تُستهل المجموعة بقصة “الياسمين الشائك”، وفيها تتجلى قدرة الكاتبة على التكثيف الدرامي والغوص عميقا في أعماق الشخصيات المحورية، بل والثانوية أيضًا. تدور القصة من منظور الساردة/الراوية “ياسمين”. ومنذ السطور الأولى يطرح السرد التناقض بين الأختين، الكبرى “هند” والصغرى “ياسمين”، فتعزي جمال الأخت الكبرى إلى ثمار المانجو الهندي، التي توحمت عليها الأم في حملها الأول، وفي غير أوانها. تحكي الراوية عن أمها فتقول: (“هند” أو “مانجايتي”، كما تناديها ماما، أجمل وأكثر سحرًا من فاتنات مجلات الأزياء النسائية الشهيرة، وهذا مع جعل خطابها يصطفون على الباب.) وبذلك تمهد الراوية إلى مدى التناقض بين أختها الكبرى وبينها، ذلك التناقض الذي يجسده الفرق بين المانجو والسردين: (أثناء حملها بي توحمت على سمك السردين…. وإمعانًا في تحاشي الزفارة اختاروا لي اسم “ياسمين”.)
تستغرق هذه القصة في تفاصيل حياتية صغيرة لأسرة صغيرة فقيرة غيَّب الموت عائلها، فاضطرت الأم إلى الاتجار بجمال الابنة الكبرى بأن تغالي في المهر على خطيب إثر آخر، محتفظة بالشبكة والهدايا بعد فسخ كل خطبة. لا تخلو التفاصيل الصغيرة من مرارة الفقر والإحساس بالظلم، ولكنها أيضًا لا تخلو من سخرية لاذعة تبعث على الضحك والبكاء في آن. تنجح الإبنة الصغرى في حماية نفسها باكتساب خبرات جديدة تعلمتها في المدرسة الثانوية ومن حكايات بناتها، إضافة إلى مهارات الدفاع عن النفس و(لعبة تحويل البوصة إلى عروسة بأبسط الأدوات.) ومع ذلك كان ثمة شئ بداخلها يفضل الابتعاد والاختباء وراء كاميرتها، تصحبها هنا وهناك، وتصبح أحب الصور إلى قلبها تلك )التي تُظهر ذكاء سردينة صغيرة تنجح في المروق سالمة من هجوم شرس لعدد من الدلافين الضخمة)، في إيحاء إلى تمكن “ياسمين”، أو “السردينة الصغيرة” كما كانت تناديها أمها، من إنقاذ الأسرة من لسان الجارة الثرثارة، التي انزلقت فوق قشرة الموز وانكسرت ساقها، ومن العم الجشع الذي استولى على ميراثهم، ثم عاد صاغرًا يسلم أمها حقهم كاملًا: ( عندما سيأتي عمي ويسلم أمي حقنا كاملًا فسأشاركها دهشتها وفرحها ولن أذكر شيئًا عن العاملة الشابة الغلبانة التي أحتفظ بصور عمي باركًا فوقها في خلفية الدكان…. وكان الأفضل أن يعيد المال لأصحابه.) تزخر قصة “الياسمين الشائك” بالتفاصيل الصغيرة التي تسهم في بناء درامي متطور ومتماسك وترسم شخصيات عميقة الأثر لها مذاقها الخاص.
ويظل الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة من أهم سمات قصص هذه المجموعة القصصية، إلا أن معظمها يدور في أجواء سريالية، تتداخل فيها مشاهد من الواقع مع كوابيس الأحلام. ومن ذلك قصتها “عن ترميم الأحلام”. ففيها يتقافز السرد بين الماضي والحاضر، وتتشابك مشاهد من هنا وأخرى من هناك، يتجاور فيها الواقع والخيال، وتتداخل الأحلام مع الكوابيس. يلتقي الراوي بحبيبة صباه في بهو إحدى المستشفيات، يدهشه ما بدا عليها من تغير ملحوظ: (ضغطت يدها وهمست: كنتي فين؟… لكنها ظلت صامتة، تراقب شرخًا في زجاج إحدى النوافذ ببهو المستشفى حيث التقيتها مصادفة…) يعود إلى منزله ولا يستطيع أن يكف عن التفكير فيها، ولكنه يعجز عن تذكر ما حدث. تأتيه مشاهد علاقتهما الماضية في المنام على هيئة كوابيس، فيدرك أنه في لقاء بينهما، هاجمهما أحد شباب القرية، ضربه واغتصبها، ويدرك القارئ أن ذلك الشرخ الذي كانت ترقبه في إحدى النوافذ لم يكن إلا دلالة رمزية لشرخ في حياتها وفي علاقتهما: (أضرب رأسي في الحائط، ولا أنجح في التذكر… لذا ألقيت بنفسي في أتون الكابوس الثاني عشر…. آراني مقيدًا إلى جذع الكافورة فاقدًا للوعي، أهزني بقوة حتى أفتح عيني، أتلفت فلا أجد ندى ولا الرجل “إياه”… أحاول فك قيدي فلا أفلح، يأتي أنينها في أذني مختلطًا بالعواء الخافت، الآن فقط أدركت أني لم أكن هدفه.) وتنتهي القصة بغموض تغلفه أجواء سريالية. فبعد أن تذكر الراوي حقيقة ماحدث لحبيبته يجد خبرًا بإحدى الجرائد عن مهاجمة الضواري للمغتصب وتركه بين الحياة والموت. يذهب إليها بالجريدة، فتلتقطها بأنامل مخطبة بالدم، وينظر إلى أنامله، فيجدها هي أيضًا مخضبة بالدم.
في قصة “غزوة الأزرق” تتكاثف الأجواء السريالية في النص، فتتماهى ذبابة زرقاء تهاجم ربة منزل تستعد للقاء ضيوف لزوجها، مع ما أصاب المجتمع من فساد. تظل المعركة دائرة بين السيدة والذبابة الزرقاء حتى تسقط في فمها وتنزلق إلى الداخل. تتماهى الذبابة القذرة، وما تثيره في النفس من اشمئزاز وما تلحقه بالجسد من وهن وإعياء، مع الفاسدين من البشر، الذين يهاجمون الناس ويلوثون حياتهم: (مضطربة الوعي، أفكر بالحقيرة تفرد جناحيها الأزرقين اللامعين بدلال بعد أن تتغذى على دمي ثم تضع بيوضها على جدران أمعائي… ثم أرى الحقيرة وقد شاخت وتغضنت وصار لها وجه بغيض، وجه رجل بغيض قرر أن يقتحم حياتي ويدعو نفسه وزوجته إلى العشاء في بيتي، أرى تحت جناحه أو في جيبه رشوة قذرة سيلوث بها زوجي.) وبالفعل تتوحد الذبابة مع الضيوف المنتظرين: (ألصقت عيني بعين الباب السحرية فلم أر سوى الأزرق، ربما هو لون بذلته أو لون فستانها، لم أتبين سوى أنه نفس الأزرق اللامع الذي غزا بيتي وكدر عيشي منذ الصباح.) ويتعمق الاتجاه العبثي في القصة بأن تتسبب ذبابة زرقاء في حادث تصادم لسيارة زوجها، مما يمنعه من الحضور في الموعد لاستقبال ضيوفه.
وتغوص قصة “قطوف نائية” عميقا في عالم الكوابيس. يتناقض العنوان مع مستهل القصة، مما يلقي بظلاله على النص. فتبدأ القصة بأن ترى الراوية نفسها في مكان يشبه الجنة تتدلى عليها (أجمل وأندر الفواكه قطوفًا دانية). وبينما تصيح متسائلة في دهشة: (هل أنا في الجنة!!؟) تأتيها إجابات متباينة من حولها، يخبرها البعض أنها مجنونة في مستشفى المجانين، ويقول لها البعض الآخر أنها ميتة ولم يبق منها (شئ حي سوى هذه المخيلة العصية على الموت) والتي بسببها سيحكم عليها ملكا القبر بالعذاب الأبدي، ويطلبون منها أن تقتل (هذه المخيلة قبل أن يصلا). ويخبرها آخرون أنها مخدرة استعدادًا لإجراء جراحة دقيقة، يستأصل فيها الجراحون مخيلتها بمشارطهما، لتجد نفسها بعدها حية، تتنفس وتأكل وتشرب وتنام. وتُختتم القصة بصوت الراوية يتماهى مع صوت الكاتبة، معلنًا استحالة حياة الكاتب دون خياله وعوالم إبداعه: (ما قيمة أن أمشي بدون جناحين يحملاني إلى عوالم تعجز قدماي عن الوصول إليها!)
في مجموعتها “بنات أحلامي” تغزل عزة رشاد نسجية إبداعية رائعة من خيوط دقيقة، قوامها تفاصيل صغيرة في حياة البشر الداخلية والخارجية.
خاص الكتابة