يحكى أنه فى غابر الأزمان كان القمر والشمس يسطعان سويا, تخرج الشمس من الشرق ويتبعها القمر من الغرب, كانا يتزاحمان من أجل السيطرة على الأجواء فينتصر القمر يوما فى جذب الأنظار, وتنتصر الشمس يوما, وظلوا على مدار سنين يدعى كل منهما أنه يحتفظ بعلاقة ودية حميمة مع الآخر وأنه لا مكان للخلافات بينهما, رغم أن الجميع كان يعلم مدى الصراع الضارى المحتدم. فإذا سئل القمر, يجيب ” الشمس, أنا لا أغار من الشمس فهى لا تنافسنى فى أى شئ, الجميع يعلم أننى أجمل منها وأكثر رشاقة وأخف حركة وأحلى شكلا… مالى أنا ومال الشمس ؟” وإذا سئلت الشمس, قالت ” أنا لا أعير القمر اهتماما, أنا أكثر ضياء منه, وعندما أسطع لا يستطيع أحد أن يراه من الأصل .”
ولكن, وبالرغم من كلامهما إلا أنه كلما سطع أحدهما انقض عليه الآخر محاولا خطف الأضواء منه, إلا أن الدبلوماسية كانت تجبرهما على أن يقولا هذا. وظل الوضع على هذه الحال لسنوات طويلة قبلما يتفاقم الصراع بينهما, حيث بدأ يزداد اقتراب كل منهما من الآخر محاولا إخفاءه وحجبه عن الأعين. حتى جاء هذا اليوم الذى غضبت فيه الشمس بشدة من القمر بعدما انقضى اليوم فى تغزل الجميع بجماله, فقد كان بدرا, وكانت الشمس “تحترق” غيظا من كلمات الكواكب والنجوم وغزلها فى جمال القمر المتفرد. فاستغلت الشمس فرصة انشغال القمر بتلقى المغازلات وأخذت تقترب منه حثيثة حتى مسه لهيبها الحارق. غضب القمر وأعرب عن سخطه من التصرفات الصبيانية للشمس وأبلغ شكواه لكل الحاضرين لعلهم يعطونه حقه فيما اقترفته الشمس ضده. اجتمعوا جميعا واشتد الحوار بينهما وتبادلا الاتهامات وعلت الأصوات وتداخلت, فاتهمت الشمس القمر أنه يتمايل بين النجوم بشكل مبالغ فيه وأن عليه أن يلتزم حدود الأدب والاحترام, أما القمر فقد دافع عن كونه محترما وادعى أن الشمس تغار من جماله البديع بسبب قبحها الشديد وعدم احتمال أحد أن يطيل النظر إليها بينما العشاق يجلسون يتحدثون إليه ليلا محدقين مشدوهين. اشتد الحوار حتى أعلنت الأرض عن تدخلها واقترحت عليهما أن يتناوبا على زيارتها, فالقمر يزور نصفها بنصف اليوم الأول ثم يتبادلان الأماكن بنصف اليوم الآخر, وهكذا. ترددا قليلا وهدأت الأصوات قبل أن يوافقا على هذا الاقتراح المقدم من الأرض المعروفة بعقلانيتها المفرطة مابين كل أهل الفضاء.
وفى بداية الأمر, كان يتعدى كل منهما على أوقات الآخر ويتعمد البقاء بعد انقضاء نصف اليوم الخاص به وتتجدد الصراعات والخلافات التى تجتمع على أثرها النجوم لتفصل بينهما وتهدئ الأوضاع. إلا أن هذا لم يستمر طويلا, مجرد بضع سنين, وبعدها استمرت العلاقة مستقرة بينهما لسنوات أخر. وأصبح كل منهما ملتزما بمواعيده ولا يتعدى على الآخر حتى أنهما لم ير أحدهما الآخر لمدة تصل إلى ملايين السنين. وانطفأت حماستهما لأن يظهرا فى بعض الأيام, حيث كانت الشمس تستعين بالغيوم كى تخفيها عن الأنظار وتحجبها للحظات أو أيام, أو تتوارى عن الأنظار للحظات فيما سمى الكسوف, وقلدها القمر ومارس الخسوف, وتناسى كل منهما الآخر وانطفأت نار الصراع بينهما.
حتى كان هذا اليوم الذى غفا فيه القمر ونسى أن يتحرك فى ميعاده المعهود منذ سنين, فجاءت الشمس إلى موقعها لتجد أن القمر لم يرحل بعد ومازال ثابتا بمكانه. توقفت الشمس عن الحركة منتظرة أن ترى ماذا سيحدث. أيقظت حرارة الشمس ونورها القمر من غفوته, فهم بالرحيل تجنبا للصراع مع الشمس من جديد بعد سنين من الهدوء, خاصة وأن الخطأ من البداية كان خطأه. ولكن الشمس فاجأته بندائها إياه ودعته للبقاء. وبعد تردد واضح وتعثر فى الكلمات سألته عن حاله بمودة غير متوقعة, وامتد الحوار بينهما وطال…
حدقت الشمس إلى القمر وقالت له: لقد شخت وبانت عليك علامات الزمن وتركت كل سنة من السنين بصمة بملامحك, أراها بوضوح وكأنما أرى عمرى بوجهك المشرق الذى اعتدت الغيرة منه.
– أما أنت فمازلت كما أنت, لم تتغير ملامحك ولا ضياؤك, مازلت مشرقة كما عهدتك.
– كيف حالك؟ أحك لى عن السنين, أفتقدك.
– أنا بخير… أفتقد صراعاتنا… لقد كانت جميلة ( يبتسم (.
_ (ترد الشمس بضحكة صاخبة) نعم, أتذكرها بين الحين والآخر. لقد كنا صغارا وكذلك كانت عقولنا.
– بل كنا شبابا وكانت تتملكنا الحماسة للحياة, هاهو الكون أمامنا ونحن لا نتحمس لإضاءة أية بقعة فيه… ولكن الأرض هى من أنهت صراعنا هذا عندما اقترحت علينا اقتسام اليوم.
– وبئس الاقتراح.
– لماذا تقولين ذلك؟
– منذ ذلك اليوم افتقدت حياتى لأى معنى.
– عندك حق… انظرى إلى الأرض, لقد شاخت هى الأخرى وترك الزمان عليها علامات لا تخفى على بصير.
– شاخت جدا, ولكنها لاتزال تحتفظ بعقلانيتها السخيفة تلك العقلانية التى تفسد كل الأمور, وتفسد أحلى اللحظات.
– من تقابلين من النجوم ؟؟؟
– كثيرين وكلهم يسألوننى عنك.
– حقا, أفتقد الكثير منهم… ابعثى لهم بتحياتى.
واستمر الحوار طويلا على هذا النحو حتى امتزج الفجر بالظهر وتبدلت المواعيد إلى أن انفجر صمت القمر وقال بعد تنهيدة طويلة: أتعلمين ؟؟ لقد مللت هذا النظام اليومى السخيف.
– وأنا كذلك أيضا.
– أنا سأكف عن السطوع منذ الليلة.
– ماذا تقول ؟؟
– نعم, أود أن أذهب بعيدا عن هنا, سأترك لك الأرض كاملة تسطعين عليها ليل نهار, سأبحث لى عن مكان هادئ أقضى به ما تبقى لى من قرون.
– ولكنى اعتدت نظامنا اليومى, حتى ولو كنت مللته… اعتدت أن أسطع نصف اليوم على جانب من الأرض والنصف الآخر بالجانب المقابل, ولم أعد أقوى أن أضم الأرض كلها بضيائى.
– إذن فاستمرى هكذا, ولا أهمية لسطوعى أنا ليلا فما فائدتى سوى أن ينظر إلى العشاق, وهم قلة الآن.
– ممم, وهو كذلك… سأسطع أنا كما اعتدت أن أفعل, نصف يوم بكل جانب, أما الليل فسأتركه دون نجوم تضيئه.
– وهو كذلك.
– ولكنى أود أن أراك ثانية.
– بالطبع, عن قريب.
– لا تنس.
– لن أنسى.
واختفى القمر من الليالى, واستمرت الشمس فى السطوع لسنوات طوال منفردة فى السماء حتى ملت من رتابة حياتها وتكرار أيامها فقررت ذات صباح أن تفعل كما فعل القمر, أن تذهب لحيث ذهب, أن تترك الأرض وحيدة مظلمة, وأن تتجاوز عن خلافاتها الطفولية مع القمر وأن يعيشا سويا فى راحة وهدوء بعيدا عن الأرض وسخافتها. وقد يحبان أحدهما الآخر وقد يتزوجان… انطلقت الشمس بالفضاء مغمضة عينيها مستسلمة لقوة خفية تحركها إلى بعيد وهى تشعر براحة غريبة وطمأنينة غير معتادة. لم ير الشمس أحد من أهل الأرض مرة أخرى حيث خيم الظلام على سطحها ليل نهار وأصبحت الحياة ليلا بهيما طويلا مستمرا.