بمثلهم يصبح العالم محتَملًا

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 52
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد أبو بكر

ربما قِصر الحياة وطولها لا يقاسان بالسنين بل بما يرسخ في الذاكرة من أحداث وشخوص يؤثرون بشكل ما في إدراكنا لما تعنيه لنا الحياة وما نعنيه نحن للآخرين. وهو ما يجعل أصعب تجارب الكتابة أن تكتب عن أناس تعلم جيدًا أنهم أثّروا في وعيك بالحياة بشكل عام ووعيك بذاتك أنت بشكل خاص. ويزداد الأمر صعوبة حينما تصير الكتابة شهادةٌ بحقّ صديق ومبدع في آن.

عندما شرعت في كتابة هذه الشهادة تحيرت قليلًا عمَّن ينبغي أن أكتب: عن الصديق الذي تبادلنا أنا وهو بناء وعينا بالعالم عن طريق الكتابة والحوارات المتعلقة بها أم عن الكاتب الذي صنع لنفسه – عن استحقاق- مكانة بارزة بين روائيي العالم العربي. لكنني كلما أفكر في “إبراهيم” تسيطر على الذاكرة رغمًا عني محطات في علاقتنا كأصدقاء. تعرفت على “إبراهيم” في أوائل سنوات الدراسة الجامعية. كنا ندرس في كلّيّتين مختلفتين لكننا نتقابل بشكل يومي تقريبًا. كنت بدأت في كتابة الشعر وقتها وكان “إبراهيم” يكتب الرواية. وكانت المكتبات -ومازالت- قليلة في مدينة المنصورة فكنا نتبادل ما يتسنى لأحدنا الحصول عليه من الكتب. يحتفظ الواحد منا بالكتاب بضعة أيام يقوم خلالها بالتهامه ثم تبدأ جولة من المناقشات كانت تصل لحدِّ الاختلاف أحيانًا لكن في النهاية كنا ندرك مع الوقت أنَّ ما نجتمع عليه أكبر بكثير من وجهة نظر كاتب في كتاب: أنَّ كلينا يتخذ من الكتابة غاية وهدفًا للتواصل مع الذات ومع الآخر ومع كل شيء تقريبا: محاولةٌ لفهم هذا العالم المحير تمامًا (أعتقد أنَّ كلينا ما زال يراه محيرًا تمامًا).

أدخلني “إبراهيم” إلى رحابة عالم الكتابة عندما قدَّمني للصديق الروائي “رضا البهّات”. كان “رضا” متحمسًا لما نكتب وأصبحت لقاءاتنا الأسبوعية في منزله يوم الجمعة طقسًا لا يسعنا التخلي عنه. بسبب هذه الجلسات الأسبوعية وما يليها من حوارات بيني وبين “إبراهيم” أصبحت الكتابة جزءًا مني. أعتقد أني غير مبالِغ حين أقول أنّ هذه الجلسات والحوارات جعلتني أوقن تمامًا عمّ يجب أن اكتب وبأيِّ طريقة. قبلها كنت أكتب الكثير من الشعر الرومانسي وكنت منشغلًا بشعر التفعيلة بشكل أأأأأعتقد أنه كبلني لمدة تقارب الثلاث سنوات. في شهادة لــ”إبراهيم” عني نُشرت في أخبار الأدب منذ أسابيع تحدث عن حماسي لشراء أأعمال “أمل دنقل” الكاملة ذات مرة. أمّا ما لم يذكره الصديق العزيز -على الأرجح تواضعًا منه- هو أنني اقتنيت هذه النسخة بسبب حماسه الكبير لأن أطَّلع على أعمال “أمل” التي لا تستقيم الكتابة لأي شاعر من دون أن يقرأها مرات ومرات ومرات.

تظل سني التسعينات بالنسبة لي بزخم أحداثها وشخوصها أهم محطات حياتي على الإطلاق. فقدت بعضًا ممن أحب (ماديًا ومعنويًا)، وصفعتني الحياة مرات قليلة لكن بقوة وعنف شديدين، وفقدت شهيتي للحياة وللكتابة عدة مرات، وتبقى أهم محطات ذلك العقد من حياتي تلك التي يملؤها أناس كــ “إبراهيم فرغلي”. أناس يؤمنون بك أكثر مما تؤمن بنفسك أحيانًا. في نهاية عام 1999 كنت قررت السفر لمدينة “دبي” بحثًا عن عمل حينما قدَّم لي الصديق العزيز إحدى مفاجاءاته المبهحة التي لن تنتهي على ما أعتقد طالما بقينا أحياء. كنت قد انتهيت من كتابي الأول “كرحم غابة” وأعطيته نسخة منه فقام هو بتقديمها لصديق آخر قريب جدًا إلى قلبي رغم أننا لم نتقابل بعد وهو الكاتب “منتصر القفاش”. أصر “منتصر” على نشر الكتاب من خلال سلسلة “الكتاب الأول” رغم أنّ عدم تحمسي للنشر ساعتها كان كفيلًا بتثبيط همّته. لكنه، ولحسن حظي،  نشر الكتاب.

في شهر مارس الماضي قدّمني “إبراهيم” للعديد من الأصدقاء الجدد ممن يعملون في مجال الكتابة احتفاءًا منه -وسعادة- بانتهائي من كتابي الثاني. وبسبب حماسه سيخرج الكتاب الثاني للنور عمّا قريب. يروق لي أن أفكر كم أنّ “إبراهيم” تفوق حماسته لعودتي للكتابة حماستي. وبقليل من البحث في الأسابيع الماضية أدركت أنّ “إبراهيم” تحدث عن صداقتنا وعن كتابي الأول في العديد من المقالات التي نشرها. ومن أحد الأصدقاء الجدد علمت أنه قدَّم روايته الجديدة -التي لم أحصل على نسخة منها حتى الآن- ببعض من شِعري. ومنذ أن طُلب مني أن أكتب هذه الشهادة عن “إبراهيم فرغلي” وأنا لا أستطيع التوقف عن التفكير في أنّ الحياة “المُعاشة” حقًّا لا تقاس بمرور الزمن بل بوجود أشخاص من حولك يؤمنون بك وتؤمن بهم كخط دفاع أكيد ضد غموض هذا العالم المرتبك أحيانًا والمربك دائمًا.

صديقي الجميل: بمثلك في الحياة يصبح العالم محتَملًا!

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم