وغالبًا ما عوملت تلك الحيوانات التى راح إليها ظن الحلول بشكل من أشكال القداسة، أو الحذر والعنف حسب الزمن وتبدل الأفكار، وهذه مقدمة لرواية ” بغل المَجْلى ” للروائى ” عبد الجواد خفاجى ” التى تضرب بفأس مشحوذ على رأس تلك الفكرة، ولا أقول إن الهدف من الرواية القصيرة ( النوفيلا ) هى التحاور مع تلك الفكرة، وكشف عمقها من زيفها، أو رصدها عبر مواقف وتنويعات عدة، ولعل ذلك حادث بالفعل عبر فصول الرواية، ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى طرح رؤية شديدة الخصوصية للجنوب فى بدايات القرن الماضى وأواسطه. رؤية متسقة، ومتضامة مع الرؤية النفسية، والاجتماعية للأمر ذاته فى علاقة بشر بلادنا بحيوانات ما، وبأفكار ما، يتعايشون معها وحولها، ويؤمنون بها وصولًا إلى الإحالة الرمزية لأفكار، وعقائد تحكم صيرورة الإنسان وتحيزه لوجهة بعينها، أو تبنيه لعكسها شرط التأكيد على خصوصية المكان والزمان والتجربة، فالبغل الذى تدور حوله الرواية هو بغل المَجْلى وله قصة طويلة من مولده إلى نفوقه، قصة تطرحها ( النوفيلا ) فى الفصل الأول ” ما تيسر من تاريخ البغل “، والثامن ” المستدرك من تاريخ البغل ” وما بينهما وما بعدهما من طقوس، وشخصيات متنوعة لها علاقة بالبغل ( المقدس )، ولكل شخصية مصالحها، وانتماءاتها، وطبقتها التى تحدد درجة قبولها، أو رفضها للتماهى مع الفكرة، فالقداسة هنا مرتبطة بالمنفعة المباشرة، ولهذا تنتهى الشخصيات التى تربط القداسة بمصالحها الضيقة فقط إلى حالة استسلام تام للخرافة، وهو ما يؤدى إلى حالة العبودية، والتعصب الأعمى لرأى لم يكونه الشخص بحالة الجدل المستمر، ولكنه ألقى فى رأسه التى لا تقاوم مُكيفًا كل ما يراه على مقاس الفكرة المغروسة، وما ينتج عن ذلك فى النهاية من إهدار قيمة الحياة ذاتها، وقد تجلى ذلك عندما قفز بعض نفر من قرية الطرابشة وما يجاورها من القرى من فوق القنطرة إلى النيل؛ ليموتوا غرقى وراء المجلى دون أن يفكروا للحظة واحدة فى حلول آخرى لحياتهم عندما نفق بغل المجلى المقدس! وأقام البعض الآخر مقامًا للبغل النافق، وكانوا يجهزون الحضرة الزكية حول مقامه الحجرى فى ليال الجمعة الأولى من كل شهر قمرى حسب السنة التى وضعها المجلى طوال حياته، ثم إنهم أصلًا تركوا بيوتهم تعشش فيها عناكب الإهمال والخراب ملتفين حول المقام؛ ليبتنوا بيوتًا جديدة؛ علهم يحظون بالبركة والحماية، وعودة الغائب ذات يوم، ونهوض الميت من ترابه، وبعضهم راح فى الصحراء ليبتنوا بيوتهم هناك فى انتظار الغرقى، وحتى حينما تنشأ الجفوة ويُنصب حجر الصمت والعداوة بين البغالين، والغرقانين رغم وحدة الهدف والطموح لا يسعى أحد من الفريقين إلى إزالة هذا السور اللامرئى الذى ضرب بينهما، أو حتى الإدلاء بما يخالف عرف القيبلة والعصبية.
لقد قدمت سيرة البغل فى علاقته بالبشر وعلاقة البشر به عبر قالب فنى هو أقرب للسخرية، ولكنها سخرية لا تفضح نفسها بنكات مبهرجة، أو بتلوين كاريكاتورى صارخ للشخصيات والأحداث، ولكن بالاتكاء على بنية متداولة قديمًا فى كتابة تاريخ العظماء، والملوك، والحكماء حين نتتبع وجودهم من لحظة الميلاد وقبل الميلاد نفسه إلى النهاية الدرامية، وكان بعضهم فى الماضى يبدأ منذ نزول آدم وزوجه على الأرض مرورًا بكل الحكايات الكبرى فى الكتب الدينية إلى لحظة ميلاد الشخص المعنى بتأريخ حياته وأفعاله. هنا الثيمة نفسها وإن عبر بذرة ولادته، وهى ليست ثيمة جديدة حتى فى الرواية العربية، فقد استخدمها قبلًا على سبيل المثال الكاتب “محمد مستجاب” فى روايته ” من التاريخ السرى لنعمان عبد الحافظ “، لكن الفرق الدال هنا هو فى بناء الجملة الروائية، وبناء المشهد، حيث الابتعاد كما أسلفت عن التصوير الكاريكاتورى للشخصية، أو البذخ الفكاهى الفضائحى فى ثنايا الحكايات، وإن كان التصوير الفنى للصعيد فى الروايتين يشير إلى حالة الإهمال، والضياع، والعصبية التى يرزح فيها الإنسان. احتفت الرواية بالحدث المركزى هو قداسة بغل المجلى، ثم رسمت مشاهدها فى شكل دائرة كاملة حوله بالتصوير الفنى لكل شخصية، وعلاقتها به، ومن خلال ارتدادات زمنية تكشف الحقائق شيئًا فشيئًا وكأن الشكل هنا يتماهى مع الصورة النهائية التى انتهت إليها الرواية بمركزية المقام والتفاف البيوت حوله فى دائرة كاملة. تجدر الإشارة أيضًا إلى كشف الرواية الضمنى لعادات وتقاليد الناس فى الصعيد وفى البيئات الريفية والشعبية فى مصر عمومًا حين يواجهون أمرًا غريبًا إذ يتشتتون فى التفاسير، ولا يستمع أحد فرقهم للآخر، ثم يكون الانتصار فى النهاية للغرائبية، ولم يتورط الروائى هنا فى توجيه الاتهام لهم صراحة وإنما تتبع تصوراتهم، ومعضلات حياتهم التى كانت تُحل بضربات حظ على يد المجلى، ولعل ذلك أيضًا كان إمعان من الكاتب فى الوقوف على الحياد؛ ليسمح للحكاية ودوالها أن تثمر جدلية مستمرة مع القارئ، حتى بعد الانتهاء من الجملة الأخيرة..
إن السحر يشير إلى الإبهار الذى ينتجه شخص قادر على إيهام الناس بتغيير حقيقة الأشياء، أو امتلاك قوة حجة وإقناع تؤهله لتحويل الوهم إلى حقيقة متداولة، وهذا السحر امتد عبر فصول الرواية، ونفذ إلى عقول شخصياتها من المهاطيل، والدراويش، وسكينة، وأبو البطاح، والعمدة أبو دراع، وحميدة، وسعدية الحلبية، والمحجوب، وعزت بك سلطان.
الحُلم شَكَّل هو الآخر أحد وجوه السحر، فالتفسير المعتمد لا يمكن الوصول إليه إلا عبر مُفسِّر يؤمن الناس بعمق فراسته، وصحة ولايته، لكن السخرية تبدو هنا فى تصديق ولاية المجلى التى أتته فى المنام عبر الشيخ القراموصى الذى لم يره أحد أبدًا، وتتجلى أيضًا فى تصديقهم حكاية البغل الذى كان نورًا فى السماء وقد رآه المجلى فى أحد مناماته ولما استيقظ وجده بجوار خصه، وتتجلى أيضًا فى إيمانهم بقدرة ما يقدسونه على فعل المعجزات، لا بالتبرك بجسده الحيوانى فقط، ولكن باستخدام روثه أيضًا بشكل فج، كما القدرة على الإيحاء إلى شخصيات شريرة بأنها سوف تُمنح البركة وتصير طيبة وخيرة، لنقرأ فى ص20 بعد أن أخذ المجلى العهد من أبى البطاح الفاسد الشرير: ” بعدما قام المجلى مغادرًا الساحة.. غاب بالداخل لبعض الوقت، ثم عاد بكيس مملوء بالروث.. رماه لأبى البطاح الذى كان قد انخرط فى الإنشاد مع الجماعة: خذ الأمانة هذه افركها، ورشها فى دكانك وستزيد تجارتك. تناول أبو البطاح الكيس، وقربه من فمه، وقام منصرفًا، يحمل الكيس، وكان قد قبله مرتين. “
كان المجلى قد سرق فرسة عبد النبى التى أثيرت حولها إشاعات البركة، وبعد أن كان عبد النبى نفسه وقد حبلت ببغل من جحش الخواجة فهيم بائع القماش بحيلة ما دون أن يدرى الخواجة، وحين سرقها المجلى وولدت بغلا أحمر عفيًا تخلص منها بطعنات سكين قاتلة ورماها فى حقل ذرة، ليترك لعبد النبى الحزن المميت على فرسته..
تبلغ السخرية حدها الأقصى حين يظن الناس أن وفاة المجلى كوفاة بغله، لأن النتيجة واحدة، الذعر نفسه كشف لهم كم كانوا غارقين فى البلاهة حين ظنوا أن البغل وصاحبه خالدان أبدا، ورغم المفاجأة إلا أنهم ظلوا فى غيبوبتهم وعصبيتهم حتى النهاية، وكان منطقيًا أن يظلوا هكذا طالما استسلموا فى البداية لمنطق البغل وصاحبه.
يبدو كشف زيف عقول بعض الدعاة أيضًا أحد مرتكزات الرواية، فالمجلى أحد خطباء القرية ( ابن المحجوب الثرى والذى سمى باسم المجلى تبركا به ) يقوم بلى عنق الدين؛ ليتواءم مع تفسيره لوفاة البغل مع استمرار ولاية المجلى على المنطقة كلها، لكنما المجلى نفسه يقوم فجأة من جلسته الصامتة ويمضى فى الشوارع، بمحاذاة الترعة والناس يمضون وراءه دون أن يجرءوا على السؤال حتى ينتهى نهايته.
ألقى الروائى حمولته الهائلة فى الرواية ( الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2007م ) بتكثيف سردى نافذ، وعمق بصيرة، ولغة فصحى تتخلها حوارات العامية التى تكشف المستوى الاجتماعى والعقلى لكل شخصية، كما رسم شخصياته بحذق وفى أضيق الحدود واضعًا الحدث المركزى نصب عينية، كما كشف علاقة كل طبقة بأخرى داخل حدود القرى الضيقة، وفى النهاية وضعنا أمام أنفسنا فى جدلية يحسمها كل قارئ بنفسه، خصوصًا وأن حركة المجتمع ككل لن تتقدم للأمام وتنزع عنها عصبيتها، أو عبوديتها ببساطة، وبمجرد الأمنيات.