علي حسن
بهاء طاهر؛ مصري متعدد المواهب، هادئ الطباع، مبدع في كل مجال اقتحمه، معتز بتجاربه، قابض على الأمل بنواجذه طوال عمره المديد، صادقًا في كل ما قدمه لنا ولوطنه مصر وأمته العربية.
بَنى “بهاء طاهر” حياته على أعمدة ثلاثة، لا رابع لهم، بناها على أساس من “الصدق والحزن والأمل”!
كان صادقًا في كل وظيفة شغلها واقتات منها، صادقًا في كل أعماله الإبداعية، وترجماته القليلة التي تصدى لها، وأفكاره التي طرحها علينا في كتاباته ومقالاته ولقاءاته! بينما الحزن كان خارجًا عن سيطرته، متحكمًا في مقاليد حياته، إذ يقول لنا: “الموت رفيقي طوال حياتي” منذ نعومة أظافره، فقد العشرات من عائلته الكبيرة في الأقصر، وتحديدًا الكرنك، إذ اجتاحت الملاريا عام ١٩٤٢ كل قرى صعيد مصر، وأفقده الوباء الكثير من الأعمام والأخوال والعمات والخالات وطال أقاربه وأصدقائه، ثم اقتحم الموت داره، وفتك بأفراد أسرته المباشرة، واحدًا تلو الآخر، فلا يمضي عامٌ إلا وفقد عزيزًا عليه، وانعكس ذلك على نبرات صوته الهادئة الهامسة المتزنة، ويظهر الألم والحزن في أعماله الأدبية، رغم أنه أكد في لقاءاته، عشقه للأدب الساخر، وأنه يحب القراءة للكاتب الأمريكي الساخر “مارك توين” ويبدأ يومه بقراءة “نص كلمة” للأستاذ “أحمد رجب” المعروف بسخريته اللاذعة، كما أن النكتة تطربه ويحب البهجة لكن ظروف حياته لم تساعده، فهو المفتقد لأحبابه، المسافر والمغترب دائمًا، المفصول من عمله، المحبط في تطبيق أفكاره القومية، غير القادر على تحقيق ما يتمناه لوطنه، ومع ذلك تمسك بهاء طاهر بالحلم، فلم يتنازل عن الأمل، ودافع عنهما حتى الرمق الأخير!
إن الذي يتصدى للكتابة عن الأستاذ بهاء طاهر (١٣ يناير ١٩٣٥-٢٧ أكتوبر ٢٠٢٢) تصيبه الحيرة، وتتفرق به السُبل، ليس لغموضٍ في حياة هذا الإنسان الواضح الصريح كالشمس، وإنما لتعدد ثقافاته واهتماماته وهواياته وإبداعاته. كما أن مقالة أريد أن أسجل من خلالها تقديري لهذا الإنسان العظيم، تبدو عاجزةً عن الإلمام بكل جوانب عبقريته وتفرده، رغم أن تراثه ليس ضخمًا كتراث الأستاذ “نجيب محفوظ” أو متنوعًا كتراث الدكتور “طه حسين” أو بالغ الصيت والتأثير كتراث الدكتور “يوسف إدريس”! لكن تراث هذا الرجل يمتاز بالجدية والتركيز والصفاء، فهو يؤمن بمقولة أستاذه “يحيى حقي” الذي كان يحبه كثيرًا:
“خيرٌ لي أن أكون مُقِلًا، عن أن أكون مُدلسًا!” ولهذا يقول بهاء طاهر: “يصيبني الرعب في أن أكون مكررًا لتجربة أو فكرة سواء في قصة أو رواية، لهذا أنا مُقل كثيرًا في كتاباتي”.
نجده في أعماله الأدبية يتجه مباشرة إلى الفكرة والغرض المقصود من العمل، مُبتعدًا عن الثرثرة، ساعيًا إلى جعل اللغة والموضوع كيانًا واحدًا، مما دفع بعض النقاد إلى اتهام لغته بأنها لغة الحياة اليومية أو هي لغة صحافية، لكنه أراد في كتاباته تغيير ذلك الاعتماد على اللغة كشكل جمالي بعيد عن “العمق والتكثيف” وخَلقْ وظيفة جديدة للغة تربط بين مفرداتها والموضوع مباشرة، لهذا كان مفتونًا بأسلوب الأستاذ “يحيى حقي” ويعتبر لغته هي اللغة المثالية لفن “القصة القصيرة” لأنه مع بساطة أسلوبه كانت لغته قوية، بعيدة عن الترهل والعاطفية السهلة والفجة.
لقد ظل الأستاذ بهاء طاهر يفتخر بأنه على قدر افتتانه بأسلوب كبار الأدباء في عصره والعصر الذي سبقه، إلا أنه لم يقلد أحدًا منهم في طريقته وإسلوبه، وكان دائم الإشارة إلى أن الأديب “يوسف إدريس” قال عنه عندما قدمه للقراء من خلال أول قصة قصيرة تُنشر له في مجلة “الكاتب”: “هذا الأديب لا يستعير أصابع غيره” ويعتبر هذه الشهادة هي أرفع وسام حصل عليه خلال مسيرته الأدبية!
أخذني التيار الجارف للروائي والقاص بهاء طاهر رلى الحديث عن أدبه ولغته، منحرفًا -دون قصد- عن الإبحار في تجربته الإذاعية، التي أراها شديدة الأهمية ومن الخصوبة بمكان يجعلها جديرة بالاهتمام وتسليط الضوء عليها، لأنها ليست تجربة مذيع يقرأ الورق الذي أمامه، وإنما هي تجربة تأسيس وتثبيت، ومحاولة تغيير أفكار وثقافة المجتمع!
حصل الأستاذ بهاء طاهر على شهادة الليسانس في التاريخ من كلية الآداب، إذ كان عاشقًا للتاريخ، رغم حبه الشديد للأدب، وميله إلى اللغة. بعد تخرجه في جامعة القاهرة عام 1956، عمل مترجمًا في الهيئة العامة للاستعلامات بين عامي (١٩٥٦- ١٩٥٧) وفي هذه الفترة تحديدًا، لم تكن الإذاعة المصرية سوى البرنامج العام وصوت العرب، لهذا قررت إنشاء “البرنامج الثاني” وكان الغرض الأساسي من هذه المحطة، نشر الثقافة والارتقاء بالمستوى المعرفي بين جميع أطياف الشعب المصري، لصبح “مستمع البرنامج الثاني هو نفسه مستمع البرنامج العام”.
التحق الأستاذ بهاء طاهر بـ “البرنامج الثاني” بعد شهرين فقط من إنشاء المحطة الوليدة عام ١٩٥٧، حيث لم يشرع القائمون عليه في تنفيذ الخطة الثقافية، ولم يبدأ “البرنامج الثاني” في التأثير على المستمعين، لهذا فإن “بهاء طاهر” يُعَد من الذين ساهموا في تأسيس هذا الصرح الثقافي العظيم مع الأساتذة سميرة الكيلاني ومحمود مرسي وصلاح عز الدين وفؤاد كامل، كل هؤلاء بقيادة الإعلامي الكبير “سعد لبيب” جعلوا من “البرنامج الثاني” محطة ثقافية عظيمة ينصت إليها الشعب المتلهف إلى الثقافة والفكر والأدب، حيث كان ميلاد “البرنامج الثاني” متزامنًا مع النهضة الوطنية، وبناء السد العالي، والسعي نحو الازدهار وبناء القلاع الصناعية الكبرى، والرغبة في بناء الثقافة العربية التي تليق بكل هذه النهضة.
يقول الأستاذ “بهاء طاهر” في أحد حواراته الإذاعية: “لم تكن هناك إغراءات مادية، ولكن الذي جمع بيننا في البرنامج الثاني هو حب الثقافة، ورغبتنا في أن نشارك في خدمة المجتمع ونشر الثقافة بين المواطنين، ولهذا جاء معنا متطوعون مثل الإذاعي فاروق شوشة، عباس أحمد، فاروق خورشيد، لكن رغم وجود الأمل، وانتظارنا لمردود عظيم من هذا البرنامج، لم يتحقق الغرض الأساسي منه. لقد كان المرتب الشهري ١٨ جنيهًا، وكنا نعمل منذ الساعات الأولى للصباح وحتى منتصف الليل، لكن التجربة أُجْهِضت، والحلم تبدد نتيجة لكيد أنصاف المواهب، الذين اتهموا القائمين على “البرنامج الثاني” بأنهم يروجون إلى الشيوعية،
وأن “البرنامج الثاني” يضطهد الليبراليين ويساند الشيوعيين! لكن البرنامج استمر في تقديم خدماته الثقافية بعد التحقيقات والمراقبة، وكانت الأجهزة الأمنية والرقابية أكثر إنصافًا وأشد رحمة من بعض المثقفين أنفسهم!”.
لم تكن تجربة الأستاذ بهاء طاهر في البرنامج الثاني تنحصر في تقديم البرامج الثقافية فقط، وأرشيف الإذاعة يضم عشرات بل مئات الحلقات الإذاعية التي قام الأستاذ بتقديمها، وإنما استمعت أيضًا إلى عدة مسرحيات وأعمال درامية إذاعية قام بإخراجها، ويستطيع القارئ أن يستمع إليها عبر الموقع الرسمي لـ “الهيئة الوطنية للإعلام” على اليوتيوب.
في عام ١٩٧٣ حصل الأستاذ بهاء طاهر على “دبلومة الدراسات العليا في الإعلام شعبة الإذاعة والتلفزيون” وبعد ثمانية عشر عامًا قضاها في رحاب الإذاعة المصرية، مُنع الإذاعي والكاتب بهاء طاهر من الكتابة والعمل بالإذاعة، بقرار من الأديب “يوسف السباعي” الذي كان يشغل منصب وزير الثقافة بين عامي (مارس١٩٧٣- ١٨ فبراير ١٩٧٨) فاضطر بهاء إلى الرحيل عن مصر، والسفر إلى بعض الدول الأفريقية والأسيوية كمترجم يتبع الأمم المتحدة، ثم انتهى به المطاف في العاصمة السويسرية “جينيف” حيث عمل مترجمًا هناك بين عامي (١٩٨١-١٩٩٥) بعدها عاد إلى مصر، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام ١٩٩٨، ثم حصل على جائزة مبارك للآداب عام ٢٠٠٩، لكنه رد الجائزة لمبارك في يناير ٢٠١١ قائلًا: “إنني لا أستطيع الاحتفاظ بجائزة تحمل اسم مبارك، المتورط ونظامه في إراقة دم الشرفاء”.
يكتشف القارئ مع الأستاذ بهاء طاهر أن حياته من منظور إعلامي وإذاعي شديدة الثراء، وكذلك فهي من منظور الأدب والإبداع أشد ثراءً، وبداياته مع الكتابة مثيرة ومحفزة، وهو لا يبخل علينا بسرد خبراته، بل ودائمًا ما كان يعيب على الصحفيين والنقاد اهتمامهم به وبغيره من كبار الكتاب، ويرجوهم بأن يلتفتوا إلى شباب المبدعين قائلًا: “نحن نقول “السلام عليكم” ونشد الرحال كي نرحل، اذهبوا إلى الشباب القادمين فهم أحق بالاهتمام والدعم والإشادة!”.
لم يسلب الأستاذ “بهاء طاهر” حق أحد في النجاح، ولم تسحره الأضواء، ولم تكن له جوقة تدعو له كما يفعل البعض، وكما ادعت عليه إحدى الكاتبات زورًا وبهتانًا بعد وفاته! بل كان زاهدًا في الثناء، خجولًا متواضعًا.
في أحد حواراته التلفزيونية، سأله أحد الصحفيين عن رأيه في الأستاذ “يوسف السباعي” فأجابه بلغة الفارس النبيل: “هو الذي أبعدني عن العمل.. ولهذا فإن شهادتي فيه لن تكون موضوعية أبدًا.. اعتذر عن الحديث عنه!”.
أما عن الكاتب الكبير “نجيب محفوظ” فيقول عنه: هو “الأستاذ”.
اكتفى بهذه الإجابة، لكنه في لقاءاته وأحاديثه كان يعترف بهذه الأستاذية، وشهد بأنه كان شديد التنظيم، صاحب سيناريو مُسَّبق لرواياته، يتسق مع منهجه في الحياة. يقول بهاء طاهر:
” الأستاذ “نجيب محفوظ” كان لديه مسودات لروايته “بين القصرين” في الثلاثية، وسجل الشخصيات في أكثر من “كشكول” كل شخصية رسم لها دورها، وحدد لها البداية والنهاية، ولا يصلح لمثل هذه الأعمال الملحمية سوى هذا النهج، لأنك لا تستطيع الاعتماد على ذاكرتك في عمل ملحمي يتجاوز الأجيال”.
كان “بهاء طاهر” على العكس من ذلك تمامًا، وكثيرًا ما بدأ كتابة “قصة قصيرة” ثم تتحول هذه القصة إلى رواية طويلة، ثم تتطور الشخصية الثانوية إلى شخصية محورية، ربما لم يرد ذلك بخاطره على الإطلاق، كما حدث في “خالتي صفية والدير” يقول:
“خالتي صفية والدير كانت قصة قصيرة موضوعها المقدس “بشاي” وصفية كانت شخصية ثانوية، فإذا بها تفرض نفسها، وتنفرد بالأحداث، وتتحول القصة إلى رواية! إن الأديب لا يملك السيطرة الكاملة على العمل الأدبي، والكاتب العاقل هو الذي يترك الشخصيات تفعل ما تريد، فلا يفرض عليها قيودًا حديدية، تحدد مجرى حياة الأشخاص، إنني أثناء الكتابة أدع الشخصيات والأفكار تأخذ مجراها الطبيعي دون تدخل مني، وأحيانًا لا أعرف الجملة التالية!”
أخيرًا فإن وصية الأستاذ بهاء طاهر لنا وللأجيال القادمة: “الثقافة.. عليكم بالثقافة.. فهي الوحيدة القادرة على تحقيق نهضة الأمة، لا أقصد بالثقافة الأدب والموسيقى، وإنما الفكر السائد في المجتمع والأدب أحد مظاهره، ما أقصد بالثقافة هو السلوك، هو النظافة، هو حب العمل، هو احترام الوقت، ثقافة النزاهة والشرف.
في اليابان “النزاهة تساوي الحياة” وإذا اتُهِم مسئول في نزاهته، أنهى حياته منتحرًا، لأنه فقد المعنى الحقيقي للحياة! إن الانتصار يبدأ بالثقافة والانهزام يبدأ بالثقافة”. رحم الله الإذاعي والمترجم والأديب “بهاء طاهر”.