بعد أكثر من 50 عامًا على (أصوات) سليمان فياض: سيمون ونيرة.. الصوت الغائب

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيمان السباعي

سيظل المشهد الروائي الأكثر رعبًا في ذاكرتي هو (ذبح) سيمون بطلة رواية سليمان فياض (أصوات)، الرواية التي ظلت حبيسة عقل وقلم كاتبها عشر سنوات خوفًا مما قد تثيره، إذ بدأ كتابتها في شهر يوليو عام 1970 عندما كان في ألمانيا.

كان فياض قد سمع حكاية حقيقية حدثت في إحدى القرى المصرية في أثناء زيارته لها وهي أن أهل القرية قد أجروا عملية ختان لسيدة أجنبية زارت القرية –ومنها استلهم نهاية سيمون زوجة ابن القرية الذي فر هاربًا من أبيه صغيرًا وقادته أقداره إلى فرنسا حيث أصبح رجلا ثريًّا ناجحًا فتزوج سيمون الفرنسية وبعد حنين غلبه إلى بلده وأهله قرر العودة مع زوجته ليكون مصيرها الروائي مصدر جدل بين قراء الرواية آنذاك ممن اتهموا كاتبها بمغازلة الغرب

سيمون/الآخر والأخرى، فوجودها في الرواية ليس قضية جندرية فقط وهذا ما عبر عنه فياض ببراعة عندما استخدم أصواتًا روائية كاشفة عن صراع أجج الغضب تجاه سيمون، رجال كانت سيمون أكثر شجاعة منهم ونساء رأوا فيها وحشًا يهدد سلام رضا خاوٍ عن قيودهن، سيمون التي لا تحلق شعر إبطها وتجالس الرجال وتصد المتجاوز منهم وتساعد أطفال القرية، ترقص سيمون فتدوس أقدامهن، تقرأ وتكتب وتشرب البيرة وتحب زوجها، يختلس رجالهن النظر إليها في خبال فتشتعل في أجساد نسائهن الضغينة.

ذبح محمد عادل نيرة أشرف في يوم عادي كأيام كثيرة جهمة تشهد تصاعدًا في موجات العنف والأحداث البشعة التي تعلو وتيرتها في المجتمع المصري، أرى صورة لنيرة خلفها لوحة جميلة، القتيلة الجميلة غير محجبة وتبدو صورتها متماهية مع ألوان اللوحة وتوحي أن لنيرة علاقة بالفن قد تقتصر على محبته والاستمتاع به فقد ارتاحت لكون اللوحة خلفية لصورتها. لماذا ذُبحت نيرة؟ هل لأنها رفضت عادل؟ اعترف القاتل بجريمته.. هل هو مريض نفسي مهووس؟ هل هو ممن ورثوا أمراض الذكر في مجتمع ذكوري فاعتبر رفض نيرة للزواج منه إهانة لفحولته التي يقدسها فارتكب جريمته؟ كنت مصدومة ولم أستطع البكاء لكن ما أرعبني حقًّا حديث مع جارتي التي دافعت عن عادل ووجدت مبرراتها للقتل، للذبح!

بدأت أتابع ما يدور، كلام أن محامي مبارك يدافع عن عادل ومرتضى منصور يرغب في تبني قضية نيرة، الكل يريد أن “يركب” الحدث! الجميع يتحدثون في الشارع والعمل، فريق لا يُستهان بعدده يطلب براءة عادل لأن نيرة وعدته وأخلفت مع ادعاءات وتكهنات بزواجهما العرفي، على اليوتيوب شغلت فيديو صاحبته في صف نيرة بدأت حديثها ب “الحمد لله ظهرت براءة نيرة بعد الكشف عن عذريتها..”. شعرت بألم في معدتي هرولت تجاه الحمام وتقيأت.

بدأت نهاية سيمون تظهر أمام عيني وقد آن الأوان لأحدثكم عن النهاية نهاية سيمون ونيرة ونهايتي ربما! نساء القرية مع أم الزوج قد قررن إجراء عملية ختان لسيمون فاختلين بها وقطعت الداية شريحة من لحمها بالموس، لحم الفرج المقدس، لحمايتها من الوقوع في الخيانة والهياج على رجالهن، ولم تنس قبل هذا إزالة شعر عانتها وكأنهن بذلك يجعلن من سيمون نسخة طبق الأصل منهن.

نزفت سيمون حتى الموت.. أبشع عملية ذبح في التاريخ، تشبه تلك التي قامت بها بعض نساء مصر بإجراء كشف عذرية على جثة نيرة، يُجري المجتمع لبناته كشوف عذرية يوميًّا يطمئن على شرفه الرفيع كي لا يطاله الأذى!

توالت جرائم القتل ضد نساء وفتيات في عدة مدن عربية وكأن المصري محمد عادل قد أطلق وحشًا من مكمنه وحقدًا دفينًا فينا؛ بالطبع.. فعادل ابن هذه المجتمعات وينبغي لها الدفاع عنه حتى وإن كان قاتلا. كما حدث وأخفى أهل القرية في رواية أصوات سبب وفاة سيمون، إن التستر على القاتل من سمات مجتمع يمتلئ بالقتلة

يتعامل النظام الأبوي على مستوى القوالب النمطية لتصنيف أدوار المرأة وخصائصها التي يعتبر أنها تختلف اختلافا جوهريًّا عن أدوار الرجل وخصائصه وفي إطار هذه المقابلة الثنائية يصنف المؤنث أنه الأدنى فالقالب أو الصورة النمطية للمرأة المثالية هي الزوجة أو الأم أو الملهمة التي ترعى أحباءها أما طبيعة الميل الجنسي عند المرأة فتصور أنها طبيعة مرعبة ونهمة ومترممة[1]*، لهذا قررت نساء القرية ختان سيمون، كل هذا الخوف من العار من الانفلات من كشف العورة  وهدم المعبد الفارغ على رأس الجميع.

قضية نيرة مرآة لمجتمع يفقد قدرته على قبول من لا يشبهه مجتمع وقع في غرام عبوديته ونسي حقيقته، مجتمع يعادي الجمال كما أعلنها الشيخ مبروك أن البنت يجب أن تخرج من بيتها مثل ال “قفة” كي لا تُذبح!

تثرثر جارتي عن فيديوهات مسربة للذبيحة ترقص في إحدى الحفلات مع شباب وشابات بملابس مكشوفة، رجل يستوقف صديقتي في الشارع ويقول لها: “واحدة كانت لابسة زيك كدا اتقتلت امبارح”!، قاضي محكمة مصرية يطالب بإعدام قاتل نيرة على الهواء فتتمسك جارتي ببراءة عادل وتعلو نبرات كراهيتها لنيرة ومن هم على شاكلتها..ربما تقصدني!

عنف وعنف مضاد.. ولع بمشاهدة دم الجميع.

لم نستمع إلى صوت سيمون في رواية أصوات إلا عبر أحاديث مع آخرين، يقول سليمان فياض إنه غيّب صوتها الذي كان مرعوبًا منه صوت امرأة أجنبية لا يعرف لغتها، ربما كان مرعوبًا من رؤية صورة مجتمعه في كلماتها وبلغتها، غيب الموت صوت نيرة اشرف وأطلق أصوات مجتمع محتقن بالجهل والعنف مجتمع مولع بروايات الرعب والجنس المكبوت خلف الشاشات.

أريد للكتابة العربية ألا يثقل كاهلها كونها حاملة رسالة تلك الأصوات الغائبة.. أصوات الضحايا، لكني أظن أن هذا بعيد المنال ولم أعد آمل فيه!

…………………………

[1] هالة كمال.. محاضرات في دراسات النوع

مقالات من نفس القسم