محمد فرحات
سمع مناديا ، فإذا به قائد الحراسات الخاصة بوزارة الداخلية ، يطلب من سيدي إبراهيم الدخول على أمه الزكية ، فيسرع سيدي إبراهيم طارقا على باب خلوتها مخبرا برغبة مريدها اللواء المرموق ، فأمرته بإكرامه، والانتظار قليلا …
فجاء بصفحة الخدمة، جبنة بيضاء ، و دقه ، وخبز يابس ، جرير و عودين خس ، وجلس بجانب اللواء يصنع له قهوته على السبرتايه. أشرق وجه اللواء سعادة ورضا، وأقبل على الطعام بشهية أدهشت عم إبراهيم فنظر إليه متعجبا، وهو يقلب القهوة على مهل شديد …فلاحظ اللواء ذلك…
-” عارف يا إبراهيم، والله لولا الوظيفة كنت قلعت البدلة دية، واشتغلت تحت إيدك في المطبخ ، أمتى ياشيخ اطلع معاش! “
ولما فرغ من طعامة بعد أن أتى عليه كله ، صب عم العمدة القهوة وناولها له …وانصرف ثانية يستأذن على الزكية ، فأمرته بأن ينتظر ، فرجع متحرجا ، فوجده قد غادر بعدما فرغ من قهوته ، فحزن عم العمدة إشفاقا على كسر خاطر اللواء الكبير …
وانصرف إلي المطبخ لإعداد وجبة الغذاء…وبعد مرور ساعتين أرسلت إليه الزكية ، فترك ما في يده و دخل عليها الخلوة…
– نعم ، يا أمي…
– أنت زعلان علشان الراجل مشي ؟
– أه ، زعلان بصراحة …
– ياولدي أنا مدخلتوش علشان مصلحته …
-مصلحته ، مش فاهم يا أمي…
ابتسمت الزكية، وأخبرت عم إبراهيم بأنه سيرحل مع نفحتها إلى السنطة – غربية ، ليقابل سيدي أبو عمار ويسلمه نفحتها، فصدع عم إبراهيم بالأمر، وبعد تقديم الغذاء، وصلاة العصر في مقام مولانا الحسين توجه بالنفحة للغربية ، وكان سفرا صعبا للغاية انقطعت سيارات الأجرة المتوجه من القاهرة للغربية لسوء الأحوال الجوية ، فكان عليه أخذ القطار الذي تأخر عن ميعادة، وقد انتصف الليل تماما ، ليصل الغربية الثانية صباحا ، نزل بالنفحة الثقيلة إلي محطة طنطا، وقد خلت تماما من المسافرين و الحمالين ، فحمل الجوالين الثقيلين إلى مخرج المحطة يريد تاكسيا يوصله للسنطة ، ليتغير المناخ فجأة؛ وتبرق السماء، وتهطل أمطار “يناير” الغزيرة، وتنقطع المواصلات تماما ، تأخذ الحيرة عم إبراهيم الغريق في برك الأمطار، المرتعش من برودة الجو، المبلل تماما من رأسه إلى قدمه ، يبحث عن أى مظلة يستظل بها حاملا الجوالين على عاتقه …فإذا بمكاري يقطع بركة الأمطار بعربته الكارو، يشق صمت مدينة طنطا بصوته الأجش …
“حبيتك ليه ما اعرفش
إيه ذنبي إيه ما اعرفش
واتمنى أسيبك مقدرش ..”
ليقطع عليه عم إبراهيم انهماكه في الغناء …
-أنت ياعم ياللي مانتش عارف استنى…!!
ليقف المكاري …
– توصلني السنطة ياعم ؟
– السنطة مرة واحدة …ليه رايح لمين الساعة دية؟
– معايا أمانة لعم الشيخ أبي عمار …
-مدد يا أهل الله …
ليقفز المكاري العملاق من عربته الكارو، ويحمل الأجوله، ويحملها على عربته، ويقفز عم إبراهيم بجانبه …وتنطلق الكارو نحو السنطة، وينهمك المكاري العملاق في أغنياته تحت المطر الغزير …يصلا السنطة، وقد أذن الفجر على أعتاب خلوة أبي عمار …يضعا الاجولة، وينصرف المكاري بعد أن تسلم أجرته…
يطرق عم إبراهيم على خلوة أبي عمار، وكانت دارا صغيرة بالطوب اللبن مسقوفة بجذوع أشجار، وقش. وتحيط بها الحقول من كل جانب ..يطرق عم إبراهيم ثانية، فيأتيه صوت أبي عمار ويأمره بالانتظار ، ينتظر عم إبراهيم، يبحث عن ماء ليتوضأ ، فيتوضأ من قناة ري ضيقة ، ويصلي على أعتاب خلوة الشيخ المغلقة، ويستغرق في تسبيحه حتى تتسلل أضواء الصبح متثائبة ، و تنطلق الطيور من أوكارها مغردة ، وينتشر شذى التراب المختلط بماء المطر، ورائحة نوار البرسيم الغض ، و نوح السواقي ببكاءها الشجي منادية على حبيب نسي موعده و طال انتظاره ، ويطرق عم إبراهيم ثانية ، ليأتيه صوت الشيخ …
– اصبر ، هو أنت علشان عمدة مستعجل أوي، اصبر صبر اللوا لما انتظر ، وطال بكاه على الاعتاب، لا حس ولا خبر …!
تذكر عم إبراهيم ، الذي سيلقب بعد ذلك بالعمدة طيلة حياته ، مشهد اللواء المنهمك في أكل الجبن والخبز والجرجير ، ويفتح الباب ويخرج خادم بطبلية صغيرة عليها الجبن، والخبز، والجرجير، و أعواد الخس ، وبراد شاي ينطلق بخارة مستجيرا من برودة الصباح الندي …
بيقولك عم الشيخ “انتظر ياعمدة و تفضل و أهلا وسهلا بابن الزكية و نفحة الزكية ..” يحمل الخادم الجوالين ليدخل بهما إلى الدار وسط تعجب عم إبراهيم مما يحدث …
وبعد انتصاف النهار يُأذن لعم العمدة بالدخول على الشيخ ليستقبله مرحبا ضاحكا…
– أوعى ياعمدة تكون زهقت من الانتظار…
– لا ياعمي أنا خدامك ..
– احنا بنأخركم ساعات خوفا عليكم من أحوال لاتحتملوها، وأنوار حضور قد تذهب بعقولكم، فعذرا على طول انتظارك …
وهنا يفهم العمدة الدرس جيدا …
ويبادره سيدي أبو عمار بالمفاجأة …
– عندك جواز سفر يا عمدة …؟!
-لا يا عمي …
– طيب لما توصل مصر بإذن الله طلعه علشان أنا عزمك معايا على العمرة ، فاهم يا عمدة …
يكاد الفرح يطير بعم العمدة ليقوم مقبلا أبو عمار الضاحك ، شاكرا باكيا من وقع المفاجأة…
– أنا هسافر معاك علشان بس أشيلك شنطك …
– ده أنا إللي أشيل شنطك يا حبيبي يا عمدة يا ابن الزكية ..أنت ياولدي لسه مش عارف انت مين ؟! …
تمسح الشمس حبات المطر الينايري المداعب لجبينها المغطى بسحب نهار يشكو لها قصر عمره ، وتستعد لهجعتها على فراشها المخملي المنسوج بخيوط نور الغروب الأحمر ، لتربت على عاتق النهار الراحل مواسية ، ولتسرع العصافير إلى أوكارها لاهجة بتسبيح متعب خافت ، لتحتضنها الأشجار بحدب أم عطوف تحكي لها قصصها المسائية، ” كان ياما كان ، وما يحلى الكلام إلا بالصلاة على سيدنا النبي العدنان ، حكى لي هدهد قادم من بلاد الشهداء ، يلتف أهلها الوادعون كل يوم حول روضة من رياض آل البيت لشهيد ، من بني عمومة النبي صلى الله عليه وسلم ، واسمه الإمام محمد بن الفضل بن العباس ، جاء فاتحا لتلك البلاد المحصنة بحصون الرومان المنيعة العالية ، أحبه أقباطها ، لشجاعته وعدالته ولوسامة النبوة وبهائها ، ينام في حجر النبي المتيم بأبنائه من آل بيته كيف وقد عوضه الله بابن حبيبه الفضل ، وعيناه صلى الله عليه وسلم مازالتا مشحونتين بدموع الرحمة و الحزن على فراق ولده إبراهيم عليه السلام، يتعثر الحسين في مشيته خلف الحسن المسرع نحو جده ، يبكي الحسين ، ينهض النبي حاملا ولد عمه ابن الفضل الرضيع ، ليحتضن الحسين الباكي ليجاور ابن الفضل محمدا ، ليناما على صوت تسبيح قلب النبي ، يضحك الحسن على منظر النائمين المتجاورين ” يا أبه ، شاقني النوم بجوار أخوي …” ، يبتسم النبي كشمس فتية وكبدر وليد ، ويرفع يده داعيا لأبنائه الشهداء الثلاث ، ” قد اشتاقت لكم جنات ربي ، فكيف لايشتاق إليكم جنبي …”
تبتسم الشجرة الأم لنوم العصافير في غطيط مسموع ، تحتضنهم بغصونها ، وتغطيهم أوراقها، ” أكمل لكم الحكاية ، مساء الغد …”
يسارع العمدة للزكية بعد تلك السفرة للغربية ، فرحا بمنة الله عليه بالعمرة مع واحد من صالحي عصره ، يخبرها بما حدث مع أبي عمار و بتفاصيل رحلته ، وبحاجته لجواز سفر، لو سمحت له الزكية و أذنت بمصاحبته للشيخ ” ياولدي هو أنت مش كل ليلة بتزور و تطوف ، أنت ما بتشبعش خالص من نور جدي ؟! ..” ، ” لا ، يا أمي ما بشبعش ، لكن لو أمرتيني بعدم الذهاب والله ما ذهبت…” ، ” صادق ياولدي ، ربنا يرزقك الصدق ..”
تخرج الزكية من درج مكتبها جواز عم العمدة ” أمال إيه يا ولدي ، إللي يخدم ينخدم …”
تتهادى الباخرة في عباب خليج السويس مرسلة نظرات وداعها شواطئ المحروسة بآل بيت النبي ، مقبلة بناصيتها نحو الحجاز المنير بالنبي ، وعم العمدة يلح في السؤال على أبي عمار ، ” هنبدأ بجمال سيدنا النبي، ولا بجلال بيت رب سيدنا النبي …؟!” ، فيطرق أبو عمار متعجبا من بلاغة وحكمة العمدة ” ياواد ، ده أنا كده مربتش خالص ، هي أمك مربياك إزاي، وعلمتك إزاي…؟!!”
” بكلمتين مفيش غيرهم يا سيدنا ، اتق الله ، يعلمك الله ، كل الحلال ، تفض عليك أنوار الحكمة …” ، ” صدقت الزكية بنت الحسين ، يعني هتجيبوا منين؟ !!” يضحك أبو عمار ” لا، ياعمدة مسار الرحلة مكة الأول ثم المدينة ..”
يعبس العمدة ” يعني ما ينفعش المدينة الأول ثم مكة …” يبتسم أبو عمار ضاحكا من لهفة العمدة ” لا ياعمدة ، وبعدين عندك قبطان الباخرة اتفاهم معاه …!!” ،” لا قباطين و لا ريسا …، أنا عندي إللي بتفاهم معاه …!، طيب يا سيدي مش هدخلني الخدمة …؟” ، ” ابن الزكية ما يخدمش في خدمتنا ، ابن الزكية يتخدم، وينشال على الروس …”.
ماذا عليهم لو بدأوا بزيارة سيدنا النبي ، هكذا قواعد الأدب يطرق على الباب أولا، ثم يؤذن بالدخول ، ألم يقل رب العزة ” وأتوا البيوت من أبوابها…، وروضة النبي هي باب بيت رب النبي … هكذا كانت أنفاس سيدي العمدة وأفكاره، وهو يجول بنظره بعيدا في تلك الأمواج المتلاطمة في رتابة أزلية تعلو تارة وتنخفض أخرى، ولكنها لاتتوقف ، كذلك الحياة في سيرورتها ، حتى يأذن الله بنهايتها …” يا أمي واخداني فين ؟” ، ” النهاردة أول يوم لك في المدرسة الإلزامي يا إبراهيم…” ، ” و أروح ليه بس يا أمي، زعلت مني عشان اتخنقت مع عيال شارعنا …”، ” نعم ، زعلت منك ، مش احنا متفقين تكون ديما في الكوم الناقص ، و متفرطش في ميراث الأدب…”، ” طيب خلاص ، مش هتخانق تاني بس بلاش المدرسة الإلزامي دية …” ” لا، يا إبراهيم لازم تتعلم إحنا ياولدي لا عندنا أرض ولاتجارة ، أبوك الله يرحمه ما سبلناش غير الستر…”.
يدخل الطفل إبراهيم المدرسة ، لينتهي اليوم الدراسي ، ويخرج ليجد أقرانه وقد انتظرهم آبائهم، وهو لم ينتظره أحد، يشعر في أول مرة بمرارة اليتم والفقد ويسير وحيدا لداره بقرية ميت شهالة ، التابعة لمركز الشهداء …، يمر على مسجد سيدي شبل محمد بن الفضل بن العباس ، يدخل الضريح ، يلتصق بنوره الأخضر الشفيق ، يهمهم بالفاتحة ، يغلبه البكاء، تطول الوقفة ، ويسرد شكواه ، وعلى مد بصره المستغرق في نور الروضة بكليته ، وبين أربعة أعمدة رخامية ، خلف باب خشبي عملاق ، يقف صفين من الرجال ، تعلوهم هيبة الجلال ، و جمال البهاء، كلهم يرتدي عمامة خضراء ، إلا واحد يفوقهم جمالا وجلالا ، ليستحيل نور الضريح الأخضر لنور أبيض، تعلوه عمامة حمراء، ينظم الصفوف ، ويمد يده ليد إبراهيم ، يد ناعمة كالديباج ، دافئة كشمس الشتاء ، ويحتضن الطفل إبراهيم بابتسامة تملأ وجهه البهي ، ليظهر درها المنضود ، يأخذ إبراهيم ليقف بجانبه وسط الصفين ، يأخذهم وجد الذكر ليتمايلوا، كأغصان ياسمين، ينتشر شذاها ويملأ الأكوان، يمسح الرجل برأس إبراهيم، ليلتفت إليه و يقول ” من أنت ياعم ؟” فيبتسم الرجل رحمة تحتضن الفتى ” أنا كفيل اليتامى يا إبراهيم …”
تمسك بكتف إبراهيم و تجذبه ” كده إبراهيم…كده يا ولدي تتأخر كل ده ، أنا لفيت عليك البلد كلها …”
” هو مين كفيل اليتامى يا أمي…؟”
تختفي سحابات الغضب المسيطرة على ملامح أمه وتهمهم ” صلى الله عليه وسلم ، ده سيدك النبي ياحبيبي ” تحتضنه و يتوحدا في نغمة بكاء عذبة …
” السيدات و السادة ، يأسف طاقم الباخرة ، لتحول مسار الرحلة المقرر وصولها لجدة ، إلى ميناء ضبا ، لعدم توفر أرصفة خالية بميناء جدة ، تتمنى إدارة الباخرة لكل ركابها زيارة مقبولة لساكن المدينة صلى الله عليه وسلم …”
يهتف العمدة سعيدا ، صلى الله على سيدنا محمد ، صلى الله عليه وسلم .. وإذا بأبي عمار خلفه ضاحكا ” غيرت مسار الرحلة يا عمدة …” ، فيجيبه العمدة ” هنعمل إيه بقى، الحب كده …!!”
يتوجه الزوار نحو طيبة، ترحب مآذن المسجد ، تبتسم القبة الخضراء ، يقف العمدة وأبو عمار في مقدم الفوج أمام روضة النبي ، تشير الزكية المتدثرة بعباءة سندسية خضراء ، “قل ياولدي ..” ، تتحول جهامة العسكري الواقف أمام الروضة ، لحنين وإشفاق وترحاب ، ويشير لسيدي إبراهيم داعيا، ” قل ياعمدة ..” و في وسط ذهول الجميع ، يبدأ العمدة بإنشاد صوفي يذوب له الجميع حنينا ، وفي نهايته يمسح الجميع دموعهم …ليهمس أبوعمار في أذن العمدة…
” رحمك الله، و رحم أمك…كده تبوح بالسر ياولدي…” ..
” هي إللي أمرتني يا سيدنا “.