بعض الملاحظات حول الشخصيات الروائية.. الفصل الثالث من “اعترافات روائي شاب” لـ أمبرتو إيكو

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 19
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

اعترافات روائي شاب

Confessions of a Young Novelist

أمبرتو إكو

Umberto Eco

ترجمة

ناصر الحلواني

Nasser ElHalawani

3

بعض الملاحظات حول الشخصيات الروائية

“أصبح (دون كيشوت) مستغرقا في قراءة كتبه، حتى صار يقضي لياليه، من غروب الشمس إلى مشرقها، وأيامه، من بزوغ الشمس إلى أول الليل، منكبا عليها، ولقلة نومه وكثرة القراءة، جف دماغه وفقد عقله، وامتلأ خياله بما اعتاد القراءة عنه في تلك الكتب: أمور سحرية، مشاجرات، معارك، تحديات، جروح، مجاملات، قصص حب، وعذابات، وكل أنواع الهراء المستحيل، وهيمن على عقله أن كل ما قرأه من نسج خيال وتوهمات حقيقي، وأن ليس في الدنيا تاريخ أكثر واقعية من هذا. كان يقول: إن السيد روي دياز كان فارسا رائعا، غير أنه لا يُقارن بفارس السيف الناري، الذي شطر، بضربة خلفية من سيفه، عملاقين وحشيين ومرعبين إلى نصفين. وكان أكثر اهتماما ببرناردو دل كاربيو، لأنه أهلك رونالد في رونسيفاليس على الرغم من قوته السحرية.

ـ سرفانتس، دون كيشوت

 

بعد نشر رواية “اسم الوردة“، كتب إلي العديد من القراء أنهم اكتشفوا الدير الذي دارت فيه أحداث قصتي وقاموا بزيارته. وطلب آخرون معلومات إضافية عن المخطوطة التي ذكرتها في مقدمة الكتاب. في نفس المقدمة أقول أنني عثرت على كتاب من دون عنوان، ألفه أثناسيوس كيرشر، في متجر لبيع الكتب الأثرية في بيونس آيرس. ومؤخرا ـ أي، بعد ما يقرب من الثلاثين عاما من نشر روايتي ـ كتب لي صديق ألماني يقول أنه عثر للتو على متجر لبيع الكتب العتيقة في بيونس آيرس، ووجد فيه مجلدا من تأليف كيرشر، وتعجب سائلا عما إذا كان القدر قد ساقه إلى نفس المتجر والكتاب الذين ذكرتهما في روايتي.

من غير المفيد القول أني قد اخترعت كلا من تخطيط وموضع الدير (وإن كانت بعض التفاصيل مستوحاة من أماكن حقيقية)، إذ أن بدء عمل روائي بالقول أن شخصا عثر على مخطوطة قديمة هو موضوع أدبي جليل، إلى الدرجة التي تجعلني أعنون مقدمة روايتي “مخطوطة، بطبيعة الحال“، كما أن الكتاب الغامض لكيرشر، بل وحتى متجر الكتب العتيقة، كلاهما مختَرعين.

الآن، بالنسبة لمن انشغلوا بالبحث عن الدير الحقيقي والمخطوطة الحقيقية، فربما كانوا قراء سذَّج، لا يألفون الأعراف الأدبية، التي صادفوها في روايتي، بعد مشاهدة الرواية سينمائيا. غير أن الصديق الألماني، الذي ذكرته آنفا، والذي يعتاد التعامل مع بائعي الكتب النادرة، والذين، كما يبدو، يعرفون كيرشر، فمن المؤكد أنه شخص مثقف، يألف الكتب والمواد المطبوعة. هكذا، يبدو أن العديد من القراء، بغض النظر عن مستواهم الثقافي، غير قادرين، أو أصبحوا غير قادرين، على التمييز بين الروائي والواقعي. إنهم يتعاملون مع الشخصيات الروائية بجدية، كما لو كانت بشرا حقيقيين.

تعليق آخر حول هذا التمييز، بين الشخصيات الروائية والشخصيات الواقعية، (أو انعدام هذا التمييز) يتجلى في رواية “بندول فوكو“؛ يحاول جاكوب بيلبو ـ بعد حضور طقس ديني خيميائي[1] يشبه الحلم ـ أن يبرر، بنحو ساخر، ممارسة المتعبدين، قائلا: “المسألة ليست ما إذا كان هؤلاء الناس هنا أفضل أو أسوأ من المسيحين الذين يذهبون إلى المزارات المقدسة. كنت أسأل نفسي: من نظن أنفسنا؟ نحن الذين نعتبر هاملت أكثر واقعية من حارس البوابة؟ هل أملك الحق في الحكم ـ وأنا من لا يكل في البحث عن مدام بوفاري الخاصة به، لأجل أن يجمعنا مشهد عظيم؟”(2)

البكاء من أجل أنَّا كارينينا

في عام 1860، في مستهل إبحاره عبر البحر المتوسط، للمضي على طريق حملة جاريبالدي إلى صقلية، توقف ألكسندر دوماس الأب في مارسيليا، وزار حصن إيف، حيث تم سجن إدموند دانتي بطل روايته ـ قبل أن يصبح كونت مونت كريستو ـ لمدة أربعة عشر عاما، تعلم خلالها الكثير في زنزانته على يد زميله في السجن، الكاهن فاريا.(3)

بينما كان دوماس في القلعة، لاحظ المواظبة على إطلاع الزائرين لما يسمونه الزنزانة “الواقعية” التي سُجن فيه مونت كريستو، ولاحظ أن المرشد السياحي يداوم على الحديث عن دانتي، وفاريا، وعن الشخصيات الأخرى في الرواية، كما لو كان لهم وجود حقيقي. (4)

على العكس من ذلك، فإن المرشد السياحي نفسه لا يذكر أبدا أن حصن إيف قد ضم بعض الشخصيات التاريخية المهمة، كسجناء، مثل أونوريه ميرابو[5].

وهكذا، يعلق دوماس في مذكراته: “إن مما يميز الروائيين أنهم يبدعون شخصيات روائية تطمس تلك الشخصيات التي يسجلها المؤرخين؛ ذلك لأن المؤرخين يستحضرون أشباحا، بينما يبدع الروائيون أشخاصا من لحم ودم”.(6)

ذات مرة ألح علي أحد أصدقائي لتنظيم حلقة نقاش حول الموضوع التالي: إذا كنا نعلم أن أنَّا كارينينا شخصية روائية، لا وجود لها في العالم الواقعي، فلماذا ننتحب على مصابها، أو، على الأقل، لماذا نتأثر بعمق بسبب سوء حظها؟

من المحتمل أن هناك العديد من القراء المثقفين الذين لم يسكبوا الدمع على مصير سكارليت أوهارا[7] لكنهم، على الرغم من ذلك، يُصدمون بمصير أنَّا كارينينا. بالإضافة إلى ذلك، لقد رأيت بعض المفكرين، ذوي الثقافة الرفيعة، يجهشون بالبكاء عند نهاية سيرانو دي بيرجيرا[8] ـ حقيقة لا يجب أن تُذهل أحدا، لأنه عندما تهدف استراتيجية درامية إلى حمل المشاهدين على سكب الدموع، فإنها تجعلهم يبكون بغض النظر عن مستواهم الثقافي. هذه ليست مشكلة جمالية: الأعمال الفنية العظيمة قد لا تثير أي استجابة عاطفية، بينما ينجح العديد من الأفلام السيئة، والروايات الرخيصة، في فعل ذلك. (9) ودعونا لا ننسى أن مدام بوفاري، الشخصية التي أبكت الكثير من القراء، أعتادت البكاء بتأثير قصص الحب التي كانت تقرأها.

أخبرت صديقي بحزم أن هذه الظاهرة لا صلة لها بما هو وجودي أو منطقي، وربما تكون موضع اهتمام علماء النفس فقط. بإمكاننا التماهي مع الشخصيات الروائية ومع أفعالهم لأننا ـ بحسب اتفاق سردي ـ نشرع في العيش في العالم الممكن لقصتهم، كما لو كنا نعيش في عالمنا الواقعي. لكن هذا لا يقع فقط عندما نقرأ رواية.

بعضنا قد يفكر، أحيانا، في احتمال موت شخص يحبه، ويتأثر بعمق، وربما ذرف الدمع، على الرغم علمه بأن هذا أمر متخيل، غير حقيقي. مثل هذه الظواهر؛ كالاندماج، والإسقاط، تعد من الأمور الطبيعية، وهي (أكرر) أمر يخص علماء النفس. إذا كان هناك وهم بصري، نرى بحسبه شكلا أكبر من شكل آخر، على الرغم من علمنا أنهما متساوين تماما في الحجم، فلماذا لا يكون هناك، بالمثل، وهما انفعاليا. (10)

لقد حاولت أيضا، أن أبين لصديقي، أن قدرة الشخصية الروائية على إثارة بكاء الناس، لا ترجع إلى صفات تلك الشخصية فحسب، ولكن أيضا إلى العادات الثقافية للقراء ـ أو إلى العلاقة بين توقعاتهم الثقافية واستراتيجية السرد. في منتصف القرن التاسع عشر، بكى الناس، بل خنقتهم العبرات، على مصير شخصية فلور دي ماري في رواية “أسرار باريس” للكاتب يوجين سو، أما اليوم، فإن الحظ السيئ لتلك الفتاة الفقيرة لم يعد يحرك فينا شيئا. على العكس من ذلك، فمنذ عهود مضت، تأثر كثير من الناس بمصير جيني في رواية “قصة حب” لإريك ساجال، في كل من الرواية والفيلم.

أخيرا، أدركت أنه لا يمكنني صرف مجمل السؤال بسهولة. كان علي أن أعترف بوجود اختلاف بين البكاء بسبب تصور موت شخص محبوب، وبين البكاء على موت أنَّا كارينينا. الحق أننا في الحالتين نسلم بأن ما يحدث إنما يحدث في عالم محتمل: عالم خيالنا في الحالة الأولى، والعالَم الذي أبدعه تولوستوي في الحالة الثانية. لكن إذا تم سؤالنا لاحقا، ما إذا كان الشخص الذي نحبه مات فعلا، فبإمكاننا أن نرد بارتياح شديد بأن هذا غير حقيقي ـ نفس الارتياح الذي نشعره عندما نستيقظ من كابوس. بينما إذا سُئلنا ما إذا كانت أنَّا كارينينا قد ماتت، فيجب علينا دوما أن نجيب: نعم، حيث أن واقعة انتحار أنَّا كارينينا حقيقية، في كل العوالم الممكنة.

يضاف إلى ذلك، حينما يتعلق الأمر بحب رومانسي، فإننا نعاني عندما نتخيل أن حبيبنا قد هجرنا، وبعض الناس، ممن هجرهم محبوبهم بالفعل، قادهم ذلك إلى الانتحار. ولكننا لا نعاني كثيرا إذا ما تعرض أصدقاؤنا للهجر من أحبائهم. من المؤكد أننا تعاطف معهم، لكني لم أسمع أبدا عن شخص انتحر بسبب أن صديقه تعرض لهجر حبيب له. لذا يبدو غريبا، عندما نشر جوتة رواية (آلام فرتر)، التي ينتحر فيها البطل، فرتر، بسبب النهاية التعيسة لقصة حبه، أن فعل كثير من القراء من الشباب الرومانسيين المثل، وانتحروا. واشتهرت تلك الظاهرة باسم “تأثير فرتر”. ما الذي يعنيه أن ينزعج الناس، قليلا فقط، لموت الملايين من البشر الحقيقيين جوعا ـ بينهم العديد من الأطفال ـ ثم نجدهم يشعرون بالكرب العظيم لموت أنَّا كارينينا؟ ما الذي يعنيه أن نشارك بعمق أحزان شخص نعلم أنه لم يكن موجودا أبدا؟

الانطولوجيا[11] مقابل السيميوطيقا[12]

ولكن، هل نحن متأكدون من أن ليس للشخصيات الروائية وجود ما؟ دعونا نستخدم اصطلاح “الشيء ذو الوجود المادي Physically Existing Object “، أو PhEO، للأشياء الموجودة حاليا (مثلك أنت، والقمر، ومدينة أتلانتا)، إضافة إلى الأشياء التي كانت موجودة في الماضي (مثل يوليوس قيصر، أو سفينة كولومبوس). من المؤكد أن أحدا لن يقول أن الشخصيات الروائية هي أشياء ذات وجود مادي. لكن هذا لا يعني أنها ليست أشياء على الإطلاق.

يفي بالغرض أن تتبنّي نهج الأنطولوجيا التي طورها ألكسيوس مينونج[13] (1853ـ1920)، لتقبل فكرة أن كل تصوير، أو حكم، يجب أن يكون متوافقا مع شيء/موضوع ما، رغم أنه من غير الضروري أن يكون للموضوع/الشيء وجود بالفعل. الموضوع هو أي شيء يتسم بصفات معينة، غير أن صفة الوجود لا تعد من الصفات التي يمكن الاستغناء عنها. قبل سبعة قرون من مينونج، قال الفيلسوف ابن سينا أن الوجود مجرد صفة عارضة للذات أو الجوهر. بهذا المعنى، يمكن وجود موضوعات مجردة ـ مثل الرقم سبعة عشر والزاوية القائمة، إذ ليس لها وجود مادي، ولكنها موجودة وجودا لا زمنيا مجردا ـ وموضوعات مادية، مثلي، ومثل أنَّا كارينينا، مع الفارق أنني أملك وجودا ماديا، وأنَّا كارينينا ليست كذلك.

الآن، أحب أن أوضح أنني لا انشغل هنا بأنطولوجيا الشخصيات الروائية. لكي يصبح الموضوع موضعا للتفكير الأنطولوجي، فيجب أن يُنظر إليه كوجود مستقل عن أي عقل، كما هو الحال مع الزاوية القائمة، التي ينظر إليها العديد من علماء الرياضيات والفلاسفة كنوع من الوجود الأفلاطوني ـ بمعنى أن اليقين “بأن الزاوية القائمة تسعون درجة” سيظل حقيقة، حتى لو اندثر النوع البشري، وستبقى حقيقتها مقبولة، حتى من الغرباء القادمين من الفضاء الخارجي.

على العكس من ذلك، فإن واقعة انتحار أنَّا كارينينا تعتمد على الأهلية الثقافية للعديد من القراء الأحياء، لقد تم توثيقها بواسطة بعض الكتب، لكن من المؤكد أنها ستُنسى إذا اندثر الجنس البشري وكل ما على وجه الأرض من كتب. ثمة اعتراض ممكن وهو أن الزاوية القائمة سيكون لها تسعون درجة فقط للغرباء من الفضاء الخارجي، الذين يشاركوننا في علم الهندسة الإقليدية، وأن كل تأكيد حول أنَّا كارينينا سيظل حقيقي أيضا بالنسبة لهؤلاء الغرباء، إذا نجحوا في استرداد نسخة واحدة، على الأقل، من رواية تولوستوي. لكني لست مرغما هنا على تبني موقف من الطبيعة الأفلاطونية للموجودات الرياضية، كما أنه ليس لدي أية معلومات عن الهندسة أو الأدب المقارن الخاصين بغرباء الفضاء الخارجي. دعوني أفترض، كيفما كان، أن النظرية الفيثاغورسية قد تكون صحيحة، حتى لو لم يكن هناك بشر موجودون للتفكير فيها، بينما إذا عزونا إلى أنَّا كارينينا وجودا ما ، فمن المؤكد أنه ستكون هناك حاجة لوجود ما، يشبه العقل البشري، يمكنه تحويل نص تولوستوي إلى ظاهرة عقلية.

الشيء الوحيد الذي أتأكد منه تماما، أن بعض الناس قد تأثر بالكشف عن أن أنَّا كارينينا قد انتحرت، لكن القليل جدا (أو لا أحد) قد صدموا، أو فوجئوا، عندما علموا أن الزاوية القائمة تسعون درجة. وحيث أن لب تأملاتي هنا هو: لماذا يتأثر الناس بالشخصيات الروائية، فليس بمقدوري افتراض وجهة نظر أنطولوجية. إني ملتزم باعتبار أنَّا كارينينا كموضوع يتوقف وجوده على العقل، كموضوع معرفي. بمعنى آخر (وسوف أقوم بشرح وجهة نظري بنحو أكثر وضوحا فيما يلي)، إن نهجي ليس انطولوجيا بل سيميوطيقيا. بمعنى، أن اهتمامي: ما هو نوع المحتوى الذي يتوافق ـ بالنسبة للقارئ المؤهل ـ مع تعبير “أنَّا كارينينا” ـ خاصة إذا ما اعتبر هذا القارئ، كأمر مفروغ منه، أن أنَّا كارينينا ليست، ولم تكن أبدا، موضوعا ذا وجود مادي. (14)

بالإضافة إلى ذلك، فإن المسألة التي أبحثها هي: بأي معنى يمكن للقارئ العادي أن يعتبر التأكيد بأن ” أنَّا كارينينا قد انتحرت” أمرا حقيقيا، إذا كان هو، أو هي، يعلم يقينا أن أنَّا كارينينا ليست موضوع ذو وجود مادي؟ سؤالي ليس “أين، في بقاع الأرض، تعيش الشخصيات الروائية؟” بل بالأحرى: “بأي كيفية نتحدث عنهم، كما لو كانوا يحيون في إحدى بقاع الأرض؟”

للإجابة عن كل هذه الأسئلة، إن كان ممكنا، أحسب أنه سيكون مفيدا إعادة النظر في بعض الحقائق الواقعية الواضحة، عن الشخصيات الروائية، والعالم الذي يعيشون فيه.

العوالم الممكنة غير المكتملة والشخصيات المكتملة

بحسب التعريف، فإن النصوص الروائية تتحدث عن أشخاص وأحداث لا وجود لها (ولهذا السبب، بالتحديد، فإنها تستدعي تعليق إنكارنا لها). بالتالي، من وجهة نظر دلالة التصديق الشرطي[15]، فدائما ما يصوغ التأكيد الروائي شيئا مناقضا للواقع.

بالرغم من ذلك، فإننا لا نأخذ التأكيدات الروائية كأكاذيب. أولا، وقبل أي شيء، عند قراءة مقطع من رواية، فإننا ندخل في اتفاق ضمني مع مؤلفه، الذي يتظاهر بأن ما كتبه، أو كتبته، حقيقي، ويطلب منا أن نتظاهر أننا نأخذه على محمل الجد. (16) بمثل هذا، فإن كل روائي يقوم بتصميم عالم ممكن، وبالتالي فإن كل أحكامنا بالصدق أو الكذب مرتبطة بهذا العالم الممكن. وهكذا، يكون حقيقي، من الوجهة الروائية، أن شيرلوك هولمز يقطن في شارع بيكر، ويكون كذبا، من الوجهة الروائية، أنه عاش على ضفاف نهر سبوون.

النصوص الروائية لا تأخذ في حسبانها أبدا أن يكون مسرح أحداثها عالما مغايرا تماما للعالم الذي نعيش فيه، حتى لو كانت قصصا خرافية، أو روايات علمية. حتى في هذه الحالات، فإذا ذُكرت غابة، فمن المفهوم أنها ستكون قريبة الشبه بالغابات في عالمنا الواقعي، حيث الأشجار نباتية وليست معدنية، وهكذا. وإذا أُخبرنا، بنحو ما، أن الغابة تتكون من أشجار معدنية، سيلزم أن تكون فكرتي “معدن” و”شجرة” مماثلتين لما يدلان عليه في عالمنا الواقعي.

عادة ما تختار الرواية، الحياة اليومية، كمسرح لأحداثها، على الأقل بقدر ما تنشغل بملامحه الرئيسية. إن قصص ريكس ستاوت، تطلب من قرائها أن يعتبروا كحقيقة واقعة أن نيويورك يقطنها أناس مثل نيرو وولف، وأرشي جودوين، وسول بانزر، والمفتش كرامر، وهم غير مدرجة أسماؤهم في قوائم سجلات بلدية نيويورك. أما بقية الأحداث فإنها تقع في نيويورك كما لو أنها (أو كما لو كانت) في عالمنا الواقعي، لذا فإننا سنصاب بالارتباك إذا ما قرر أرشي جودوين أن يقفز من أعلى برج إيفل في السنترال بارك. العالم الروائي ليس عالما ممكنا فحسب لكنه عالم صغير أيضا ـ بمعنى: “مسار، قصير نسبيا، من الأحداث، في ركن أو زاوية ما، من عالمنا الفعلي”(17)

العالم الروائي غير مكتمل، ليس الحالة القصوى للأمور. (18) في العالم الواقعي، إذا كانت العبارة: “جون يعيش في باريس” صادقة، فسيكون صادق أيضا أن جون يعيش في عاصمة فرنسا، وكذا أنه يعيش شمال ميلان، وجنوب ستوكهولم. مثل هذه المجموعة من اللوازم لا تثبت أمام العوالم الممكنة لاعتقاداتنا ـ ما يُسمّى بالعوالم “الاعتقادية”. إذا كان صحيحا أن جون يعتقد أن توم يعيش في باريس، فهذا لا يعني أن جون يعتقد أن توم يعيش شمال ميلان، لأنه ربما كان جون يعاني نقصا في المعلومات الجغرافية. (19) العوالم الروائية غير مكتملة كالعوالم الاعتقادية، وإن بطريقة مختلفة.

على سبيل المثال: ففي بداية رواية “تجار الفضاء” لفريدريك بول وس. م. كورنبلوث، نقرأ: “دعكت الصابون المزيل للشعر على وجهي، ثم غسلته بالماء المنساب من صنبور الماء العذب”(20) في عبارة تشير إلى العالم الواقعي، فإن ذكر الماء “العذب” قد يبدو من فضول الكلام، إذ أن الصنابير عادة هي صنابير ماء عذب، لكن بقدر ما يشك المرء أن هذه العبارة تصف عالما روائيا، فإن المرء يفهم أنها تقدم معلومات غير مباشرة عن عالم بعينه، فيه نجد في الأحواض المعتادة صنبور الماء العذب في مقابل صنبور الماء المالح (بينما يكون التقابل في عالمنا بين صنبور الماء البارد وصنبور الماء الساخن). حتى إذا لم تقدم لنا القصة معلومات إضافية، فسيكون القراء متلهفين إلى استنتاج أنها تُعنى بعالم الرواية العلمية، حيث هناك نقص في الماء العذب. أما في غياب المعلومات الإضافية، فسيلزم عن ذلك اعتقاد القارئ بأن كلا من الماء العذب والماء المالح هما H2O[21] المعتاد. بهذا المعنى، يبدو أن العوالم الروائية طفيلية على العالم الواقعي. (22) إن كل شيء في العالم الروائي الممكن هو مماثل لما نسميه عالمنا الواقعي، باستثناء التنوع الذي يقدمه النص صراحة.

يقول شكسبير في مسرحية “حكاية شتاء” أن المشهد رقم 3 في الفصل رقم 3 تدور أحداثه في “بوهيميا”، دولة صحراوية قرب البحر. نحن نعلم أن بوهيميا ليس لديها ساحل، مثلما أنه لا يوجد منتجعات بحرية في سويسرا، ولكننا نسلم بأن “بوهيميا” ـ في العالم الممكن لمسرحية شكسبير ـ لها ساحل. بالاتفاق الروائي، وتعليق عدم التصديق من جانبنا، يجب أن نأخذ هذه التغيرات كما لو كانت حقيقية. (23)

لقد قيل أن الشخصيات الروائية غير تامة التعين ـ بمعنى: أننا لا نعرف إلا القليل من خصائصها ـ بينما الأفراد الحقيقيون فتعينهم تام ، وأنه يجب علينا أن نكون قادرين على أن نعزو إلى كلٍ منهم كل صفة من صفاتهم المعروفة. (24) لكن على الرغم من صحة ذلك من الوجهة الأنطولوجية، فإنها على النقيض تماما من الوجهة الأبستمولوجية؛ فليس بمقدور أحد تأكيد كافة خصائص شخص محدد، أو جنس بشري محدد، إذ أنها لا نهائية، بينما خصائص الشخصية الروائية شديدة التحدد في النص السردي ـ وتلك الصفات التي يذكرها النص، هي فقط ما يُعتبر في تحديد هوية الشخصية.

الحقيقة، أنني أعرف ليوبولد بلووم[25] بأكثر مما أعرف والدي. من بمقدوره إخباري كم فصلا من حياة أبي لا أعرف عنه شيئا؟ كم من أفكار أبي لم يفصح عنها؟ كم من المرات أخفى أحزانه، مآزق مر بها، ولحظات ضعف؟ الآن، بعدما مات، فمن المحتمل ألا أكتشف أبدا هذه الأسرار، ومعها، ربما، جوانب جوهرية من كينونته. مثل تلك الشخصيات التاريخية التي وصفها دوماس، فإني استغرق في التفكير، واستغرق، بلا جدوى، في ذلك الشبح العزيز، الذي فقدته للأبد. على العكس من ذلك، فإني أعرف كل شيء عن ليوبولد بلووم، مما أحتاج إلى معرفته ـ وفي كل مرة أعيد قراءة عوليس فإني أكتشف الجديد عنه.

عند التعامل مع الحقائق التاريخية، فبإمكان المؤرخين الجدال لقرون حول ما إذا كانت معلومة معينة متعلقة بالموضوع أم لا. على سبيل المثال: فإن مما يتعلق بتاريخ نابوليون أن تعرف ماذا أكل قبل معركة واترلو مباشرة؟ معظم كتاب السيرة الذاتية يعتبرون هذه التفصيلة غير متعلقة بالموضوع. لكن ربما كان هناك باحثون يعتقدون أن نوعية الطعام يمكن أن تكون ذات تأثير حاسم في سلوك الإنسان. وبذلك فإن تلك التفصيلة من حياة نابوليون، إذا ما كان هناك وثيقة تؤكدها، قد تكون ذات فائدة عظيمة لمثل هذا البحث.

على النقيض، فإن النص الروائي يخبرنا، على وجه التحديد، أي التفاصيل له علاقة بتأويل القصة، وبسيكولوجية الشخصيات، وغير ذلك، وأيها هامشي.

عند نهاية الكتاب 2، الفصل 35، من رواية “الأحمر والأسود“، يروي مؤلفها ستندال كيف يحاول جولين سوريل قتل مدام دي رينال في كنيسة فريير. وحيث ذُكر أن ذراع جولين كانت ترتجف، فإنه ينتهي قائلا: “في تلك اللحظة، قام القسيس الشاب، الذي يتولى مراسم القداس، بدق الناقوس من أجل عرض خبز التقدمة. خفضت مدام دي رينال رأسها، ومالبثت أن اختفت خلف طيات شالها. ولم يعد بمقدور جولين رؤية ملامحها بوضوح كاف، أطلق رصاصة نحوها، وأخطأها. أطلق رصاصة أخرى، فسقطت”(26)

في صفحة لاحقة نعرف أن جُرح مدام دير ينال غير قاتل: أصابت الرصاصة الأولى قبعتها، والثانية كتفها. من المثير ملاحظة أن ستندال ـ لأسباب فُتن بها العديد من النقاد(27) ـ يحدد أين انتهت الرصاصة الثانية: ارتدت من عظام كتفها إلى عمود قوطي، لتنتهي إلى الاصطدام بلوح هائل من الحجر. لكن على الرغم من أنه يقدم تفاصيل مسار الطلقة الثانية، فإنه يذكر القليل عن الطلقة الأولى.

ما زال الناس متحيرين عما حدث لطلقة جولين الأولى. لاشك أن العديد من المعجبين بستندال يحاولون تحديد موضع الكنيسة، والعثور على آثار الطلقة (مثل ألواح حجرية مفقودة من أعمدة أخرى). في السياق نفسه، فقد عُرف أن العديد من المعجبين بجيمس جويس يتجمعون في دبلن، لأجل العثور على الصيدلية التي اشترى منها بلووم صابونة الليمون ـ ومثل هذه الصيدلية موجودة، أو كانت ماتزال موجودة عام 1965، حين اشتريت نفس النوع من الصابون، أنتجتها الصيدليات القديمة[28] لإرضاء السائحين المعجبين بجويس.

دعونا نفترض الآن أن ناقدا يرغب في تأويل مجمل رواية ستندال، متخذا من الرصاصة المفقودة نقطة بدء. هناك أشكال أكثر جنونا من النقد! وحيث أن النص لا يجعل لتلك الطلقة المفقودة علاقة بالموضوع (في الواقع، لم يزد عن مجرد ذكرها)، فإنه يجوز لنا اعتبار مثل هذا التأويل تأويلا مستبعدا. النص الروائي لا يخبرنا، فقط، ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي في عالمه السردي، بل يخبرنا أيضا عن ما هو متعلق بالموضوع وما يمكن تجاهله باعتباره غير ذي قيمة.

ويوضح ذلك السبب في تولد الانطباع بأننا في موضع صنع تأكيدات غير قابلة للنقاش حول الشخصيات الروائية. فإنها حقيقة مؤكدة أن طلقة جولين سوريل الأولى فقدت أثرها، مثلما أنها حقيقة مؤكدة أن ميكي ماوس صديق ميني.

التأكيدات الروائية في مقابل التأكيدات التاريخية

هل تعتبر التأكيدات الروائية مثل: “انتحرت أنَّا كارينينا بإلقاء نفسها أمام قطار”، حقيقية كالتأكيدات التاريخية مثل: “انتحر هتلر، وأُحرقت جثته، في مخبأ في برلين”؟ إن استجابتنا الغريزية هي: أن العبارة المتعلقة بأنَّا كارينينا تشير إلى شيء مخترع، وأن تلك المتعلقة بهتلر فتتعلق بأمر حدث بالفعل.

وعليه، لنكون صائبين من حيث دلالية التصديق الشرطي، يجب علينا القول أن عبارة: “أنه حقيقي أن أنَّا كارينينا انتحرت بإلقاء نفسها أمام قطار” هي مجرد طريقة أخرى لإفادة “أنه أمر حقيقي في هذا العالم، أن نص رواية تولوستوي يؤكد أن أنَّا كارينينا قد انتحرت بإلقاء نفسها أمام قطار”.

إذا كان الأمر كذلك، فبحسب اصطلاحات المنطق، فإن العبارة الخاصة بأنَّا كارينينا ستكون صادقة، من جهة اللغة ومنطق العبارة، وليس من جهة الشيء نفسه، ومن وجهة النظر السيميوطيقية فإنها تُعنى بـمستوى التعبير وليس بـمستوى المحتوى[29] ـ أو بحسب اصطلاحات فرديناند دي سوسير: مستوى الدال بدلا من مستوى المدلول.

يمكننا تقديم حقائق حول شخصيات روائية؛ لأن ما حدث لهم مسجل في نص، نص أشبه بالمدونة الموسيقية[30]. “انتحرت أنَّا كارينينا بإلقاء نفسها أمام قطار” أمر حقيقي، مثلما هو حقيقي أن سيمفونية بيتهوفن الخامسة هي من مقام “مي” صغير (وليست من مقام “لا” كبير كسيمفونيته السادسة)، وأنها تبدأ بالجملة الموسيقية: “سي، سي، سي، صول ـ خفيض”.

دعوني أطلق على هذه الطريقة في اعتبار التأكيد الروائي اسم: “مقاربة إلى المقطع”. لكن يبقى أن مثل هذا الموقف غير مرضي تماما من جانب خبرة القارئ. إذا نحينا جانبا الكثير من المشكلات التي تنتج عن حقيقة أن قراءة مقطع تعد عملية تأويل معقدة، فيمكننا القول أن المدونة الموسيقية هي أداة سيميوطيقية، تخبر المرء عن كيفية إنتاج تسلسل صوتي معين. فقط، بعد تحويل سلسلة من العلامات المكتوبة إلى أصوات، يمكن للمستمعين القول أنهم يستمتعون بسيمفونية بيتهوفن الخامسة. (وهذا يحدث حتى للموسيقي البارع، القادر على قراءة المقاطع في صمت: الحقيقة، أنه يعيد إنتاج الأصوات في عقله). عندما نقول: “من الحقيقي في هذا العالم أن نصا في رواية تولوستوي يؤكد أن أنَّا كارينينا انتحرت بإلقاء نفسها أمام قطار”، فإننا، ببساطة، نقول أنه حقيقي في هذا العالم أنه في صفحات مطبوعة معينة هناك سلسلة من الكلمات المكتوبة التي تمكن القارئ ـ إذا قرأها (حتى ولو قراءة صامتة) ـ من معرفة أن هناك عالم سردي، يوجد فيه أناس مثل أنَّا كارينينا، وفرونسكي.

لكن حين الحديث عن أنَّا كارينينا وفرونسكي، فإننا، عادة، نتوقف عن التفكير في النص الذي قرأناه عن تغير الأحوال بهم. نتحدث عنهما كما لو كانا أناس حقيقيون.

صحيح (في هذا العالم) أن الإنجيل يبدأ بـعبارة: “في البدء…Bereshit”، لكن عندما نقول أن قابيل قتل أخاه، أو أن أبراهام كان على وشك التضحية بابنه ـ وغالبا عندما نحاول تأويل هذه الأحداث، بنحو أخلاقي أو صوفي رمزي ـ فإننا لا نشير إلى المقطع العبري الأصلي (الذي لا يألفه تسعون بالمائة من قراء الإنجيل)؛ إننا نتحدث عن محتوى وليس عن تعبير النص الإنجيلي. حقا نحن نعرف أن قابيل قتل أخاه بفضل المقطع الإنجيلي المكتوب، وقد تم افتراض أن وجود العديد من الأشياء غير المادية، المسماة: “أمور اجتماعية”، يجب أن تكون، أو يمكن إثباتها بوثيقة. لكننا سوف نرى لاحقا أن: (1) أحيانا ما تكون الشخصيات الروائية موجودة قبل أن يتم تسجيل وجودها في وثيقة مكتوبة (مثلما هو الحال مع الشخصيات الأسطورية والخرافية)، و(2) أن العديد من الشخصيات الروائية تنجح في الإبقاء على الوثائق التي سجلت وجودها.

في الواقع، فإن أحدا لا يستطيع (أعتقد) أن ينفي، بشكل عقلاني، أن أدولف هتلر وأنَّا كارينينا، نوعان مختلفان من الوجود، فلكل منهما حالته الأنطولوجية المختلفة. أنا لست ذلك الذي يسمونه باحتقار ـ في بعض الأقسام الأكاديمية في الولايات المتحدة الأمريكية ـ “النُّصُوصِي”، الشخص الذي يعتقد (مثلما يفعل بعض التفكيكيين) أن ليس ثمة حقيقة إلا للتأويلات، أي: للنصوص. وحيث أني طورت نظرية في التأويل تقوم على سيميوطيقا شارلز ساندر بيرس، فإني أفترض لإنجاز أي تأويل فلابد من وجود بعض الحقائق لتأويلها. (31) أن تقبل، مثلما أفعل، أن هناك اختلافا بين الحقائق التي هي، بدون شك، نصوص (كالنسخة المادية من كتاب أنت على وشك قراءته) وبين الحقائق التي ليس بنصوص (مثل حقيقة أنك تقرأ ذلك الكتاب) فإن يقيني شديد من أن هتلر إنسان حقيقي (على الأقل، سأعتقد ذلك حتى يأتي مؤرخون موثوقون ببينة مناقضة، تثبت أنه كان إنسان آلي بناه فرنر فون براون)، بينما أنَّا كارينينا كانت مجرد شخصية متخيلة من قبل عقل إنساني، وأنها، كما قد يقول البعض: “مصنوعة”(32).

على أية حال، يمكن للمرء القول، أن ليست الشخصيات الروائية فقط، بل الشخصيات التاريخية أيضا، ذات وجود لفظي: فالتلاميذ الذين يكتبون أن هتلر قد مات في مخبأ في برلين، يقررون، ببساطة، أن ذلك حقيقي بحسب كتبهم التاريخية. بمعنى آخر، أنه بخلاف الأحكام التي تستند إلى الخبرة المباشرة (مثل: “إنها تمطر”)، فإن كل الأحكام التي أُصدرها على خلفية من خبرتي الثقافية (أي: كل الأحكام المتعلقة بالمعلومات التي تسجلها الموسوعات ـ من أن الديناصورات عاشت في المرحلة الجوراسكية، وأن الرمز الكيميائي لحامض الكبريتيك هو H2SO4، وهكذا)، إنما تستند إلى معلومات نصية. وعلى الرغم من أنها تبدو معبرة عن حقائق واقعية، فإنها مجرد وقائع لفظية.

لذا، دعوني أستخدم مصطلح “الحقائق الموسوعية” للإشارة إلى كل بنود المعرفة العامة التي أتعلمها من موسوعة (مثل المسافة بين الأرض والشمس، أو حقيقة أن هتلر مات في مخبأ). إني أعتبر هذه القطع من المعلومات حقيقية؛ لأنني أثق بالمجتمع العلمي، وأقبل نوع من “قَسَم المعمل الثقافي” الذي أنُتدب له أناس متخصصون، لإثبات هذه المعلومات. غير أن لتأكيدات الموسوعة حدود. فإنها ما تزال قابلة للمراجعة، بما أن العلم، بحكم التعريف، مهيأ دوما لإعادة النظر في مكتشفاته. إذا ما احتفظنا بعقل مفتوح، فعلينا الاستعداد دوما لمراجعة آرائنا حول موت هتلر، في حال ما تم اكتشاف وثائق جديدة، وأن نعدِّل اعتقاداتنا عن المسافة بين الأرض والشمس، كنتيجة للمقاييس الفلكية الجديدة. إضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن هتلر مات في أحد المخابئ، هي مما يشكك بعض المؤرخين بها بالفعل. مما يمكن تصوره: أن هتلر عاش إلى سقوط برلين في يد الحلفاء، وأنه هرب إلى الأرجنتين، وأن أحدا لم يُحرق في المخبأ، أن المحترق كان شخصا آخر، وأن انتحار هتلر قد تم اختراعه لأسباب دعائية من قبل الروس، الذين وصلوا إلى المخبأ، أو أن المخبأ نفسه لم يكن له وجود على الإطلاق، حيث أن تحديد موقعه بدقة مازال موضع خلاف، وهلم جرا، وهكذا دواليك.

على النقيض، فإن التأكيد أن “أنَّا كارينينا قد انتحرت بإلقاء نفسها أمام قطار” لا يمكن أن يكون موضع شك.

إن كل تأكيد يتعلق بالحقائق الموسوعية يجب أن يخضع للاختبار من حيث الصحة التجريبية الخارجية (وبحسبها يقول المرء: “زودني بالدليل على أن هتلر قد مات بالفعل في مخبأ”)، بينما تتعلق التأكيدات الخاصة بانتحار أنا كارينينا بحالة الصحة النصية الداخلية (بمعنى أن المرء ليس بحاجة للذهاب خارج النص لإثباتها). على أساس من مثل هذه الصحة الداخلية، سوف نعتبر من يقول أن أنَّا كارينينا تزوجت بيسوكوف، مجنونا، أو واهي المعلومات، بينما سنكون أقل إقصاء لشخص يعلن شكوكه حول موت هتلر.

على أساس من نفس الصحة الداخلية، فلا يمكن إن نخطئ في هوية الشخصية الروائية. في الحياة الواقعية، مازلنا غير متأكدين من هوية الرجل ذي القناع الحديدي، نحن لا نعلم من يكون كاسبر هاوسر بالفعل، نحن لا نعلم ما إذا كانت أنستازيا نيكلايفنا رومانوفا قد تم اغتيالها، مع بقية العائلة الملكية الروسية، في ييكاتيرينبرج، أم أنها نجت، ثم ظهرت في صورة المرأة الجذابة المطالبة بالعرش، التي لعبت انجريد برجمان دورها لاحقا. على النقيض، فإننا نقرأ روايات أرثر كونان دويل، ونحن متأكدون من أنه، حين يشير شيرلوك هولمز إلى واطسون، فإنه دائما يسمي الشخص نفسه، وأن مدينة لندن ليس فيها اثنان يحملان الاسم نفسه، أو نفس مجال العمل ـ وإلا لكان النص قد بين، على الأقل، هذا الحال. لقد سبق أن قدمت ما يخالف نظرية سول كريبكي في التعيينات الجامدة(33)، ولكني أعترف ، بطيب خاطر، أن مثل هذه الفكرة تصلح في العوالم الروائية الممكنة. بإمكاننا تعريف دكتور واطسون بأكثر من طريقة، لكن يبقى واضحا أنه الشخص الذي أُطلق عليه اسم واطسون في رواية “دراسة للون القرمزي” للمرة الأولى، بواسطة شخصية اسمها ستامفورد، وأنه من الآن فصاعدا، فإن كلا من شيرلوك هولمز وقراء آرثر كونان دويل، باستخدامهم الاسم “واطسون”، يقصدون الإشارة إلى تلك الواقعة الأصلية الأولى. من الممكن أنه في رواية لم تُكتشف بعد، أن يقول كونان دويل أن واطسون كذب بادعائه أنه جُرح في معركة مايواند، أو أنه تدرب في مجال الطب. لكن حتى في هذه الحالة؛ أن ينكشف تزوير دكتور واطسون، فإنه سيظل ذلك الشخص الذي قابل شيرلوك هولمز في “دراسة للون القرمزي” لأول مرة.

إن الهوية القوية للشخصية الروائية تظل مشكلة شديدة الأهمية. يخبرنا فيليب دومينك في كتابه “تحقيق مضاد في موت إيما بوفاري(34) عن قصة محقق شرطة يثبت أن مدام بوفاري لم تقتل نفسها بالسم، إنما تم قتلها. الآن، اكتسبت هذه الرواية نكهة ما، لأن القراء يعتبرونه أمرا مسلما به أن إيما بوفاري “في الواقع” قد قتلت نفسها بالسم. يمكن لرواية دومينك أن تمتع القراء بنفس الطريقة التي يستمتع بها القراء بما يسمى: قصص “المعالجة الخيالية للواقع”[35] قصص دنيوية مماثلة لليوتوبيات، نوع من (“القصص التاريخية”، أو قصص الخيال العلمي التي تحكي عن الماضي)، التي يتخيل فيها المؤلف، على سبيل المثال، ما الذي كان يمكن أن يحدث لأوروبا إذا انتصر نابليون في معركة واترلو. يمكن لرواية المعالجة الخيالية للواقع أن تكون ممتعة، فقط، إذا عرف القارئ أن نابليون قد هُزم في واترلو. بالمثل، لكي يستمتع برواية دومينك، فعلى القارئ أن يوقن أن مدام بوفاري قد انتحرت بالفعل. وإلا، لماذا أكتب ـ أو أقرأ ـ مثل هذه القصة المخالفة للواقع؟

الوظيفة الإبستمولوجية (المعرفية) للتصريحات الروائية

نحن لما نتحقق بعد أي نوع من الكيانات هي الشخصيات الروائية، بعيدا عن المقاربة إلى المقطع. لكننا في موقف يسمح لنا بالقول أن التأكيدات الروائية[36]، بسبب من طريقة استخدامنا لها، وتفكيرنا فيها، تعد جوهرية بالنسبة لتوضيح فكرتنا الحالية عن الحقيقة.

لنفترض أن أحدهم سأل: ما معنى أن يكون التأكيد حقيقيا، ولنفترض أننا أجبنا بالتعريف الشهير الذي صاغه ألفريد تارسكي، وبحسبه فإن “الثلج أبيض” صادقة إذا كان كذلك، وإذا كان فقط الثلج أبيض. كنا لنقول شيئا مثيرا للغاية لتحفيز النقاش العقلي، ولكنه قليل الفائدة بالنسبة للأناس العاديين (فمثلا، ما كنا لنعرف ما نوع البرهان المادي الكافي الذي يتمكن المرء بحسبه من تأكيد أن الثلج أبيض). يجب علينا القول، بالأحرى، أن التأكيد يكون حقيقيا بنحو لا يقبل النقاش، حينما يكون غير قابل للدحض، بمثل ما هو التأكيد بأن: “سوبرمان هو كلارك كنت”.

عموما، فإن القارئ يقبل، كأمر غير قابل للدحض، فكرة أن أنَّا كارينينا قد انتحرت. ولكن حتى إذا أراد المرء البحث عن دليل تجريبي خارجي، فإنه يكفي، لقبول المقاربة إلى المقطع (والتي بحسبها يكون حقيقيا أن تولوستوي، كتب كذا وكذا، في كتاب يمكن الرجوع إليه، واسترجاع ما قال)، أن يكون لديك الإحساس أن المعلومات المعطاة تعزز هذا التأكيد ـ أما بالنسبة لموت هتلر، فإن كل دليل هو موضع نقاش أبعد من ذلك.

لكي نقرر ما إذا كان عبارة: “مات هتلر في مخبأ في برلين” حقيقية بلا جدال، يجب علينا أن نحدد ما إذا كنا نعتبر هذه العبارة حقيقية بلا أي شك، مثل عبارة: “سوبرمان هو كلارك كنت” أو عبارة: “انتحرت أنَّا كارينينا بإلقاء نفسها أمام قطار”. فقط، بعد إجراء هذا الاختبار، يمكننا القول أن عبارة: “مات هتلر في مخبأ في برلين” محتملة الصدق، ربما كانت ذات احتمالية صدق كبيرة، ولكن ليس إلى درجة اعتبارها حقيقية لا شك فيها (أما عبارة: “سوبرمان هو كلارك كنت” فلا يمكن الطعن فيها). يمكن لكل من بابا الفاتيكان والدلاي لاما أن يقضيا أعوام في النقاش حول ما إذا كان حقيقيا أن يسوع المسيح ابن الرب، لكن (إذا ما كانا مطلعين على الأدب، والكتب الهزلية) فسيتحتم عليهما الإقرار بأن كلارك كِنْت هو سوبرمان، والعكس بالعكس. وهكذا، فإن هذه هي الوظيفة المعرفية للتأكيدات الروائية: أن يمكن استخدامها بمثل اختبار صبغة دوار الشمس[37] لبيان عدم إمكانية دحض الحقائق.

أفراد متنقلون في مدونات متغيرة

إن اقتراح تطبيق وظيفة أنماط الحقائق[38] على الحقائق الروائية، لا يفسر لنا سبب بكائنا لما يصيب الشخصيات الروائية من محن. فلا يُتوقع من أحد أن يتأثر بسبب أن تولوستوي كتب أن أنَّا كارينينا قد ماتت. لكن المرء يتأثر، في الغالب، لأن أنَّا كارينينا ماتت ـ حتى لو لم يكن المرء مدركا لحقيقة أن تولوستوي هو أول من كتب عنها.

لاحظ أن ما قلته توا يصدق على أنَّا كارينينا، وكلارك كنت، وهاملت، والعديد من الشخصيات الأخرى، ولكن ليس على كل شخصية روائية. لا أحد يعرف (عدا المتخصصون في توافه نيرو وولف) من هو دانا هاموند، وماذا فعل. يمكن للمرء، على الأكثر، القول أنه في الرواية المعنونة في أحسن العائلات (نشرها ركس ستاوت عام 1950)، يقرر النص أن رجل بنوك يُدعى دانا هاموند فعل كذا وكذا. لقد ظل دانا هاموند، إذا جاز التعبير، أسيرا لمدونته الأصلية. على العكس من ذلك، فإذا أردنا أن نذكر مثالا لرجل بنوك شهير، وسيئ سمعة، سنذكر البارون نوسينجين، الذي اكتسب، بشكل ما، القدرة على الحياة خارج كتب بلزاك، حيث ولد. لقد أصبح نوسينجين ما تسميه بعض النظريات الجمالية: “نمط عالمي”، أما دانا هاموند، فوا أسفاه، لم يكن كذلك. أمر مؤسف بالنسبة له.

بهذا المعنى، يجب علينا افتراض أن بعض الشخصيات الروائية تكتسب نوعا من الوجود المستقل عن مدوناتهم الأصلية. كم عدد الأشخاص، ممن يعلمون مصير أنَّا كارنينا، قد قرأوا كتاب تولوستوي؟ وكم من هؤلاء قد سمع عنها خلال الأفلام السينمائية (فيلمان من بطولة جريتا جاربو) والمسلسلات التلفزيونية؟ أنا لا أعلم الإجابة الدقيقة، ولكن يمكنني بالتأكيد القول أن الكثير من الشخصيات الروائية “تعيش” خارج المدونة التي وهبتهم الوجود، وينتقلون إلى منطقة من العالم نجد صعوبة شديدة في تعيين تخومها. بل إن بعضهم يهاجر من نص إلى نص، لأن الخيال الجمعي، على مدار القرون، استثمرهم عاطفيا، وحولّهم إلى أشخاص متنقلون. معظمهم من شخصيات الأعمال الفنية العظيمة، أو من الأساطير، ولكن من المؤكد أن ليس جميعهم. ومن ثم، فإن مجتمعنا من الكيانات المتنقلة يشمل: هاملت، وروبين هود، وهيثكليف وميللادي، وليوبولد بلوم، وسوبرمان.

وحيث كنت دوما مولعا بالشخصيات المتنقلة، اخترعت، ذات مرة، المعارضة الأدبية التالية (أستميحكم العذر في هذه السرقة الأدبية الذاتية البسيطة):

فيينا، 1950. عشرون عاما مضت، ولكن سام سبِايد[39] لم يتخلى عن بحثه عن الصقر المالطي[40]، هو الآن على صلة بهاري لايم، وهما الآن يتبادلان الحديث، متخفيان، أعلى العجلة الدوارة في مدينة الملاهي. يهبطان، ويمضيان سيرا على الأقدام إلى مقهى موتزارت، حيث يعزف سام أغنية “بمرور الوقت” على القيثارة. على منضدة في الجانب الخلفي، يجلس ريك، واضعا سيجارة في جانب فمه، وعلى وجهه تعبير مرير. كان قد عثر على دليل في الأوراق التي أراها له أوجارت، والآن، يُري سام سبايد صورة فوتوجرافية لأوجارت: “القاهرة!”، تمتم رجل التحري. يواصل ريك كلامه: عندما دخل باريس منتصرا بصحبة الكابتن رينولت، كعضو في جيش التحرير التابع لديجول، سمع عن امرأة قاتلة معينة (التي يُظن أنها التي اغتالت روبرت جوردان خلال الحرب الأهلية الأسبانية)، والتي وضعها رجال الخدمة السرية في طريق الصقر. ستكون هنا في أية لحظة. يُفتح الباب، وتظهر امرأة. “إلسا!” صاح ريك. “بريجيد!” صاح سام سبايد. “أنَّا شميدت!” صاح لايم. “الآنسة سكارليت!” صاح سام، “ها قد عدتِ! لا تدعي رئيسي يعاني أكثر من ذلك”.

ومن ظلمة البار، خرج رجل تعلو وجهه ابتسامة ساخرة. إنه فيليب مارلو. “لنذهب، أنسة ماربل” قال للمرأة، “الأب براون ينتظرنا في شارع بيكر”(41).

لا يحتاج المرء إلى أن يكون قد قرأ المدونة الأصلية ليكون على دراية بالشخصية المتنقلة. إن الكثير من الناس يعرفون عوليس من دون أن يقرأوا الأوديسة، والملايين من الأطفال الذين يتحدثون عن “ذات الرداء الأحمر”، لم يقرأوا أبدا المصدرين الأساسيين للقصة: التي ألفها شارل بيرو، وتلك التي ألفها الأخوان جريم.

أن تصير الشخصية الروائية كيانا متنقلا، أمر لا يتعلق بالخصائص الجمالية للمدونة الأصلية. لماذا ينتحب الكثير من الناس لانتحار أنَّا كارينينا، فيما يحزن القليل من عشاق فيكتور هوجو لانتحار سيموردِاين في روايته “الثالث والتسعون“؟ بالنسبة لي شخصيا، فإن تأثري أكثر عمقا بمصير سيموردِاين (بطل تذكاري) من مصير تلك السيدة المسكينة. أمر سيئ للغاية ـ الأغلبية ضدي. من الذي يذكر ـ عدا المعجبين بالأدب الفرنسي ـ أوجستين ميولنه؟ رغم أنه كان، ولم يزل، الشخصية الرئيسية لرواية عظيمة من تأليف آلان فورنيير: ميولنه العظيم. بعض القراء، ممن يتميزون بالحساسية، ويمكنهم التعامل بعمق وتعاطف شديدين مع هذه الروايات، يرحبون بأوجستين ميولنه وسيموردِاين في ناديهم. غير أن معظم القراء المعاصرين لا يتوقعون أن يقابلوا هذه الشخصيات، وجها لوجه، في الطريق ـ في حين أني قرأت مؤخرا أنه، بحسب استطلاع للرأي، فإن عشرين بالمائة من المراهقين البريطانيين يعتقدون أن وينستون تشرشل، وغاندي، وديكنز، شخصيات روائية، وأن شرلوك هولمز، وإليانور ريجبي، شخصيات حقيقية. (42) وهكذا، يبدو أنه بإمكان تشرشل أن يملك مكانة مميزة كشخصية روائية لمتنقلة ، بينما لا يمكن ذلك لأوجستين ميولنه.

هناك شخصيات تحظى بمعرفة واسعة، من خلال تجسدها خارج النص، بأكثر مما تحظى به من خلال دورها الذي لعبته في قلب نص أدبي معين. لنأخذ حالة “ذات الرداء الأحمر”. في نص شارل بيرو. يأكل الذئب الفتاة الصغيرة، وتنتهي القصة، لتصبح مصدر إلهام لأفكار مهمة حول مخاطر التهور. وفي نص الأخوين جريم، يصل الصياد، ويقتل الذئب، وينقذ الطفلة وجدتها من الموت. في تلك الأيام، فإن ذات الرداء الأحمر التي تعرفها كل الأمهات والأطفال، ليست هي ذات الرداء الأحمر الخاصة بشارل بيرو والأخوين جريم. تأتي النهاية السعيدة من نسخة الأخوين جريم، بالتأكيد، لكن العديد من التفاصيل الأخرى هي نوع من التوفيق بين النسختين. إن “ذات الرداء الأحمر” التي نعرفها تنتج عن مدونة متغيرة ، أكثر أو أقل من تلك التي تقاسمتها كل الأمهات وكتاب قصص الأطفال.

العديد من الشخصيات الأسطورية انتمت إلى هذا العالم المشترك قبل أن تصبح شخصية في نص معين. لقد كانت شخصية أوديب موجودة في العديد من القصص الأسطورية قبل أن يصبح موضوعا لمسرحيات سوفوكليس. وبعد عدة معالجات سينمائية، لم يعد الفرسان الثلاثة أولئك الذين أبدعهم ألكسندر دوماس. كل قراء قصص نيرو وولف يعرفون أنه كان يعيش في مانهاتن، في مبنى من الحجر البني، يقع في موضع ما في غرب الشارع الخامس والثلاثين ـ غير أن روايات ركس ستاوت تذكر، على الأقل، عشرة أرقام مختلفة للمنزل. في لحظة بذاتها، فإن نوعا من الاتفاق الضمني أقنع المعجبون بوولف أن الرقم الصحيح للمنزل هو 454؛ وفي 22 يونيو 1996، قامت مدينة نيويورك، ومنظمة تُدعى وولف باك، بتكريم ركس ستاوت ونيرو وولف، بتقليدهما نيشانا برونزيا، في 454 غرب الشارع الخامس والثلاثين، وهذا يعد تصديقا بأن هذه البقعة باعتبارها موقع المبنى الحجري الروائي.

بالطريقة نفسها، ديدو، وميديا، ودون كيشوت، ومدام بوفاري، وهولدين كولفييلد، وجاِي جاتسبي، وفيليب مارلو، والمحقق ميجريت، وهيركيول بوارو، جميعهم صار إلى الوجود من خارج مدوناتهم الأدبية الأصلية ـ وحتى أولئك الذين لم يسبق لهم أبدا قراءة أعمال فيرجيل، ويوريبيدوس، وسيرفانتس، وفلوبير، وسالينجر، وفيتزجرالد، وشاندلر، وسيمينون، أو كريستي، بإمكانهم ادعاء تقديم تأكيدات حقيقية عن هذه الشخصيات. ولكونهم مستقلين عن النص، وعن العالم الممكن الذي ولدوا فيه، فإن هذه الشخصيات (إذا جاز التعبير) تدور بيننا، ونجد صعوبة في التفكير فيهم باعتبارهم أي شيء سوى أشخاص حقيقيين. وبالتالي، فنحن لا نعتبرهم، فقط، نماذجا لحياتنا الشخصية، بل أيضا، نماذجا لحياة الآخرين. فربما نقول أن شخصا ما، نعرفه، يعاني من عقدة أوديب، أو “له شهية جارجنتية”[43]، أو “غيور كعطيل”، أو “شكاك كهملت”، أو “سكروج “.[44]

الشخصيات الروائية كموضوعات سيميوطيقية

عند هذه النقطة، فعلى الرغم من أنني ذكرت أن اهتمامي الأول، في هذا المقام، ليس وجوديا، فإني لا أستطيع الهرب من سؤال وجودي أساسي: أي نوع من الكيانات تكون الشخصية الروائية، وبأي شكل ـ إن لم تكن تتصف بالوجود الحقيقي ـ تحيا هذه الكيانات؟

من المؤكد أن الشخصية الروائية هي موضوع سيميوطيقي؛ أعني بذلك: مجموعة من الخصائص المسجلة في موسوعة أحد الثقافات، وتم نقلها بتعبير معين (كلمة، صورة، أو أي أداة أخرى). مثل هذه الكتلة من الخصائص هي ما نسميه “معنى”، أو “مدلول” التعبير. وعلى هذا، فإن كلمة “كلب” تعبِّر ـ كمحتواها ـ عن خصائص مخلوق، هو حيوان، ثديي، من فصيلة الكلبيات، حيوان نابح، أفضل صديق للإنسان، والعديد من السمات الأخرى، المذكورة في موسوعة شاملة. هذه الخصائص، بدورها، يمكن تأويلها بعبارات أخرى، وتؤسس تلك السلسلة من التأويلات المترابطة كل الأفكار المعنية بهذا المُدخَل، والتي يتشارك فيها مجتمع ما، والمسجلة بنحو جمعي.

هناك العديد من الموضوعات السيميوطيقية، بعضها يمثل فئات من الموضوعات ذات الوجود المادي (على سبيل المثال: فئة “الأنواع الطبيعية”، ويتم التعبير عنها بكلمات مثل “حصان”، أو من فئة “الأنواع الصناعية”، ويتم التعبير عنها بالكلمات، مثل: “منضدة”)، والبعض الآخر يمثل الأفكار المجردة، أو الموضوعات الفكرية (مثل: “حرية”، أو “الجذر التربيعي”)، والبعض الآخر ينتمي إلى فئة تسمى “موضوعات إجتماعية”، وهذه تتضمن: الزواج، المال، الدرجات الجامعية ـ وبوجه عام: أي كيان تأسس بحسب اتفاق جمعي، أو قانون. (45)

غير أن هناك، أيضا، موضوعات سيميوطيقية تمثل شخصيات فردية، أو أبنية، رُمز إليها بأسماء أعلام، مثل: “بوسطن”، أو “جون سميث”. أنا لا أتفق مع نظرية “التعيين الصارم”، والتي بمقتضاها يشير تعبير معين، بالضرورة، إلى الشيء نفسه في كل العوالم الممكنة، بغض النظر عن أي تغيرات في الظروف. أعتقد جازما أن كل اسم علم هو مشجب نعلق عليه مجموعة من الخصائص، وعلى هذا ، فإن اسم “نابليون” ينقل لنا خصائص معينة: رجل وُلد في قرية أجاكسيو، أدى الخدمة كجنرال للقوات الفرنسية، أصبح إمبراطورا، انتصر في معركة أوسترليتز، مات في جزيرة سانت هيلانة في 5 مايو، 1821، وهكذا. (46)

تشترك أغلبية الموضوعات السيميوطيقية في سمة مهمة: امتلاكها مرجعا[47] محتملا. بعبارة أخرى، يملكون خاصية أن لهم وجودا فعليا (مثلما هو الحال مع المدخل “جبل إيفرست”)، أو كان لهم وجود سابقا (مثلما هو الأمر مع “شيشرون”[48])، وغالبا ما يوصل المُدخَل تعليمات لأجل تحديد المرجع. كلمات مثل: “حصان”، أو “منضدة”، تمثل فئات من الموضوعات ذات الوجود المادي، أما الموضوعات الذهنية مثل: “حرية”، أو “الجذر التربيعي”، فيمكن أن تكون متصلة بفئات فردية ملموسة (إن دستور ولاية فيرمونت، مثلا، يمثل حالة ضمان الحرية لكل مواطن. و1.7320508075688772 هو الجذر التربيعي للرقم 3)، ويمكن لذلك نفسه أن يقال بالنسبة للموضوعات الاجتماعية (الحدث س هو حالة زواج). غير أن هناك حالات من النوع الطبيعي، أو الصناعي، أو المجرد، أو الاجتماعي، مما لا يمكن ربطها بأي خبرة فردية. وهكذا، فإننا نعرف معنى (الخصائص المزعومة) لـ”الحصان المقرن”[49]، و”الكأس المقدسة”[50]، و”القانون الثالث للروبوتات”[51] كما عرَّفه إسحاق عظيموف، و”الدائرة المربعة”، و”ميديا”[52]، ولكننا نعي أننا لا نستطيع تحديد أي مثال لهذه الموضوعات في عالمنا الواقعي.

سأطلق على هذه الكيانات: “موضوعات قصدية خالصة”[53]، إذا لم يُستخدم المُدخَل من قِبَل رومان إنجاردن لغرض آخر. (54) بالنسبة لإنجاردن، فإن الموضوعات القصدية الخالصة هي موضوعات من صنع الإنسان، كالكنيسة، أو الراية ـ فالموضوع الأول [الكنيسة] أكبر من مجموع أجزائه المادية، الموضوع الثاني [الراية] هو أكثر من مجرد قطعة من النسيج، إذ تم منحه قيمة رمزية، تقوم على توافق اجتماعي ثقافي. وعلى الرغم من هذا التعريف، فإن كلمة “كنيسة” تنقل أيضا معاييرا لتعريف الكنيسة، يتضمن المواد التي بُنيت بها، وحجمها المعتاد (فإن نسخة مصغرة، وطبق الأصل، مصنوعة من حلوى المرزبان، لكاتدرائية ريمز، ليست بكنيسة)، ومن الممكن أن تجد الموضوعات ذات الوجود المادي، والتي هي كنائس بالفعل (مثل كنيسة نوتردام في باريس، كنيسة سان بيتر في روما، أو كنيسة سان بازيل في موسكو). وعلى النقيض من ذلك، إذا عرَّفنا الشخصيات الروائية باعتبارها موضوعات قصدية خالصة، نعني: مجموعات من الخصائص التي لا يوجد أصل مادي مقابل لها في العالم الواقعي. إن التعبير: “أنَّا كارينينا” ليس له مرجع متجسد على الإطلاق، كما أننا لا يمكننا العثور على أي شيء في العالم يمكن للمرء أن يشير إليه ويقول: “هذه هي أنَّا كارينينا”.

دعونا، إذن، نعنون الشخصيات الروائية بأنها: “موضوعات قصدية مطلقة”.

أشارت كارولا باربيرو[55] إلى أن الشخصيات الروائية هي “موضوع من مرتبة أعلى” ـ أعني، أنه أحد تلك الموضوعات التي هي أكبر من مجموع خصائصها. موضوع من مرتبة أعلى “إنما ذُكر ليستند بوجه عام (وليس بنحو جامد) على عناصره وعلاقاته التأسيسية، حيث تعني “بوجه عام” أنه في حاجة إلى بعض العناصر التي تشكلت في صيغة معينة لتكون هي الموضوع، ولكنه ليس في حاجة إلى تلك العناصر المعينة بالضبط“.(56) الأمر الحاسم بالنسبة لإدراك الموضوع أنه يحتفظ بجشتالت[57]، علاقة ثابتة بين عناصره، حتى ولو لم تعد هذه العناصر هي نفسها. على سبيل المثال: “قطار الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة من نيويورك إلى بوسطن” هو موضوع، إذ يظل معروفا على الدوام باعتباره القطار نفسه، حتى إذا تغيرت عرباته كل يوم. ليس هذا فحسب ـ بل يبقى هو نفس الموضوع القابل للتعرف عليه حتى لو أُنكر وجوده، كما في حالة تأكيد الحجز: “قطار الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة من نيويورك إلى بوسطن قد أُلغي” و”بسبب عطل فني، فإن قطار الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة من نيويورك إلى بوسطن سيقلع في تمام الخامسة”. ومثال نموذجي للموضوع الأعلى مرتبة هو اللحن؛ فإن سوناتا البيانو رقم 2، مقام ري خفيض، القطعة 35، لشوبان، ستظل قابلة للتعرف عليها بصيغتها اللحنية حتى إذا تم عزفها على آلة الماندولين. أعترف أن نتيجة ذلك ـ من الوجهة الجمالية ـ ستكون كارثية، لكن سيستمر الحفاظ على النمط اللحني. كما ستظل تلك القطعة الموسيقية قابلة للتعرف عليها، إذا ما سقط بعض من نوتتها الموسيقية.

من المثير للاهتمام تحديد أي من النوتات يمكن إسقاطها، بدون تدمير الجشتالت الموسيقي، وأيها، على العكس من ذلك، تتسم بالجوهرية ـ أو “التشخيصية” ـ بالنسبة للحن ليمكن تحديدها. غير أن هذه ليست مشكلة نظرية؛ بل إنها، بالأحرى، مهمة الناقد الموسيقي، وسيكون لها حلول عدة، استنادا إلى الموضوع موضع تحليلنا.

تلك نقطة مهمة؛ لأن المشكلة ذاتها تحصل عندما نقوم ـ بدلا من اللحن ـ بتحليل الشخصية الروائية. هل كانت مدام بوفاري ستظل هي مدام بوفاري إذا لم تنتحر؟ عندما نقرأ رواية فيليب دومنك، يتولد لدينا ، بالتأكيد، الانطباع بأننا نتعامل مع نفس الشخصية التي نتعامل معها في كتاب فلوبير. ويرجع هذا الوهم “البصري” إلى حقيقة أن إيما بوفاري تظهر في مستهل الرواية كما لو كانت قد ماتت بالفعل، وتُذكر باعتبارها المرأة التي زُعم أنها انتحرت. البديل المقترح من قبل المؤلف (أنها قد قُتلت) يظل هو الرأي الشخصي لبعض الشخصيات في رواية دومنك، ولا يغير من السمات الأساسية لإيما بوفاري.

تقتبس باربيرو من قصة وودي آلن المعنونة “حادثة كوجلماس”[58]، حيث أُحضرت مدام بوفاري، بواسطة آلة ما للزمن، إلى مدينة نيويورك في الفترة الزمنية المعاصرة، وأقامت علاقة حب. (59) إنها تبدو كمحاكاة ساخرة لإيما بوفاري الخاصة بفلوبير؛ إذ ترتدي ملابس عصرية، وتتسوق في محلات تيفاني. ولكن تظل قابلة للتعرف عليه [باعتبارها إيما بوفاري] لأنها تظل محتفظة بمعظم خصائصها المميزة لشخصيتها؛ فهي من أبناء طبقة البرجوازية الصغيرة، متزوجة بطبيب، تعيش في يونفيل، غير راضية عن حياتها في البلدة الصغيرة، ولديها ميل للخيانة الزوجية. في قصة وودي آلان لا تنتحر إيما بوفاري، لكنها ـ وهذا أمر جوهري للطابع الساخر للسرد ـ فاتنة (مرغوب فيها) تحديدا بسبب أنها على وشك الانتحار. كان على كوجلماس أن يدخل بنحو يناسب الخيال العلمي إلى عالم فلوبير قبل أن تقيم إما بوفاري آخر علاقات خيانتها الزوجية، وهكذا، لا يكون قد وصل متأخرا.

هكذا، يمكننا ملاحظة أن الشخصية الروائية تظل هي نفسها، حتى لو حلت الشخصية في سياق مختلف، بشرط أن تظل سماتها الشخصية المميزة لها باقية؛ أي يجب للخصائص المميزة لكل شخصية أن تكون معرَّفة. (60)

ذات الرداء الأحمر، صبية، ترتدي معطفا ذا قلنسوة حمراء اللون، وتلتقي في طريقها ذئبا، يفترسها، ويفترس جَدتها لاحقا. تلك هي الملامح المميزة، برغم أن أناس مختلفون قد تتكون لديهم أفكار مختلفة عن عمر الصبية، عن نوع الطعام الذي تحمله في سلتها، وهكذا. هذه الصبية تتقلب بطريقتين: أنها تعيش خارج مدونتها الأصلية، وأنها نوع من السديم ذي الحدود المتعددة وغير الدقيقة. ومع ذلك، تبقى بعض خصائصها المميزة ثابتة، وتجعلها قابلة للتعرف عليها، في السياقات والمواقف المختلفة. ويتعجب المرء متسائلا، عما كان يمكن حدوثه لذات الرداء الأحمر، إذا لم تكن التقت الذئب في طريقها، ولكني عثرت، في مواقع إلكترونية متنوعة، على العديد من التمثلات لفتاة ترتدي قلنسوة حمراء، ويتراوح عمرها بين الخامسة والثانية عشرة، وفي كل مرة كنت أتعرف على بطلة الحكاية الخيالية. كان هناك أيضا صورة لفتاة شقراء مثيرة في العشرين من عمرها، وترتدي قلنسوة حمراء، وقد قبلت بها باعتبارها ذات الرداء الأحمر؛ لأن التعليق على الصورة قدمها باعتبارها كذلك، ولكني اعتبرت الأمر مزحة، محاكاة ساخرة، إثارة. فلكي تكون الفتاة هي ذات الرداء الأحمر فيجب عليها أن تُظهر، على الأقل، خاصيتان من الخصائص المميزة : يجب أن ترتدي قلنسوة حمراء، كما يجب أن تكون صغيرة. إن ذات وجود الشخصيات الروائية يلزم السيميوطيقا مراجعة بعض مقارباتها، التي تخاطر بكونها تبدو شديدة البساطة. يظهر المثلث السيميوطيقي التقليدي عادة كما في الشكل1. إن تضمين المرجع في هذا المثلث نتج عن حقيقة أننا غالبا ما نستخدم التعبيرات الشفاهية في الإشارة إلى شيء ما يوجد على نحو مادي في عالمنا. لقد تابعت بيتر ستراوسن في افتراض أن التنويه [بشيء ما] والإحالة [إلى شيء ما] ليست شيئا يفعله التعبير، بل هي بالأحرى شيء يفعله المرء باستخدام التعبير. فالتنويه أو الإحالة هو وظيفة تقصد إلى استخدام تعبير ما. (61)

um

(شكل 1)

من المشكوك فيه أننا ننجز عملا مرجعيا حين نقول أن الكلاب حيوانات، أو أن القطط لطيفة. يبدو أننا في هذه الحالة مازلنا نصدر أحكاما حول موضوع سيميوطيقي (أو فئة من الموضوعات)، نعزوه إلى خصائص معينة.

قد تقول عالمة أنها اكتشفت خصائص جديدة للتفاح، وهي تحقق عملا مرجعيا، عندما تقرر في قواعدها الإجرائية أنها اختبرت تلك الخصائص على ثمرات التفاح الحقيقية أ، ب، ج (مبينة لسلسلة الأشياء الحقيقية التي استخدمتها لإجراء التجارب والتي أجازت نتائجها). لكن بمجرد قبول اكتشافها من جهة المجتمع العلمي، فإن خصائص جديدة تُلحق بالتفاح عموما، وتصبح جزءا دائما من مضمون الكلمة “تفاح”.

إننا ننجز فعلا مرجعيا عندما نتحدث عن الأفراد ـ غير أن هناك اختلاف بين الإشارة إلى أفراد موجودين، وأفراد كانوا موجودين في الماضي. إن مضمون كلمة “نابليون” يجب أن يكون متضمنا، من بين خصائص نابليون، خاصية أنه مات في 5 مايو 1821. على العكس من ذلك، فإن خصائص مضمون كلمة “أوباما”، عندما يُستخدم في عام 2010، يجب أن يتضمن ملمح كونه حيا، وأنه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. (62)

يمكن تمثيل الاختلاف بين الإحالة إلى أفراد أحياء، والإشارة إلى أفراد عاشوا في الماضي، بواسطة مثلثين سيميوطيقيين مختلفين، كما في الشكلين 2 و3.

 um1

(شكل 2)

في هذه الحالة، فإن المتحدثين بقولهم: “خ” حين يحيلون إلى أوباما، فإن ذلك يدعو مستمعيهم إلى التحقق من “خ” (إذا رغبوا) في موضع زماني مكاني محدد في العالم المادي الموجود.(63)

 um3

(شكل 3)

على العكس من ذلك، فأيا من يقول: “خ”، محيلا إلى نابليون، فإنه لا يدعو الناس إلى التحقق من صحة “خ” في العالم الماضي. فإن لم يكن لدى أحدهم آلة زمن، فإنه لا يستطيع أن يعود إلى الماضي، ليفحص ويرى إذا ما كان نابليون قد أنتصر بالفعل في معركة أوسترليتز. كل عبارة حول نابليون، إما أنها تؤكد الخصائص التي تنقلها إلينا الكلمة “نابليون”، أو أنها تلمح إلى وثيقة مكتشفة حديثا، يتغير بمقتضاها ما نعتقد عنه حتى الآن ـ على سبيل المثال: أنه لم يمت في يوم الخامس، بل يوم السادس من مايو. فقط، عندما أثبت المجتمع العلمي أن الوثيقة ذات وجود مادي، أصبح بمقدورنا مواصلة تصحيح الموسوعة العامة ـ أي: تقديم الخصائص الصحيحة المعزوة إلى نابليون كموضوع سيميوطيقي.

يمكن، من الوجهة التصورية، أن يصبح نابليون الشخصية الرئيسية في إعادة بناء لسيرة ذاتية (أو رواية تاريخية)، تحاول إرجاعه إلى الحياة مرة أخرى، في زمنه، وتعيد تشكيل أفعاله، بل ومشاعره. في هذه الحالة، سيبدو نابليون شديد الشبه بشخصية روائية. نحن نعلم أنه كان موجودا بالفعل ـ ولكن لأجل أن نلاحظ، بل ونشارك في حياته، فإننا نحاول تصور عالمه المنتمي إلى الزمن الماضي، كما لو كان عالما محتملا لرواية.

ما الذي يحدث بالفعل في حالة الشخصيات الروائية؟ صحيح أن بعضها قد تم تقديمه كأناس عاشوا في “كان يا ما كان” (مثل: ذات الرداء الأحمر، وأنَّا كارينينا)، ولكننا قد أكدنا أنه بفضل الاتفاق السردي، فإن القارئ ملزم بأخذ ما تم سرده باعتباره حقيقة، وأن عليه التظاهر بالعيش في العالم الممكن للسرد، كما لو كان عالمه، أو عالمها، الواقعي. وغير ذي صلة بالموضوع ما إذا كانت القصة تحكي عن شخص حي مزعوم (كرجل تحريات يعمل حاليا في لوس أنجلوس)، أو ما إذا كانت تحكي عن شخص ميت مزعوم. يبدو الأمر كما لو أن شخصا ما أخبرنا أنه في هذا العالم قد مات أحد أقاربنا للتو؛ فإننا سنرتبط عاطفيا بالشخص الذي ما يزال موجودا في عالم خبراتنا.

قد يتخذ المثلث السيميوطيقي الصيغة البادية في شكل(4).

 um4

(شكل 4)

الآن، يمكننا أن نتفهم، بنحو أفضل، كيف يمكن للمرء أن يرتبط عاطفيا مع ساكني العالم الروائي الممكن، كما لو كانوا أناسا حقيقيين. ويحدث، بنحو جزئي، ولنفس السبب، أن تتحرك مشاعرنا بسبب حلم يقظة نرى فيه أحد أحبائنا يموت. في الحالة الأخيرة، عند نهاية استغراقنا في التفكير الحالم، نعود إلى حياتنا اليومية، وندرك أن ليس هناك داع للقلق، لكن ما الذي يحدث إن ظل المرء في مستغرقا في حلم اليقظة، بلا انقطاع؟

لكي يدوم ارتباطنا العاطفي بسكان العالم الروائي الممكن، يجب علينا أن نستوفي مطلبين: (1) يجب أن نعيش في العالم الروائي الممكن كما لو كنا نعاين حلم يقظة دائم، و(2) يجب علينا التصرف كما لو كنا أحد شخصيات الرواية.

لقد افترضنا أن الشخصيات الروائية قد وُلدت في قلب العالم الممكن للسرد، وأنهم إذا، وعندما يصبحون كيانات متنقلة، فإنهم يظهرون في أبنية سردية أخرى، أو ينتمون إلى مدونة متغيرة. وقد افترضنا أيضا، أنه تبعا لاتفاق ضمني ينشأ بنحو روتيني بواسطة قراء الرواية، فإننا نتظاهر بأننا نأخذ العالم الروائي الممكن على محمل الجد. وهكذا، يمكن أن يحدث، عندما ندلف إلى عالم سردي آسر، وتستحوذ روعته علينا، فإن الاستراتيجية النصية يمكن أن تُحدث شيئا شبيها بالانشراح الصوفي أو الهلوسة، وننسى، ببساطة، أن ما ولجناه هو مجرد عالم ممكن.

يحدث ذلك خاصة عندما نلقى شخصية في قلب مدونتها الأصلية، أو في سياق جديد ومغو، لكن، حيث أن هذه الشخصيات متنقلة، وإن جاز التعبير، تأتي وتذهب في عقولنا (كتلك النساء ـ في عالم قصيدة ت. س. إليوت ـ ” أغنية حب ج.ألفريد بروفروك”، اللائي يتحدثن عن مايكل أنجلو) كما أنهم مستعدون دائما إبهارنا، وجعلنا نعتقد أنهم يعيشون بيننا.

بالنسبة للمطلب الثاني، فما أن نشرع في العيش في العالم الممكن، كما لو كان هو عالمنا الواقعي، فإننا لا نصبح، إن جاز لنا التعبير، مسجلون رسميا فيه. ليس للعالم الممكن شأن بنا، فإننا نتحرك خلاله كما لو كنا رصاصة جولين سوريل المفقودة، غير أن تورطنا العاطفي يقودنا إلى أن نتقمص شخصية شخص آخر ـ شخص له حق العيش هناك. وبالتالي، فإننا نتلبس هوية إحدى الشخصيات الروائية.

حينما نفيق من حلم يقظة يموت فيه أحد أحبائنا، فإننا ندرك أن ما تخيلناه زائف، ونعتبر حقيقيا التأكيد بأن “محبوبي حي وفي حالة طيبة”، على العكس من ذلك، عندما تنتهي الهلوسة الروائية ـ عندما نتوقف عن التظاهر بأننا الشخصيات الروائية، لأنه، كما كتب بول فاليريه: “الريح عاصفة، يجب علينا محاولة البقاء أحياء” ـ فإننا نستمر في اعتباره أمرا حقيقيا أن أنَّا كارينينا انتحرت، وأن أوديب قتل أباه، وأن شيرلوك هولمز يعيش في شارع بيكر.

أعترف أن هذا سلوك غريب، ولكنه غالبا ما يحدث. بعدما نسكب الدموع، فإننا نطوي كتاب تولستوي، ونعود إلى: هنا والآن. ولكننا نظل على اعتبار أن أنَّا كارينينا قد انتحرت، ونظن أن من قال أنها تزوجت هيثكليف، مجنون.

كونها كيانات متنقلة، فإن رفقاء عمرنا المخلصون هؤلاء (بخلاف الموضوعات السيميوطيقية الأخرى، التي تعد موضع مراجعة ثقافيا)(64) لن يتغيروا أبدا، وسيظلون إلى الأبد هم المعبرون عن سماتهم الخاصة وأفعالهم. وبسبب عدم القابلية لتحريف أفعالهم، فبإمكاننا الادعاء دوما أنهم حقيقيون، وأنهم حازوا خصالا معينة، وتصرفوا بطريقة معينة. وسيظل كلارك كنت هو سوبرمان، الآن، وإلى نهاية الزمن.

موضوعات سيميوطيقية أخرى

هل هناك كيانات أخرى تشارك نفس المصير؟ نعم: كل أبطال وآلهة الأساطير؛ والكائنات الخرافية؛ كالحصان المقرَّن، والجنيات، وسانتا كلوز، وتقريبا كل الكيانات الممقدسة في العقائد المختلفة في العالم. من الجلي أنه بالنسبة للملحد أن كل الموجودات الدينية موجودات خيالية، أما بالنسبة للمؤمن فثمة عالم روحي، يتكون من موضوعات “خارقة للطبيعة” (آلهة، وملائكة، وغير ذلك) مما يتعذر إدراكه بحواسنا، ولكنه “واقعي” تماما ـ وبهذا المعنى، فإن كلا من الملحد والمؤمن يعولان على نظريتين مختلفتين في طبيعة الوجود. لكن إذا كان الكاثوليك الرومان يعتقدون في وجود الإله الشخص، وأن الروح القدس، وابنه يصدران عنه، بالتالي فسيعتبرون أن الله، عز وجل، والإله شيفا الهندوسي، والروح المقدسة للبراري لدى سكان أمريكا الأصليين، مجرد كيانات خيالية، أبدعتها الحكايات الدينية. ومثل ذلك بالنسبة للبوذي، فإن إله الإنجيل هو كيان خيالي، والروح العظيمة لقبائل الجونكيان، هي موجود خيالي بالنسبة للمسلم أو المسيحي. معنى ذلك؛ أنه بالنسبة للمؤمن بعقيدة معينة، فإن كل الكيانات الدينية الخاصة بالديانات الأخرى ـ بتعبير آخر: أن الغالبية العظمى من هذه الكيانات ـ هي كيانات خيالية. لذلك، فنحن ملزمون باعتبار أن تسعين في المائة، تقريبا، من كافة الكيانات الدينية خيالية.

تتضمن المصطلحات الخاصة بتلك الكيانات الدينية مرجعا سيميائيا مزدوجا. بالنسبة للشكاك، فإن المسيح شخص مادي حقيقي، عاش لمدة ثلاث وثلاثين عاما، في بدايات الألفية الأولى، أما بالنسبة للمسيحي الملتزم، فإنه، أيضا، كان ذو وجود مادي، وأنه ما زال حيا (في السماء، بحسب التصور السائد) وإن في حال وجود غير مادية(65). هناك العديد من حالات المرجعية السيميائية المزدوجة. أما إذا أتينا إلى تحقيق المعتقدات الحقيقية لعامة الناس، فسنكتشف أن بعض البريطانيين (كما لاحظنا آنفا) يعتقدون أن شيرلوك هولمز شخص حقيقي. بنحو مماثل، نجد العديد من الشعراء المسيحيين يستهلون قصائدهم بذكر ربات الإلهام، أو الإله أبوللو ـ ولا يمكننا القول ما إذا كانوا يذكرونهم كثيمة أدبية، أم أنهم ، بشكل ما، يعتقدون حقا بألوهية جبل الأوليمب. الكثير من الشخصيات الأسطورية صارت أبطالا لمؤلفات سردية، وبنحو مواز، صارت كثير من شخصيات المؤلفات العَلمَانية أقرب إلى شخصيات الحكايات الأسطورية. إن الروابط بين أبطال الحكايات الخرافية، وآلهة الأساطير، والشخصيات الأدبية، والكيانات الدينية، غالبا ما تكون ملتبسة.

القوة الأخلاقية للشخصيات الروائية

ذكرنا أنه بخلاف كافة الموضوعات السيميائية، القابلة للمراجعة من الوجهة الثقافية، والتي قد تشابه كيانات الرياضيات، فإن الشخصيات الروائية لن تتغير أبدا ، وستظل أبدا مرهونة بما فعلته. ويوضح ذلك سبب أهمية تلك الشخصيات بالنسبة لنا، وبشكل خاص من الوجهة الأخلاقية.

تصور أننا نشاهد عرضا لدراما سوفوكليس أوديب ملكا، نجدنا نرغب، بنحو يائس، في أن يسلك أوديب طريقا غير الذي وجد فيه أباه وقتله. ونتساءل لماذا أصيب في طيبة وليس في أثينا، مثلا، حيث كان يمكن له أن يتزوج من فرين أو إسباسيا، أو أي كان. كذلك، عند قراءتنا لمسرحية هاملت، ونتساءل لماذا لم يقم هذا الشاب اللطيف بالزواج من أوفيليا، والعيش سعيدا، بعدما يقتل عمه الوغد، وينفي أمه خارج الدنمارك. لماذا لا يُظهر هيثكليف ـ بطل رواية “مرتفعات ويزرنج” لإميلي برونتي ـ بعض الثبات والتحمل أمام ما لاقاه من إذلال، ويصبر إلى أن يتمكن من الزواج من كاترين، ويعيش معها كوجيه محترم؟ لماذا لم يتمكن الأمير أندريه ـ في رواية “الحرب والسلام” لتولستوي ـ من الصمود في مرضه القاتل، ويتزوج ناتاشا؟ لماذا استحوذ على راسكولنيكوف ـ في رواية “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي ـ ذلك الهاجس المرضي بقتل امرأة عجوز، بدلا من الانشغال بإنهاء دراسته ليصبح أستاذا محترما؟ لماذا، حينما تحول جريجور سامسا ـ في رواية “المسخ” لكافكا ـ إلى حشرة مثيرة للشفقة، لم تظهر في المشهد أميرة حسناء، تقبله، وتحوله إلى شاب من أجمل شباب براج؟ لماذا، في تلك التلال الجدباء، في إسبانيا، لم يضرب روبرت جوردون ـ في رواية “لمن تقرع الأجراس” لهيمنجواي ـ تلك الخنازير الفاشية، ويلحق بماريا الفاتنة؟

مبدئيا، بمقدورنا تحقيق كل هذه الأشياء، كل ما علينا فعله هو إعادة كتابة أوديب ملكا، وهاملت، ومرتفعات ويزرنج، والحرب والسلام، والجريمة والعقاب، والمسخ، ولمن تقرع الأجراس. لكن، هل نريد ذلك فعلا؟

إن التجربة المؤلمة الحاصلة، بالرغم من تمنياتنا، من أن هاملت، وروبرت جوردون، والأمير أندريه، يموتون ـ أن الأمور تجري بسياق محدد، للأبد، بغض النظر عما نتوق إليه، أو نأمل حدوثه، كما لو كنا نعاين يد القدر. ندرك أنه لا يمكننا معرفة ما إذا كان القبطان أهاب سيتمكن من صيد الحوت الأبيض. الدرس الحقيقي في رواية موبي دِكْ، هو أن أنثى الحوت تذهب حيثما تشاء. إن الطبيعة اللازمة للأعمال التراجيدية العظيمة تنبثق من حقيقة أن أبطالها، بدلا من الهرب من المصير المروع، يلقون بأنفسهم فيه ـ وهم من صنعوه بأيديهم ـ إذ لا يملكون فكرة عما ينتظرهم، ونحن، الذين نرى بوضوح إلام يتجهون ولا يرونه، ولا يمكننا منعهم. إن لدينا مدخل معرفي للولوج إلى عالم أوديب، ونعرف كل شيء عنه، وعن جوكاستا ـ وبالرغم من أنهما يعيشان في عالم يستمد وجوده من عالمنا، فإنهما لا يعرفان شيئا عنَّا. ليس في مقدور الشخصيات الروائية التواصل مع البشر في الحياة الواقعية(66).

تلك ليست بالمسألة الهزلية كما يبدو؛ رجاء، حاول اعتبارها مسألة جدية، فأوديب ليس في مقدوره إدراك عالم سوفوكليس، وإلا لما أنتهى به الأمر إلى الزواج بأمه، فالشخصيات الروائية تعيش في عالم غير مكتمل ـ أو إذا عبرنا بشكل أشد قسوة، وغير ملائم سياسيا ـ عالم معاق.

عندما نفهم مصائرهم، بالفعل، نبدأ في الظن بأننا، أيضا، كمواطنين نعيش هنا والآن، كثيرا ما نلقى مصيرنا؛ ببساطة، لأننا نفكر في عالمنا بمثل ما تفكر الشخصيات الروائية في عالمها. تفترض الرواية احتمال أن نظرتنا إلى العالم الواقعي غير تامة، مثلما هي نظرة الشخصيات الروائية إلى عالمها، ويوضح ذلك السبب في أن تصبح الشخصيات الروائية الناجحة نماذج متميزة للحالة الإنسانية “الواقعية”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حواشي الفصل الثالث: بعض الملاحظات حول الشخصيات الروائية

[1] الخيمياء: نوع من الكيمياء، ترجع ممارسته إلى العصور الوسطى، ويمازجه نوع من التأمل الفلسفي، والغاية منه تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب، واختراع دواء لكل الأمراض، وإكسير لإطالة الحياة. [المترجم]

(2( Umberto Eco, Foucault’s Pendulum, trans. William Weaver (New York: Harcourt,1989),ch. 57.

(3)بهذه المناسبة، فإن القس فاريا شخصية حقيقية، استلهم ألكسندر دوماس شخصية الكاهن البرتغالي الغامض تلك، لكن فاريا الحقيقي كان مهتما بالتنويم المغناطيسي، ولا علاقة له بمعلم مونت كريستو. اعتاد ألكسندر دوماس على استعارة بعض الشخصيات التاريخية (كما فعل مع شخصية دارتنيان)، غير أنه لم يتوقع من قرائه أن ينشغلوا بالحياة الواقعية المرتبطة بتلك الشخصيات. (إكو)

(4) زرت تلك القلعة، بعد عدة سنوات، ورأيت زنزانة مونت كريستو، وكذلك نفق الهروب الذي حفره الكاهن فاريا.(إكو)

[5] أونوريه ميرابو: هو أونوريه جابرييل ريكويتي ، ويعرف بالكونت دي ميرابو، خطيب الثورة الفرنسية، ثوري فرنسي، وصحافي، وسياسي، وكاتب. [المترجم]

(6) Alexander Dumas, Viva Garibaldi!Une Odyssée en 1860 (Paris: Fayard,2002),ch. 4.

[7] سكارليت أوهارا: الشخصية الروائية الرئيسية لرواية “ذهب مع الريح”، فتاة جميلة، عانت الكثير في حياتها من هجر الحبيب، وموت الزوج، والفقر، وانتهت إلى حياة زوجية قاسية. [المترجم]

[8] سيرانو دي برجراك: مسرحية للشاعر الفرنسي إدموند روستان، أبطالها: سيرانو: الفارس النبيل، دميم الوجه، الذي يعشق ابنة عمه، وروكسان: ابنة عم سيرانو، المحبة للتكلف في الكلام والاهتمام ببلاغة الحديث، وكريستيان: نبيل يهوى روكسان، ويساعده سيرانو في كتابة الرسائل البليغة إليها، مضحيا بحبه لها، لأجل إسعادها. [المترجم]

(9) اعتاد صديق لي، رقيق الحاشية، وذو حساسية عالية، القول: “كلما رأيت علما مرفرفا في أحد الأفلام، بكيت، بغض النظر عن هوية ذلك العلم”. على أية حال، فإن حقيقة تأثر البشر بالشخصيات الروائية، قد تزايد الاهتمام بها، في كثير من الكتابات، في مجالي علم النفس، والنقد الأدبي المهتم ببنية السرد. (إكو)

لأجل نظرة شاملة على الموضوع، انظر:

Margit Sutrop, “Sympathy,Imagination, and the Reader’s Emotional Response to Fiction,” in Jürgen Schlaeger and Gesa Stedman, eds.,Representations of Emotions (Tübingen: Günter Narr Verlag,1999), 29-42. See also Margit Sutrop, Fiction and Imagination (Paderborn: Mentis Verlag, 2000), 5.2; Colin Radford, “How Can We Be Moved by Fate of Anna Karenina?” Proceeding of the Aristotelian Society, 69, suppl. (1975): 77; Fracis Farrugia, “Syndrome narrative et archetypés romanesques de la sentimentalité:Don Quichotte, Madame Bovary, un discourse du pape, et autres histoires,” in Farrugia et al., Emotins et sentiments: Une construction sociale (Paris: L’Harmattan, 2008).

([1]0) See Gregory Currie, Image and Mind (Cambridge: Cambridge University Press,1995).

الكاثارسيس، كما عرفه أرسطو: هو نوع من الأوهام العاطفية، يقوم على اندماجنا مع أبطال الأعمال التراجيدية، مما يؤثر في شعورنا بالأسى والهلع، عندما نشهد ما يحدث لهم. (إكو)

[1[1]] الأنطولوجيا: علم الوجود، وهو فرع في الفلسفة (الميتافيزيقا)، يبحث في طبيعة الوجود والموجودات، وجوهر الأشياء. [المترجم]

[2[1]] السيميوطيقا: علم يبحث في الرموز والعلامات، واستخداماتها، وتأويلاتها. [المترجم]

[3[1]] أنطولوجيا مينونج: بحسب نظرية الفيلسوف النمساوي مينونج في الأنطولوجيا، فإن ما يمكن للعقل أن يتصوره، يملك وجودا ما، ويميز بين كينونة الموضوع/الشيء، باعتباره موجودا عقليا، وبين وجود الموضوع/الشيء، باعتباره ذا وجود موضوعي مادي. [المترجم]

([1]4) من أجل دراسة مكتملة وجادة، أنظر:

Carola Barbero, Madame Bovary: Something like Melody (Milan: Albo Versorio< 2005).

قامت باربيرو بعمل جيد في توضيح الاختلاف بين البحث الوجودي والبحث المعرفي: “نظرية الأشياء لا تهتم بالكيفية التي ندرك بها الأشياء غير الموجودة معرفيا، الحقيقة، أنها تركز فقط على الأشياء في عمومها المطلق، مستقلة عن الطرق الممكنة لتحققها”(65).(إكو)

[5[1]] دلالة التصديق الشرطي: منهج في علم الدلالة، بحسبه يكون المعنى صادقا إذا ما وافق شروط تحققه في الواقع، مثال: تعتبر عبارة “الثلج أبيض” صحيحة إذا ما ثبت أن الثلج أبيض في الواقع. [المترجم]

([1]6) SeeJohn Searl, “The Logical Status of Fictional Discourse,”New Literary History, 6, no.2 (Winter 1975): 319-332.

([1]7) Jaakko Hintikka, “Exploring Possible Worlds,” in Sture Allén, ed., Possible Worlds in Humanities, Arts and Science, vol.65 of Proceedings of the Nobel Symposium (New York: De Gruyter, 1989), 55.

([1]8) Lubomir Dolezel, “Possible Worlds and Literary Fiction,” in Allén, Possible Worlds, 233.

([1]9) على سبيل المثال: قال جورج بوش، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، في مؤتمر صحفي، في 24 سبتمبر 2001، أن “العلاقات الحدودية بين كندا والمكسيك في أفضل حالاتها”. انظر:

Usinfo.org/wf-archive/2001/010924/epf109.htm.

(20) Cited in Samuel Delany, “Generic Protocols,” in Teresa de Lauretis, ed., The Technological Imagination (Madison, Wis,: Coda Press, 1980).

[2[1]] الرمز الكيميائي للماء: ذرتان من الهيدروجين وذرة من الأكسجين. [المترجم]

(22) On narrative possible world being “small” and “parasitic,” see Umberto Eco, The Limits of Interpretation (Bloomington: Indana University Press,1990), chapter entitled “Small Worlds”.

(23) كما ذكرت في كتابي “ست مسارات في غابة السرد” الفصل 5.

Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1994), ) أن القراء، أكثر أو أقل لهفة، على قبول انتهاك شروط العالم الواقعي، على أساس من حالة معارفهم الموسوعية. في رواية “الفرسان الثلاثة” لألكسندر دوماس، التي ألفها عام 1600، نجد أراميس، يعيش في شارع سيرفاندوني، استحالة، لأن المعماري جيوفاني سيرفاندوني، الذي تسمى الشارع باسمه، عاش ومارس عمله بعد ذلك بمائة عام. غير أن القارئ يقبل هذه المعلومة بدون أدنى انزعاج، لأن القليل جدا منهم من يعرف شيئا عن سيرفاندوني، على العكس من ذلك، لو قال ألكسندر دوماس لأن أراميس يعيش في شارع بونابرت، سيكون من الطبيعي أن ينزعج القراء. (إكو)

(24) See, for instance, Roman Ingarden, Das Literarische Kunstwerk (Halle., Niemayer Verlag, 1931); in English, The Literary Work of Art, trans. George G. Grabwiscz (Evanston, I11.: Northwestern University Press, 1973).

[25] Leopold Bloom: الشخصية الرئيسية لرواية “عوليس” للروائي الأيرلندي جيمس جويس. [المترجم]

(26) Stenhal, The Red and the Black, trans. Horace B. Samuel (London: Kegan Paul, 1916), 464.

(27) On these two bullets, see Jaques Geninasca, La Parole Littéaire (Paris: PUF,1997), II, 3.

[28] استخدم إكو هنا كلمة apothecary، وهو اسم تاريخي للصيدليات القديمة التي يقوم الصيدلاني فيها بتركيب الدواء المطلوب، ووصف الدواء للمرضى، والقيام ببعض الجراحات البسيطة أحيانا. [المترجم]

[29] مستوى التعبير ومستوى المحتوى: عند هلمسليف وبارت: فإن الدوال في مستوى التعبير هي: مادة التعبير، وتتضمن المكونات المادية للوسط المحيط، مثل: الصور والأصوات. أما المدلولات في مستوى المحتوى هي: مادة المحتوى، وتتضمن: المحتوى الإنساني، العالم النصي، مادة وجنس الموضوع. [المترجم]

[30] مدونة موسيقية score: سلسلة من المدارج الموسيقية، التي تُكتب عليها الأجزاء الآلية، أو الغنائية المختلفة للعمل الموسيقي، واحدا بعد الآخر، في خط رأسي، بحيث يمكن قراءة الأجزاء في وقت واحد. وقد استخدم إكو هذا الاصطلاح للتعبير عن العمل الأدبي الأصلي، التي تولد فيه الشخصية الروائية، وللتعبير عن العمل الفرعي، المكتوب أو الشفاهي، الذي تنتقل إليه الشخصية الروائية بسماتها الأصلية. [المترجم]

(3[1]) See, for instance, Umberto Eco, Kant and the Platypus, trans, Alastair McAwen (New York: Harcourt,1999), in particular sect. 1.9.

(32) إذا كانت شخصية أنَّا كارينينا مصنوعة، فإنها تختلف عن غيرها من الأشياء المصنوعة؛ كالمقاعد والسفن. انظر:

Amie L. Thomasson, “Fictional Characters and Literary Practices,” British Jornal of Aesthetics, 43, no. 2 (April 2002): 138-157.

الصنائع الروائية ليست كيانات مادية، كما تفتقر إلى التموقع في الزمان والمكان. (إكو)

(33) See, for instance, Umberto Eco, Semiotics and Philosophy of Language (Bloomington: Indana University Press, 1984), 2.3.3; and idem, The Limits of Interpretaion (Bloomington: Indana University Press, 1990).

(34) Philippe Doumenc, Contre-enquéte sur la mort d’Emma Bovary (Paris: Actes Sud,2007).

[35] المعالجة الخيالية للواقع: أي العوالم الروائية والخيالية المنطلقة من عالم الواقع، بخلاف تلك العوالم الروائية الخيالية تماما. [المترجم]

[36] التأكيدات الروائية: يُقصد بها ما تذكره الرواية في متنها، باعتباره حقائق حول الشخصيات، أو الأماكن، أو غير ذلك، وهو ما ذكره إكو في حديثه عن أنَّا كارينينا، وواطسون، الخ. [المترجم]

[37] اختبار دوار الشمس: اختبار كيميائي، تستخدم فيه مادة تستخرج من نبات دوار الشمس، يتحول لونها إلى الأحمر إذا غمست في محلول حمضي، والأزرق في المحلول القلوي. [المترجم]

[38] أنماط الحقائق: في الفلسفة: تشير إلى تعيين أنماط الحقائق، وما إذا كانت الحقيقة ضرورية، أو ممكنة، أو طارئة، أو مستحيلة. [المترجم]

[39] سام سبايد: شخصية روائية، لتحري خاص، في روايات وقصص بوليسية، للكاتب الأمريكي صامويل داشييل هاميت. [المترجم]

[40] الصقر المالطي: صقر مدبج بالمجوهرات، يبحث عنه سام سبايد في رواية لداشييل هاميت تحمل العنوان ذاته. [المترجم]

(41) See Eco, Six Walkes in the Fictinal Woods,126.

(42) See, for instance, Aislinn Simpson, “Winston Churchill Didn’t Really Exist,” Telegraph, February 4,2008.

[43] جارجانتا: شخصية روائية لعملاق، يتصف بالنهم الشديد للطعام، في رواية “جارجانتا وولده بانتاجرول” لفرانسوا رابيليه. [المترجم]

[44] سكروج: الشخصية الرئيسية لرواية “أنشودة عيد الميلاد” لشارلز ديكنز، وكان يتصف بالبخل الشديد. [المترجم]

(45) For history of the idea of social objects, from Giambattista Vico and Thomas Reid to John Searle, see Maurizio Ferraris, “Scienze social,” in Ferraris, ed., Storia dell’ontologia (Milan: Bombiani, 2008), 475-490.

(46) See, for instance, John Searle, “Paper Names,” Mind, 67 (1958): 172.

[47] المرجع: هو الكينونة أو الوجود الذي تشير إليه الكلمة، أو التي يحل محلها في العالم الخارجي، أو الواقع اللاألسني، والمرجع يمكن أن يكون شيئا، أو نوعية، أو أفعالا، أو أحداثا حقيقية، والمرجع لكلمة “بقرة” هو الحيوان: بقرة. (معجم مصطلحات السيميوطيقا ـ برونوين ماتن). [المترجم]

[48] شيشرون: كاتب روماني، وخطيب روما المميز، ولد سنة 106 ق.م. [المترجم]

[49] الحصان المقرَّن: كائن خرافي على هيئة حصان أبيض ذو قرن وحيد، ذكر في الأساطير الإغريقية واتخذ كشعار لنبلاء العصور الوسطى في أوروبا. [المترجم]

[50] الكأس المقدسة: في الميثولوجيا المسيحية، الكأس المقدسة كانت طبقًا أو لوحًا أو كوبًا استخدمها يسوع في العشاء الأخير، يقال أن الكأس ذات قدرة إعجازية. [المترجم]

[51] قوانين أسيموف أو قوانين الإنسان الآلي الثلاثة: هي مجموعة من القوانين يلتزم بها الروبوت. ظهرت للمرة الأولى في إحدى روايات الخيال العلمي، وهي رواية “التملص” لكاتب روايات الخيال العلمي الأمريكي، الروسي المولد، إسحاق عظيموف، في عام 1942 ، ولاحقاً أضاف عظيموف القانون صفر إلى مجموعة القوانين. وهي تعتبر بعض الضوابط حول كيف يجب برمجة وصنع الإنسان الآلي، خاصة من منطلق الذكاء الاصطناعي. وهذه القوانين هي: (القانون الأول): لا يجوز للإنسان الآلي إيذاء البشر، ولا يجب أن يسمح بحدوث أذى لهم. (القانون الثاني): يجب على الإنسان الآلي إطاعة أوامر البشر، إلا حينما يتعارض ذلك مع القانون الأول. (القانون الثالث): يجب أن يحافظ الإنسان الآلي على وجوده، طالما لا يتعارض ذلك مع القانون الأول والثاني. [المترجم]

[52] ميديا: في الأساطير الإغريقية، ساحرة شهيرة، وكانت ابنة أيتس ملك كولخيس. [المترجم]

[53] موضوع قصدي خالص: ذكر هذا المصطلح الفيلسوف البولندي: رومان إنجاردن، في معرض تقسيمه لأنماط الوجود، ذاكرا أنها أربعة: النمط المجرد للوجود: ويتجلى فقط في موجود مثل الإله، الذي يمكنه الوجود، حتى ولو لم يكن هناك وجود آخر موجود. النمط الذهني للوجود: هو نمط خالد من الوجود، يناسب الأرقام المتصورة على نحو أفلاطوني. النمط الواقعي للوجود: هو الخاص بالكيانات الزمانية المكانية، كالافتراضات الواقعية بوجود أحجار وأشجار. النمط القصدي الخالص للوجود: هو الذي تشغله الشخصيات الروائية، والكيانات الأخرى التي تدين بوجودها وطبيعتها إلى أفعال الوعي.

(Stanford Encyclopedia of Philosophy – plato.stanford.edu/entries/ingarden/). [المترجم]

(54) See Roman Ingarden, Time and Modes of Being, trans. Helen R. Michejda (Springfield, I11.: Charles C. Thomas, 1964); and idem,The Literary Work of Art. For a criticism of Ingarden’s position, see Amie L. Thomasson, “Ingarden and the Ontology of Cultural Objects,”in Arkadiusz Chrudzimski, ed., Existence, Culture, and Persons: The Ontology of Roman Ingarden ( Frankfurt: Ontos Verlag, 2005).

[55] كارولا باربيرو: كاتبة إيطالية، لها كتابات في فلسفة الأدب، والتحليل النقدي للأدب. [المترجم]

(56) Barbero, Madam Bovary, 45-61.

[57] جشتالت: (كلمة ألمانية تعني: شكل). مجموعة كليات رمزية فيزيائية، بيولوجية، نفسانية، تخلق رمزا موحدا، تشكيلا أو نمطا، يكون فيه هذا الكيان أهم، وأكثر فعالية، وأعظم من مجموع أجزائه. [المترجم]

[58] حادثة كوجلماس: قصة نشرها الكاتب وودي آلن عام 1977، وهي قصة رائعة عن كوجلماس أستاذ العلوم الإنسانية الذي يشعر بالاستياء، فينتقل إلى العالم الروائي لرواية مدام بوفاري لجوستاف فلوبير. [المترجم]

(59) Woody Allen, “The Kugelmass Episode,” ik Allen, Side Effects (New York: Random House, 1980).

(60) On this problems, see Patrizia Viloi, Meaning and Experince, trans. Jeremy Carden (Bloomington: Indana University Press, 2001), IIB and III. See also Eco, Kant and the Platypus, 199, 3.7.

(6[1]) Peter Strawson, “OnReffering,”Mind, 59 (1950).

(62) من الجلي وجوب الحفاظ على التحديث الدائم للموسوعات، ففي الرابع من مايو 1821، ورد في الموسوعة العامة أن نابليون بونابرت، الإمبراطور السابق، يعيش في منفاه في جزيرة سانت هيلانة. (إكو)

(63) في حال صعوبة اختبار الأمر بالعين المجردة (على سبيل المثال: إذا كانت “خ” تؤكد أن أوباما زار بغداد أمس) فإننا نعتمد على “البدائل الصناعية” (مثل الصحف والبرامج التليفزيونية)، التي تزعم أنها تمكننا من متابعة ما يحدث بالفعل في هذا العالم، حتى لو كان الحدث بعيد عن إدراكنا الحسي المباشر.(إكو)

(64) ربما يميل المرء إلى ادعاء أن الكيانات الرياضية، بالمثل، غير قابلة للمراجعة، غير أنه حتى مفهوم الخطوط المتوازية قد تغير بعد ظهور الهندسة الإقليدية، وتغيرت أفكارنا حول نظرية فيرمات بعد عام 1994، ويرجع الفضل في ذلك إلى عالم الرياضيات البريطاني أندرو ويلز. (إكو)

(65) ليكون كلامنا دقيقا، فإن تعبير “يسوع المسيح” يشير إلى موضوعين مختلفين، ويلزمنا ـ لكي نحدد معنى التعبير ـ تحديد طبيعة الاعتقاد الديني (أو غير الدين) للمتحدث. (إكو)

(66) On this question, see Umberto Eco, The Role of the Reader (Bloomington: Indana University Press, 1979).

مقالات من نفس القسم