احتمالهم وحيواتهم. ومقابل ذلك نجد السارد الذي يواجه هذا العالم مسلحا بالعتاقة، وتمثّل للمدينة في رونقها مستلهما المجذوب ذلك الرجل الذي أصابه دوار التحولات المجتمعية والفضائية، فاعتصم بحكمته وسلّط سياط لغته على كل جديد.

ويبدو أن المدينة هي الموضوع الأثير لدى الكاتب في هذه المجموعة خصوصا مدينة ”مراكش” التي ينخرط السارد معها في علاقة خاصة فيها قدر لا بأس به من الامتلاك، وحجم كبير من العشق. وهو عشق لايتوجّه الى المدينة كماهي، ولكنه يؤسس صورة لها من مخيلته وذاكرته وثقافته باعتبار أن المدينة تؤسس صورتها من ماضيها وتاريخها التليد، ومن عرصاتها، وفضاءاتها المحلية، من أمكنتها التي تعبق بالحكايات والخرافات والعلاقات الحميمية.

بينما لا يقدم الحاضر إلا تدميرا لهذه الصورة، حيث تحوّلت كلها إلى غبار وهباء مملوء بالحشرات الحديدية؛ فالزحف الاسمنتي دمّر البعد الشاعري للمدينة. وحتى المظاهر الحداثية التي ظهرت في ”الشارع الكولونيالي الجميل” تمغربت، بمعنى أنها تحوّلت، ودخلت تحت طائلة الغبار.

و التحوّل لم ينحصر في حدود المدينة فقط، ولكنه وصل الى أهلها الذين لا يرى فيهم السارد إلاغباريين مثيرين للضجيج أو مرابطين في مقاهي/ مرابض يراقبون كيف تتحكم الحشرات/ السيارات في فضاء المدينة يقول :

« أما لشفاه العيون من ملامات؟ حشرات هنا… حشرات هناك … نعيب الحديد… زعيق الحديد… فساء الحديد… ضراط الحديد… حديد من تحت… حديد من فوق … حديد عن يمين … حديد عن شمال، و الناس ــــــــ أما للعيون شفاه؟ أما للشفاه ملامات؟ – ماعادوا هم الناس … روبوهات رهينات مسٍّ وصرع، قاعدات، سارحات مهرولات … تكلم الأشباح، تشير الى الأشباح، فيما تظللها الحدائق المعلقات بأفياء من المعدن المقعر..»[2]

إن حركة التحوّل العمراني الذي شهدته المدينة ما بعد الاستقلال، وهيمنة الأحياء الجديدة دون روح ولاتصميم محكم، وتهافت الناس على مظاهر حداثية شكلية خصوصا إبراز الذات من خلال ركوب السيارة و معاقرة المقاهي، جعلت السارد لايرى في هذه التحولات إلا معطى تدميري للمدينة يقول:

« وبعد:

فللعقاريين أن يعلنوا:

“… ونحن أعدناهمو إلى طين…” »[3].

لهذا لا غرو أن يتقمص السارد صفة المجذوب، ويستعيد لغته الانتقادية الحنينية التي لاترى في حركة الناس والعالم إلا الفساد. ولعل التعبير عن هذا المشهد يصل قمته حين يلتحم المثقف ذي الطقس الباخوسي بالمجذوب صاحب النفس الصوفي ويعبران في نفس شعري زجلي قوي يلخص موقف الكاتب من فضاءه يقول: «

“النهضة” غيرة هَدْرَة وخْلاص            و “الأطلس” ضَمسوه في ضالا

ما أنا من “طيط” ولى “مكناس”              ما أنا من ”مْزابْ” ولا “البْهَالا”

ما أنا إلا بهجوي مفجوع                     أعلى البهجة من رْبوعْنا رَحَّالَه

اعْلى النخلة اتمسخ حْديد                    اعلى خْضورة تصدقْ مذبالة

اعْلى سْماها تحجبْ بطوابقْ                   اتولّي طاقة، ضيْقة، مظلاله

اعْلى نْجومها تطفي، وتْعود                     الكمرة فيها، شاحْبة معلاله

أُعلى رْياضاتْ ترضى بالضيّم              اعلى جنانات، غْلالها مغتاله

أُعلى لطْيار تهجر لُوكار                               ألـــــــــــــــلاّ موكا تعزفْ الآلة

أُعلى هْواها يصبح مازوط                          كاربون، وسْموم، كلها قتاله

أُعلى اهناها تسكنو (ميرة)                          تردو مجعور، مخبول الحاله

لامِّيهت (عويش)، ولا فقْها                                  لادَمْ افْرارجْ، ولا بلاله

قادرين، اعلى رد البهجة                     امبهجة حمرا، وريدة  وغْزالة

وحدو بزناس،شْكايري ملهاط            تعجبوا لحمرا غير فاس، أو باله

تعجبوالحمرا، اتْباع بالجملة            اتْباع بالتقسيط سنتيمْ، أوقاله

أوحدو الوافدْ إيروبع، وديعْ                       املاينو تخليه، صاحب مقاله

يشري بها عْراصي وكْروم                       اعْراضْ اعْواتقْ، شْلاغم رجَّاله

هذا حقنا من العولمة                        نشويو الكبال كبالة بكبالة »[4].

ولأن المدينة الجديدة جذابة فقد خلقت هوامش لها لاتشبهها إلا في بعدها التدميري الذي طال حتى الأطفال الذين لم يشفع لهم اقتناعهم بالهامش، واكتفاؤهم باللعب بالكويرات في أرضيات متربة؛ يقول:

«  لكن في ذلك اليوم البعيد … وكان يوم خميس …

وفي ذلك الشهر، وكان الشهر الأول من السنة الميلادية الجديدة … أي سنة أربع وثمانين وتسعمائة وألف لميلاد رسول المحبّة والمسرّة، في ذلك اليوم الفاجع، والذي صلبت فيه المحبة والمسرة، حدث أن تجرّأ الأوباش، فخرّجوا في حشود حاشدة لا ليطالبوا بنصيبهم من المشويات والمقليات والمطهوات والمسفدات، وقطوف البحر والبر  وقرن الغزال وأشكال البساطيل … ولكن خرجوا فقط ليطالبوا بتيسير الحصول على خبز مأدوم وشاي محلى … »[5]

 

الكاتب ومخلوقاته:

 

يعد الكاتب خالقا لشخصيات وأحداث وفضاءات بحيث يكون هو المتحكم في مصيرها والمدبر لها. وفكرة الخالق هنا موضوعة بإصرار وترصّد من الكاتب، حيث اعتبر منتوجاته مخلوقات وليست كائنات: أي أنها غير مستقلة بذاتها، ولكنها ناتجة عن تدبير مشيئته. وهو في خلقه يحاكي مسيرة الخلق الكوني الذي كان بمشيئة الخالق في ستة أيام.

وكاتبنا هنا خالق لشخصيات متمردة لاتقبل المصير الذي ألصقه بها؛ يقول:

« واستمر الشيوعي المزيف، في شتائم لم أعد أميز  لا نوعها ولا حجمها، وأنا التقط أنينا طفوليا يقطع القلب:

ــــــ أنا طفلك …طفل المظاهرات الشهيرة، التي جعلتني أخرج فيها، مطالبا بحقي في التعليم … وقد جعلتني ياجدي …

أنا لست جدك، أنا خالقك … صححت …!    

وقد جعلتني ياخالقي، أنجو بأعجوبة من الموت، فيما جعلت رصاصة تستقر في رأس أحبّ الأصدقاء إلي …

حرام عليك … لم لم تتركه يعيش ويتعلم ويكبر…؟

أو لِمَ لَمْ تلحقني به برصاصة أخرى في رأسي ..؟

آه يارب … اضلعي مازالت توجعني …لقد سحقت النزلات العشوائية للهراوات وكعوب البنادق كل عظامي …

حرام عليك لم خلقتني، وسقتني الى هذا المصير  ..؟»[6].

لقد أثرت المدينة بكل مواصفاتها على الكاتب وعلى مخلوقاته، حيث إنه أمام الزحف الإسمنتي المدمّر يصاب السارد الخالق بالدوار وعدم القدرة على التحكم، فتكون النتيجة هي ابتكار مخلوقات منذورة للمهانة لا تستطيع أن تتبوأ موقعا جيدا داخل فضاء المدينة، بل لم تعد تحتفظ حتى على الاحترام الواجب لمبدعها.

فمخلوقاته تنتفض ضده وتثور على الوضع الذي بوأها إياه، ولعل هذا الاستلهام لشخصيات من عالم العجيب والغريب يذكرنا بفرانكنشتاين فرغم أن العالِم خلق مسخا، بقي هذا المسخ محتفظا بالعلاقة الأخلاقية بينه وبين خالقه. بينما نجد هذه العلاقة قد تهشّمت، وهذا معطى له دلالة عميقة في هذا المجال؛ ففي الوقت الذي حافظ فيه وحش فرانكنشتاين على العلاقة الأبوية ومنطق الخضوع والطاعة فيها بقيت شخصيات كاتبنا متدمّرة متمرّدة، تتوجه بالعتاب واللوم إلى خالقها، لأنه  ارتضى لها مصيرا دونيا مهينا؛ فكل الشخصيات تحمل ملامح مأساوية مهينة، وتعيش وضعا مترديا في زمن متحوّل، وهي فضلا عن ماذكر شخصيات مكرورة لاينفتح مآلها عن سعادة، ولاتؤول الى فرح؛ يقول:

« قالت         :  جربنا أشكالك ….

 قال             : وفي طبعات شتى جربناها..!

 قالت          : وما مضامينها إلا ماتشاء… !

قال              : وما الأشكال إلا مضامينها… !

عقبت مشيئتي: أنا العادل، لكما أقول: كونا كما تشاءان: ماهية .. أفعالا مجترحة.. واختيارات…

قالت           : مشيئتك ـــــــــ ومنذ البدء ـــــــ هي مايكون .. !

قال             : أولم تقترحنا جدعين رومانسيين .. وتركيبة مباركة لنسل جديد من الأغرار والمغفلين…؟ !

أضافت      : ومن أعراب البوادي في الألف الثالثة…

 قال           : ولن يكون مآل نسلنا سوى الجنون، أو الانتحار…

قالت         : أو جعل المعشوقة، مغنما مسلوب الإرادة، في مبارزة سخيفة، بين قلبين وزنادين.. ! »[7].

ولعل فكرتي التمرد والسخط اللتين تحملهما الشخصيات مستلهمتين من فضاء الخالق السارد؛ فمنذ البداية وخصوصا العنوان “مخلوقات منذورة للمهانة” نلمس نبرة للسخط  والتدمّر شائعتين في كل ما يحيط بالكاتب؛ يقول:

«عرّجت ـــــــ أنا المجبول على صنع مخلوقات حبرية  ــــــ على كشك من الأكشاك المحدودة، والمبثوثة في نقط تعدّ هي الأنشط حركة، وتجارة بالمدينة الكبيرة، لأتفقد المبيع من مجموعتي القصصية الجديدة، والتي وزعتها توزيعا ذاتيا، بعد أن استعادت شركة التوزيع المحتكرة رشدها، فامتنعت نهائيا، عن التعاقد مع ناشري الخيالات، والخبل اللامجدي للبلاد والعباد ..

وما إن شرعت في مساءلة صاحب الكشك المتذمّر على الدوام، حتى تناهي الى مسمعي صوت  نسائي  لإحدى مخلوقاتي»[8].

 

 3- الكاتب وأنثياته :

شكلت الأنثى موضوعا أثيرا في كتابة القاص أحمد طليمات حيث احتلت حيزا مهما في مجموعته الأولى ” السيد لينين.. السيد فرويد.. والسيد تحفة..”. وهي تعود هنا في باب خاص  يعرض فيه المرأة باعتبارها جسدا، وباعتبار علاقتها بالرجل؛ فالمرأة في “دافنشي البارع … دافنشي الخادع” هي امرأة الحلم، امرأة الرغبة التي تقابل الواقع المرّ، هي المرأة المفعمة بالرغبة والحياة المقبلة على السارد لتخرجه من حصانته ورتابته وعالمه المملّ. وككل الأشياء التي تمغربت في عالم السارد، لم ترق موناليزا القصة الى مقام موناليزا اللوحة، حيث بقيت محتفظة بصورتها فقط بينما اكتست باقي التفاصيل خاصيات محلية، ومن هنا تردده وتخلّصه منها؛ يقول:

« أجل …كان ارتباكي فوق كل تصوّر، ليس بسبب من الوازع الديني كما تصورت، ولا من الإقصاء الطهراني لنزوة لن تكون إلا عابرة على كل حال … ولكن مصدر الارتباك كان فيما أرى:

غولة بوجه غلامي …

إذ العجيزة، عجيزتها، بحجم كبتنا التاريخي من الماء الى الماء …

والكشح كشحها، بحجم عجلة  مطاطية للنقل الثقيل ..

والثديان، وقد تهدّلا، يبدوان بحجم قِرَب السقّائين وقد تناقص مخزونهما من الماء…

أو كيقطينتين مستطيلتين ضخمتين مجوفتين ذاتي وظيفة تخزينية…

عجزاء في الإقبال وفي الإدبار…

ولحم فوق لحم فوق لحم …

غلام، وغولة، وغلمة متهيّجة مصمّمة على اغتصابي …»[9]

وفكرة المرأة القوية الجسور التي تغتصب الرجال هي التي تستمر في الحضور في “عصافير ابن سيرين”، حيث يراود صديق السارد حلم لايفتأ يتكرر مفاده أن الزوجة تغتصبه. وحتى إذا لم تكتسب المرأة هذه القوة والجسارة، فإنها تبقى دائما حاضرة في الذاكرة عندما ينسى كل شيء يقول:

« إنما – عفوك – أردت أن أكتب عنك أنت، وحدك أنت، يامن علمتني منذ بدئي، على أن أكون رومانسيا، وعلى أن أبقى الأخير من الرومانسيين …

مستقلا عن الأشياء …و المتشيئين.

كل الأسماء أضعتها … إلا اسمك الموشوم في الدواخل، يامن مهّرتني على الخوض سباحة بالبحر الأزرق المتوسع، في عينيك، والذي لم يخلقه الخالق بين البحار إلا من أجل عيني، يااشتهاءهما البهي النقي اللامنطفيء …»[10].

والعلاقة بالمرأة هي علاقة متوترة تعيش شدا وجذبا مستمرين بين امرأتين: امرأة جميلة طهرانية لاتسكن إلا في الحلم وفي ذاكرة السارد. وهي شغفه وولعه. وامرأة واقعية متغوّلة غولة بوجه غلامي حينا، وحقوقية نسوانية فصيحة لاتبارى ولاتني تحرّف النضال النسائي عن جادة الصواب[11]. وبقدر ماتبقى الأولى حلما عصيا أو ذكرى هاربة منفلتة، بقدرما تداوم الثانية على الحضور ومطاردة السارد أينما حل وارتحل.

ومقابل صور المرأة المتعددة والمتنوعة تنحو صورة الرجل ساردا وشخصية نحو نوع من التنميط. فهو المثقف الذي يحفل عالمه بالقراءة والكتابة تدريسا وإبداعا، وهو متعالٍ لايقدم لنا أوصافه الجسدية، ويقدم نفسه دائما باعتباره عقلا رزينا، وكائنا مفكرا. وهو كذلك لذة عاصفة. وهو انتقائي في علاقته بالمرأة، متدمّر من العلاقة الزوجية التي أصبحت تقاليد متكلسة مفعمة بالصراع والضجيج، منشدّ إلى علاقة خارج الأعراف والتقاليد، منغرسة في الأحلام وعنف الذكرى؛ يقول:

« والآن يا (ممكني) الذي نأى وانحجب إليك لبّ الكلام، واعتبري كل التذكرات، والتداعيات السابقة، مجرد تمهيد للنبأ التالي:

بالأمس، أقدمت على ماكان يروادني من زمان … منذ أن نأيتِ وانحجبتِ … أن أمد يدي إلى وكر من الأوكار، عساي  أعثر على (ممكني) … وقد فعلت ..!

وقد ادفأتِ كفي، وفضتِ عنهما (ياممكني ) … وتمليت مليا في المنقار القرمزي المفتوح على كل التغاريد …. وفي الصدرية  ذات الريش الأخضر الفاتح والمنضد … وفي التنورة القصيرة بالريش الأصفر صفرة شمس لطيفة…»[12].

وعلى الرغم من التناقض بين الرجل والمرأة في عوالم طليمات السردية فالعلاقة بينهما ليست مستحيلة. والتوتر، خلال حضوره، لايصل درجة الانقطاع، بل يمكن الزعم أن هناك تناقضا فكريا بين عالم الرجال وعالم النساء، وتناغما عاطفيا في الآن نفسه. ولعل المجال الفسيح الذي يسمح لهذه العلامات بالظهور هو قصة “تركات محيّنة” حينما يرصد السارد اختلافات الأذواق واختيارات القراءة التي تعكس الاختلاف الجذري بينهما؛ يقول:

« تآليف الأفغاني، وعبده،، والكواكبي، وسلامة موسى، والشميل … تآليف لينينية، تروتسكية، ماركوزية وهابية … الكل هنا مرفوف في سكون وتساكن … فلاتنابز بالألقاب ولا بالحراب …

أما هي فلاتحب من هاته الخزانة التي تكاد تُشّل من جرّاء ماحملت، إلا تلك الرفوف المخصصة للروايات، والمجاميع القصصية، والدواوين الشعرية، والنزارية منها خاصة. “أما تآليف الهمّ والغمّ وعسر الفهم والهضم، ـــــ كما تقول له ــــ فلتفز بها يافيلسوفي الكئيب” …

أما الخزانة  الموسيقية العالمية، فلامعنى لمحتوياتها، من دون جرّات ولاركزات .. “ومن يكون باخ ـــــ  تستفزه ـــــ أمام خربوشة.؟”»[13].

لكن كل هذه الاختلافات ومايترتّب عليها من لجاج تختفي في اللحظات الحميمية؛ يقول:

« وإن كانت تتبرم من شيء فإنما من تلك الخزانة  الضرّة، ومن أولئك الرجال الصامتين، صلعا، أو مشعتين، مردا أوملتحين. أما أولئك السرّيون والذين لاصور لهم فهم يخيفونها حقا … لكن تلك الغيرة سرعان ماتخفّ عندما تلاحظ أن تلك الرفوف لاتحتفي إلا بأسماء نسائية قليلة، وبصور لاتبعث إلا على الشفقة … تقول اللحظة في سرّها: “رغم أن خزانته كانت .. تخطفه مني مرارا، وإلى حد المبيت … فإني كنت الأثيرة لديه بلامنازع، خزانة للحب والدفء، والرعشات … لاخزانة للأموات والأحياء المثرثرين، والمخنزرين … والذين يبدو من سحناتهم المهمومة أنهم لم ينعموا كثيرا بنعمة الحب … »[14]

4- الكاتب واحباطاته : 

تتوحد هذه المجموعة على صعيد الحجم، حيث إنها مجموعة من القصص القصيرة جدا، محورها الوحيد هو سيزيف بماهو رمز للإحباط وعدم القدرة على تحقيق الهدف المنشود، فلم يتم تكرار الأسطورة، ولكن السارد استلهم فقط رحلة سيزيف، وعدم قدرته على توصيل الحجر إلى قمة الجبل. وسحب هذا المقطع منها للتعبير عن التكرار والألم المستمر. أوالعدمية الناتجة عن التكرار غير المنتهي. والإحباط بوصفه الموضوعة الأساس يبقى هو المهيمن؛ فكل حركات سيزيف وبكل تلويناتها  تؤول الى الفشل، حيث ينشأ في كل القصص صراع بين سيزيف وبين قوى أخرى معادية هدفها عرقلة حركته. وينتهي دائما هذا الصراع بانتصار القوى المعادية وذلك بتحويل المسار؛ يقول:

« قرر سيزيف اعتزال القطيع…

وأذاع قراره: “أنا ـــــــ ومنذ الآن ـــــــ مواطن … “

 ارتفعت عقيرة الراعي: “إنما أنت ـــــ وفي كل الأزمان ـــــ تيس من رعيتي …”

ثم أغرى سيزيف غيره بالاعتزال …

وأذاعوا قرارهم:

“نحن ـــ ومنذ الآن ــــ مواطنون”

فارتفعت عقيرة الراعي:

“إنما أنتم رعيتي  وأنعامي …

هكذا وجدتم، وهكذا ستبقون …

وهكذا هي، بداهات الأمور … “

وبين الحجاج، والحجاج المضاد

ستُفدى البداهة بذبح عظيم: سيزيف المواطن»[15].

وعلى صعيد البنية تتوحّد هذه السيزيفيات على صعيد تضمنها لحدث واحد قوي، يطرأ عليه انتكاس وإحباط، وينتهي بحالة استقرار انهزامية. ويتصاعد من هذا الإيقاع همّ مجتمعي مشحون بانشغالات الدمقرطة والتحديث. كما نجد فيه رصدا لتحولات المجتمع. وكأن معضلات المجتمع تحولت أحداثا وأحداثا فقط تحملها شخصية لا تحمل من العلامات إلا ضمير الغياب وقليلا ما يتاح لهذا الضمير/سيزيف أن يفصح عن نفسه ورغباته، إذ أنه يبقى دائما محملا بصفات وألقاب تلصق به إلصاقا من طرف السارد. وخارج هذه الألقاب لانجد صفات ولاعلامات مميزة للشخصية. وينسحب الأمر نفسه على الزمان والمكان.

وفي هذه التجربة مغامرة في بحر التجريب وذلك بالاشتغال على شكل جديد للكتابة يولد من رحم القصة، ولكنه يحفر عميقا في أبعادها التكثيفية، وينهض على تفقير العناصر الأساسية لتوجه كل طاقات المتلقي نحو الحدث فقط.

الخاصيات الفنية:

  1. اللغة

يقتحم القاص أحمد طليمات عالم السرد بلغة متعددة الخاصيات متنوعة التمظهرات لنقل ما يعتمل في دواخله، بالقدر نفسه الذي تتفاعل فيه مع الواقع وترصد خاصياته. وهي لغة يحضر فيها الشعر بقوة من خلال استحضار مجموعة من الخاصيات لعل أهمها:

  • شكل الكتابة أو كيفية استثمار فضاء الصفحة؛ نستطيع أن نلاحظ هذه المسألة في “أناس من غبار” فقد استهوت الكتابة الشعرية السارد لدرجة جعلته يخرق الخاصيات الفنية للقصة وينحو بها نحو الكتابة / الخاطرة التي تسير فيها علاقة البياض بالسواد في الصفحة وفق هوى السارد وطبقا للدفقة الشعورية.

كما تحضر الكتابة الشعرية أيضا في ”مجنون من زمننا”، و”طقطقات”.

  • التوازي و التكرار:

يعدّ خبراء الشعر أخص خاصياته التكرار والاستعارة، والقاص “أحمد طليمات” مغرم بالتكرار وما يخلقه من توازي في العبارة لدرجة يصعب عليه معها الخروج من الشعر والرجوع الى السرد؛ فكلما سنحت فرصة يتبعها الى آخرها، و يستنفد كل طاقاتها وشحناتها التعبيرية قبل أن ينتبه الى أنه بصدد سرد يتطلب أشياء أخرى. يقول: « أنا غبار … أنت، هو، هي، وبالمتاح من الضمائر غبار… في مدينة الغبار…

لاوقت للمجاز…

فالناس لا يعنون إلا الناس…

والغبار لايعني إلا الغبار…

لاوقت للمجاز… ولا للتوريات…

الوقت كل الوقت للعقار، وأرياع  العقار، هيستريا العقار… وصرع العقار…«[16]

  • هيمنة الصوت الداخلي: يهيمن الشعر أيضا من خلال هيمنة الصوت الداخلي الذي يكتسي غالبا شكل تعبير إنشائي عبارة عن تساؤل يوجّهه السارد للذات وللآخرين. يقول: « أما للآخرين من عيون؟ وما العيون إذا لم تناوس بين خارج وداخل؟ بين براني و جواني؟ وما العين من دون التملّي؟ من دون عشق؟ ومن دون شفاه بمشروع بوْحٍ أو مَلامات…؟ [17]«
  • اللغات المجتمعية:

لغة السارد لغة حدث يرصد واقعا خارج الذات. لهذا، لا يمكنها أن تستمر إلى ما لانهاية في جوانيتها. والخروج الى الواقع خروج إلى التنوع والتعدد من جهة وقبول، ولو على مضض، بالضغط الذي يمارسه الواقع. والتعدد والتنوع يضعنا أمام مجموعة من اللغات المجتمعية البارزة تبدأ بلغة عربية باذخة تنهل من القرآن والثقافة العربية التليدة، وتظهر من خلال مجموعة من اللحظات نقتطف منها المقطع التالي:

« ولكم يجدر بالنسابين أن ينسبونا، لا إلى (الحمراء) أو(البهجة) التي غمّت بهجتها … بل إلى (بني الغبار)، أو (الأغبرة)، أو(بني الأغبر)، ولعل الأخيرة تبقى الأفضل، فيما يبدو، لما قد توحي به من عراقة»[18].

والرقي باللغة إلى المستوى الفصيح القديم يؤشر على اعتماد السارد هذا التمثل واعتماده منظارا يرى من خلاله تحوّلات العالم التي لم يعد يستطيع أن يرى فيها إلاغبارا أوهباء، ولعل في هذا مؤشرا على تحوّل اللغة، بل نثرية  العلاقات الإنسانية وابتذالها، كما يعلن كذلك نثرية الواقع ونزوله من سمو العلاقات الشعرية الماضية إلى نثرية العلاقات وابتدالها وكذلك يصرّح بموقف السارد منها.

وإلى جانب هذه اللغة تظهر لغة أخرى لاتختلف عن الأولى في العتاقة، ولكنها تتميز بكونها محلية؛ وهي لغة المجذوب؛ لغة صوفية انتقادية محورها الغالب هو ذم الحاضر ورفض التحوّلات، واعتبارها كلها، خصوصا منها ما يأتي من الغرب، مرفوضة غير مقبولة، يقول: « مايشبه الطرق في الرأس… والزحف على الاستواءات… وهافساء الحديد… وما الغثيان، وها الروبوهات من تحت … وها المعلقات من فوق .. وها الحالُ حاله يأتيه، وكالمتعود على أداءات الركوح، يسعفه الجسد شبه العاري ويسعفه الكلام:[..]

…يالعامرين قجاقل

بعقول عمارة خرايف…

غاملة، خاملة، تدفع لفهامة…

عاطلة، جاهلة باللي جاهلة، مَظْلامة…

قجاقل لآخُرْ صايرة

من عقول، فسْلاسل اعْقول …

ماشي من عقول امسلسلة.»[19]

وسواء كانت لغة عربية فصيحة أوزجلا محليا، فإن الرؤية واحدة. وهي رؤية تصّر على تسمية الأشياء بألفاظها الخاصة لتضمن نقل شحناتها التفسيرية ومنظورها التعبيري؛ فالسيارة حشرة، والمقهى مربض، ودخان السيارة فساء والآلات قجاقل.

و مقابل هاتين اللغتين المتسمتين بنوع من الصرامة المعتنقتين لرؤية نقدية تنمو لغة إيروتيكية تقدّس الجسد، وتلهث وراء الشعرية التي تنبع منه، وتشكّل منها عالما حميميا.

وتصل هذه اللغة قمتها في طقطات

طاق طاق طاق طاقا طا…

العنق عال… و الكعب عال…

طاق طاق طاق طاقا طا…

رقن لخطاب ايروتيقي بالأقدام…

طاق طاق طاق طاقا طا…

يزاحمه الكعب العالي…

“باردون” يقول الكعب العالي …

طاق طاق طاق طاقا طا…

ينفتل الكعب العالي الى (زاراهوم)….

طاق طاق طاق طاقا طا…

يزيل الكعب العالي نظاراته السوداء … عينان معدستان …. عين عليه… و عين على (مانكان) كاد يلبس…»[20]

ولا تبقى اللغة في مجابهة الواقع والتفاعل معه، ولكنها تتفاعل مع لغات أخرى، خصوصا الفرنسية مما يخلق نوعا من الهجانة اللغوية هي أصلا تعبير عن هجانة مجتمعية تعيشها فئات مجتمعية عاينت الحضور الفرنسي في المشهد المغربي سواء خلال فترة الاستعمار أوما بعدها، ولاحظت أنه يرتبط بالقوة والتطور والتحرر[21]، لهذا تشبّهت به وتمثّلت تصوراته، ونهلت من لغته مابه تظهر تبرمها من تخلفنا، ورغبتها في التطور ولو كان تقليدا شكليا جزئيا؛ ففي “صولد”، والعنوان مخبر عن الهجانة، ستستعمل الفتاة كلمات فرنسية للتعبير عن حداثتها، هذا في الوقت الذي تعترف هي بإخفاقها في رسم مسار علمي لمستقبلها، وتقرّ بخضوعها لعالم رغم حداثته الشكلية لايرى غير جسدها.

واستعمال اللغة العربية مؤثثة بالفرنسية شكّل ظاهرة تعبيرية تنمّ عن تبرم من الصرامة                   التي اعتمدتها فئات معارضة عندما قرنت بين الدين واللغة العربية الفصيحة[22]. وفرضت قدسية على اللغة جعلت الناس يفرون بأحاسيسهم وتعابيرهم الخاصة إلى الدارجة أوالفرنسية.

كما يدل استعمال الألفاظ الفرنسية في التعبير عن رغبة دفينة، ولو أنها بقيت شكلية، في التطور والتحديث؛ فقد أثقلت الوسائل التعبيرية المحلية بالكثير من القيود والشكليات جعلت عملية التعبير جافة صارمة، لهذا بدأت كل الموجات التعبيرية التواقة إلى التحرر تهرب من هذه الصرامة، وترى في فضاء الآخر التعبيري مجالا قويا للتعبير والبوح؛ فلم تر التلميذة في أستاذها «الأستاذ العزيز» أو «أعز أستاذ» ولكن « مون ميور بروفيسور» ويبدو من الجميل هنا أن نلاحظ جواب الأستاذ على تلميذته؛ يقول: « هناك صادفتها، أو بالأحرى هناك تفاجأنا ببعضنا، ومن النافذة المشعة لسيارتها المتوقفة لتوها، هتفت:

ــــــــ ياللمصادفة الرائعة… !

أنا سعيدة جدا بلقائك أستاذي عامر… مون ميور بروفيسور..

ـــــــ و أنا كذلك عزيزتي بعد كل هذا الغياب الطويل لتلميذتي اللامعة…

قبل أن أضيف:

ـــــــ أنا مغادر كما ترين استعدي لأخذ مكاني… »[23]

فمقابل الاندفاع الشعوري للتلميذة و القوة التعبيرية التي تلبست لبوسا فرنسيا نجد الانضباط والالتزام بالحدود في جواب الأستاذ في «عزيزتي».

إن تحرّر التلميذة ورغبتها في الإفصاح عن ما يجيش في خاطرها جعلها لا تكتفي بوصف اللفظة بالرائعة، بل عبرت عن شعورها اتجاه أستاذها.

ومن الطريف هنا أن نذكّر بمعطيين أساسيين؛ أولهما أن أول رواية مغربية كانت فرنسية اللغة، وأن الأدب المغربي المعبّر عنه بالفرنسية كان الأكثر ظهورا. والأجرأ تعبيرا. وثانيهما أن عبد الكبير الخطيبي في أطروحته اعتبر الأدب المغربي منغلق في عربيته، وأن فرص اختراقه من الداخل ضئيلة، وأن الرهان الأساس من أجل تطويره سيأتي من الخارج[24].

  1. الشخصيات

يميل القاص أحمد طليمات إلى بناء شخصياته وفقا لخاصيات وميزات معينة؛ فإذا حاولنا البحث عن القواسم المشتركة  بين مجمل الشخصيات الموجودة في هذه المجموعة نجد أنفسنا أمام جملة من الخاصيات:

فأغلب الشخصيات الرئيسة مذكرة باستثناء الشخصية في “تركات محينة” و”طقطقات”. وهي شخصيات مثقفة، تحمل وعيا بما يحيط بها وبمجتمعها، وتستطيع رؤية الواقع رؤية إن لم تكن نقدية كما هو الحال مع “أناس من غبار” و”مجذوب من زماننا”، فهي جنسية كما نجد في “في الانطفاء… والاشتعال” و “طقطقات” و” حكاية سخيفة من الماريلاند”، أو هي بوحية تعتصم بالذكرى وألم الفقد. ونجد ذلك في “الجكراندا لا تخلف وعدها” و “ممالك الشعر والطير” و”تركات محينة”.

و خارج هذه الخاصيات المشتركة يمكننا التمييز بين ثلاث أنماط من الشخصيات تراوح المجموعة بينها وهي:

  • شخصية المجذوب في ثوبه الحديث: أي المجذوب الذي يتسلح بجمال لغته من أجل توجيه سياط نقده للمجتمع والناس، نظرا لرؤيته للمجتمع رؤية ماضوية ترى العالم كما كان، وترى كل تحوّل انحراف. وجانب الحداثة في هذا المجذوب هو إدمانه على الطقس الباخوسي واعتبار الندامى وفضاؤهم مجالا للوعظ والإرشاد. والملاحظ أن رؤية المجذوب وكيفية تمثّله للعالم تخترق جزءا كبيرا من المجموعة حيث نجدها في “أناس من غبار” و “رحيل باتجاهين” حيث يقرر المتوحد الرحيل عن المدينة لأنها رحلت عن ناسها. وبذلك تخترق وجهة نظر المجذوب المجال المتواجد فيه صراحة، لتظهر من خلال وعي مركزي[25] تظهر من خلال المواقف والأحداث الموجودة حتى خارج القصص المذكورة.
  • شخصية الرجل رهين ذكرياته: وهو رجل أصبح كل ما يحيط به مسعفا للتذكر واسترجاع لحظات حميمة، جنسية بالضرورة، كما يمكن أن نجد في “الجكراند لا تخلف وعدها” و “ممالك الشعر و الطير”.
  • شخصية الرجل ذي المنظار الشبقي: وهو رجل يرى العالم من خلال حميميات الجسد، ويرى العالم موضوعا جنسيا مفترضا سواء تحقق هذا الموضوع كما هو الحال في “في الانطفاء و الاشتعال”، أو باء بالفشل كما هو في “حكاية سخيفة من الماريلاند” و “دافنشي البارع… دافنشي الخادع”.
  • سيزيف: وهو شخصية أسطورية تم استلهامها ووضعها في مسارات متعددة هي مجمل طموحات وآمال المثقف العربي الحديث. ولايتم هنا إعطاء أوصاف للشخصية، ولكن السارد يكتفي، بدلالة الاسم وإيحاءاته، خصوصا وأن الاختيار هنا يحتم التركيز الشديد على الحدث وتفقير كل العناصر الأخرى.
    1. صورة المرأة:

تحتل المرأة، و بالخصوص جسدها، موقعا مهما في تمثّل الشخصيات وذكرياتها. والنظر في هذا الموضوع يفصح عن وجود صورة لامرأتين؛

الأولى: امرأة شابة جميلة موجودة في الواقع أومنغمسة في الذكرى، وهي أيضا مثيرة نظرا لجمالها؛ يقول: « كان من حظ مائدتنا، نادلة عشرينية، جميلة كانت… بل و كانت من أولئك اللائي يهجمن عليك – بلا سابق انتظار- بفتنة فوق الاحتمال… فلا تملك إلا أن تسبّح للفتنة بكل حواسك، أو تفرّ قبل فرار العقل منك… !»[26]

كما أن علاماتها الأنثوية شديدة التأثير والإيحاء يقول: « متهيجا كنت، محموما و هاذيا، وشاعرها المتدفق كنت: “شفتاك ـــــ مليحتي ــــ بطعم الخبل” ثم نقول القبل، و أردّد:  “وظَلْمُك يافمها بطعم العسل” ثم نقول المزيد من القبل …

و على ضحكاتها، رناتها، أهذي:  “خبل هذا العسل، و عسل هذا الخبل، يا خبلي و ياعسلي…»[27].

وهي ليست متزوجة ولاهي موضوع له، ولكنها جسد جميل يثير شهوة مطلقة، ويقبض على لحظة هاربة.

الثانية: امرأة متقدمة في السن متزوجة ملامحها الجسدية في لحظة الأفول، أو مختفية وراء شخصيتها المتسلطة ولسانها اللاسع. وهي في جميع الحالات ليست موضوع رغبة، وخير ما تفعله الشخصية بإزاءها هو الإبعاد أو الابتعاد؛ يقول السارد وقد عرضت عليه الموناليزا نفسها وأزالت كل الموانع من طريق المتعة: « أجل …كان ارتباكي فوق كل تصوّر، ليس بسبب من الوازع الديني كما تصورت، ولا من الإقصاء الطهراني لنزوة لن تكون إلا عابرة على كل حال … ولكن مصدر الارتباك كان فيما أرى:

غولة بوجه غلامي …

إذ العجيزة، عجيزتها، بحجم كبتنا التاريخي من الماء الى الماء …

والكشح كشحها، بحجم عجلة  مطاطية للنقل الثقيل ..

والثديان، وقد تهدّلا، يبدوان بحجم قِرَب السقّائين وقد تناقص مخزونهما من الماء…

أو كيقطينتين مستطيلتين ضخمتين مجوفتين ذاتي وظيفة تخزينية…

عجزاء في الإقبال وفي الإدبار…

ولحم فوق لحم فوق لحم …

غلام، وغولة، وغلمة متهيّجة مصمّمة على اغتصابي …»[28]

  1. السارد :

يحتل السارد الشخصية، أو السارد المشارك في الحدث، الصدارة في اختيارات الحكي في هذه المجموعة؛ فهو يحكي عن كونه ينقل تجربته وماعاينه أوعايشه، ولعل في هذه الوضعية حميمية أكثر ودفقة عاطفية أقوى خصوصا حينما يتعلق الأمر بالكشف عن تجربة شخصية حميمية، أو حين ينقل ذكرى تغوص عميقا في الماضي ولاتسمح لأشياء الحاضر إلا لتكرس عنف الذكرى وألمها. ويبدو هذا جليا في “أناس من غبار”، و”الجكراندا لا تخلف موعدها”، و” مخلوقات منذورة للمهانة”.

و بجانب هذه الرؤية تحضر الرؤية من فوق حيث يعمد السارد إلى مراقبة العالم من فوق ليجعلنا نركّز على موضوعات مجتمعية مؤرقة، ويلفت انتباهنا إلى وضعيات إنسانية مأساوية مثلما هو الأمر في”كويرات طفل الأوباش”. والملاحظ أن السارد يحتل موقع العارف العليم حين يرصد لحظة مجتمعية في نوع من استحضار دور النخبة المثقفة في التوعية والتوجيه والدفع بها  نحو اتخاذ موقف. وفي هذا استعادة للحظة المجابهة[29] التي عرفتها القصة المغربية خلال الستينات والسبعينات من القرن الفارط.

على سبيل الختم:

وقبل الختم نقول إن مخلوقات أحمد طليمات راهنت على الإمتاع فأمتعت، وقاربت التجريب فنهلت حظا وافرا منه ،وعاينت إحباطات الواقع ففتحت باصرتنا عليه وشاطرتنا رؤيتها له. وقبل هذا وذاك هي تحفة تستحق أكثر من قراءة وأكثر من لقاء.

…………..

*قدمت هذه الورقة في الايام الثقافية الأولى لجمعية أبعادـ مراكش تحت شعار: “احتفاء بالإبداع” من  : 29/05/2010 إلى   01/06/2010  بنادي المدرس  .

[1] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة، منتدى ابن تاشفين، مراك، دت، دط. ص: 15.

[2] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة ص: 16.

[3] ـ المرجع نفسه. ص: 14.

[4] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 19، 20، 21.

[5]  ـ المرجع نفسه. ص: 38.

[6]  ـ المرجع نفسه. ص: 44.

[7] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة ص: 47.

[8] ـ المرجع نفسه. ص: 41.

[9] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 61.

[10] ـ المرجع نفسه. ص: 73.

[11] ـ المرجع نفسه. ص: 13.

[12] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 84.

[13] ـ المرجع نفسه. ص: 87،88.

[14] ـ المرجع نفسه. ص: 88،89.

[15] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 111.

[16] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 13.

[17] ـ المرجع نفسه. ص: 15.

[18] ـ المرجع نفسه. ص: 13.

[19] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص:17، 18.

[20] ـ المرجع نفسه. ص: 74، 75.

[21] ـ تشير الباحثة رحمة بورقية إلى كون اللغة تعكس فروقا بين الفئات الاجتماعية والجهوية،  وتفصح عن موقع المتكلم داخل السلم الاجتماعي. كما أنها، داخل المجتمع،  تكتسب قيمة اجتماعية أو تفقدها. انظر: رحمة بورقية، التعدد اللغوي بين المجتمعي والسياسي، مجلة المدرسة المغربية، العدد: 3، مارس 2011. صص:13ـ 41.

[22] ـ انظر: رحمة بورقية، التعدد اللغوي بين المجتمعي والسياسي، مرجع مذكور.

[23] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 76.

[24] ـ انظر: Abdelkébir khatibi : roman maghrébin et culture nationale. Souffles; numéro 3, troisième trimestre 1966, pp. 10-11.

[25] ـ فيما يخص “الوعي المركزي” انظر: قاموس السرديات …ص: 29.

[26] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 31.

[27] ـ المرجع نفسه. ص: 95.

[28] ـ أحمد طليمات، مخلوقات منذورة للمهانة. ص: 61.

[29][29] ـ انظر: محمد برادة، لغة الطفولة والحلم قراءة في ذاكرة القصة المغربية، تحليل نماذج قصصية، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، الطبعة الاولى، 1986. ص: 18.

 

 

مقالات من نفس القسم