باااطاطا.. باطاطاطاطااا..باطاطاطااا.. يا قووووطااااا
شق الصوت صمت الخوف والكتابة.. اخترق أذنيها وهوى على رأسها كمطرقة.. انتفضت وندت عنها صرخة مكتومة أرعبتها..كتمت أنفاسها بيديها..هبت واقفة ثم أخذت تجري وسط الجموع المتدافعة. تبدد الظلام وأُضيئت الأنوار فسكن كل شيء وذابت الصور في موجات أخذت تتسع وتتلاشى شيئاً فشيئاً. فتحت عينيها عن آخرهما في ذعر ومدت يديها تتحسس الطريق بينما تتتبع أذناها مصدر الصوت في جهدٍ حثيث. لم يستغرق الأمر ثانيتين حتى تبينته..كان الصوت مميزاً لا يشبه أي من الأصوات التي كانت تظهر وتعلو وتختلط. صوت قوي، ثابت، نبراته لها قدرة على الاختراق ومداه يستمر حتى بعد توقفه.
قادها الصوت إلى غرفتها..كان النهار يوشك على الانتصاف. شيش الغرفة الكبير مقفل لكنه يسمح لنور الصباح بالدخول عبر أخشابه لترسم ظلالاً لخطوط عريضة مائلة على الحائط. الحركة تنشط في محيط جيرانها. روائح الطعام تختلط بروائح الصابون والعطور والبخور صانعة مزيجاً فريداً يتسلل في خفة وغموض عبر نافذتها. أصوات الأقدام تعلو صعوداً وهبوطاً في انتظام وبلا توقف. الأمهات تنادين أطفالهن وتطاردهم ليأكلوا أو يتحمموا.
باااطاطا.. باطاطاطاطااا..باطاطاطااا.. يا قووووطااااا
إنه ذلك الصوت الذي يؤكد لها أنها أدركت ذلك اليوم، ويوقفها لكي تستعيد ما مر بها طوال الأيام إلى أن تصل إلى يوم الجمعة. ذلك اليوم الذي تنتظره وكأنه يحمل في جُعبته ساعات لاتنتهي. تُحَمِّله عِبء الأيام المجنونة الموتورة. تُطالبه بأن يَتَأَنَّى..بأن يبقى ولايرحل حتى بعد أن تنفد ساعاته. تلومه على كل شيء أرادت الانتهاء منه في وجوده، لكنه رحل قبل أن تُنهيه. دائماً ما يبدأ اليوم وينتهي على غير إرادتها. هاهو اليوم قد بدأ قبل أن تُقرر هي الاستيقاظ. لن تستطيع النوم مجدداً فقد تبدد الحلم وسط البطاطا والقوطة. لكنها لن تقوم..ستظل قابعة في الفراش. كان الصوت يدور ليستقر عند رأسها. لم تر صاحبه أبداً. لكنها كانت تتخيله دائماً بجلباب بني فاتح وعمامة صوفية بنية اللون. كان طويلاً، قوي البنيان، ذا بشرة سمراء تشوبها حُمرة..ملامحه كبيرة صريحة وله شنب غليظ وحاجبين كثيفين. كان يبدو دائماً مُهَلل الأسارير يسير بخُطىً واسعة ويُحَيي الناس بابتسامات عريضة.
تسربت إلى أنفها رائحة البخور النفّاذة الآتية من شباك جارتها “نعمات” . ففي كل يوم جمعة كانت نعمات ترفع صوت المذياع إلى آخره وتقوم برص كميات كبيرة من البخور في المبخرة تعبق بها بيتها ثم تخرج بها إلى البلكونة وتتركها في الهواء الطلق لتزكم الأنوف. لم تفكر أبداً أن تسأل نعمات عن هذا البخور ولماذا تصر على تركه في الهواء. بدأ صوت المؤذن يعلو وهو يُعدِل مُكبر الصوت ويُجَرِّبه استعداداً لصلاة الجمعة. إنها تعرف هذا الصوت جيداً..لكن كيف؟؟ إنه صوت عم “حميدة” بواب العمارة!! هذا الرجل متعدد المهام الذي يسكن السطوح هو وأولاده السبعة وأمهم..يبدأ دورية الحراسة بعد صلاة العشاء. يجلس أمام العمارة يشعل سيجارته وما أن ينتهي منها حتى يغلبه النعاس ويظل نائماً إلى أذان الفجر. يصلي ثم يذهب لينام بضع ساعات ويستيقظ ليتولى مهام عمله كمخبر يراقب الشارع بحركاته وسكناته طيلة النهار وهو جالس على مقعده أمام العمارة. كما أنه يحفظ أسماء كل من يقطنون الشارع وأسماء أولادهم وأحفادهم ومهنهم . وحميدة لا يركز انتباهه على الغرباء؛ فهو يغض الطرف عندما يرى غريباً يدلف إلى العمارة. لكنه لا يستنكف أن يدب عينيه في كل من يعرفهم من سكان العمارة وكأنه يلتقط لهم صور ذهنية معقدة يضيفها إلى شريط الأحداث الذي تسجله ذاكرته. ويبدي موهبة فريدة في سرد القصص المتعلقة بالسكان وأصحاب العمارة أنفسهم. وها هو الآن يضيف إلى سيرته الذاتية مهام المؤذن. متى وكيف اعتليت المئذنة يا حميدة؟
باااطاطااا.. باطاطاطاطااا..باطاطاطااا.. يا قووووطاااااا
كيف يخترق صوت بائع البطاطا الحواجز بدون مُكبر؟ كان حميدة يتلفت وهو يؤذن..ينظر في وجوه من حوله ثم ينوح! لن تستطيع أن تركز في صوته حتى لا تنتابها الرغبة في البكاء. إنها لا تقوى على النهوض والبدء..لايوجد مايدفعها. تائهة هي في دوامة الأيام الطويلة المتشابهة. تنتظر نهاية الأسبوع لتسلمها إلى أسبوع جديد. أيام الدراسة لاتحتمل سوى الذهاب والعودة من المدرسة. أما المذاكرة فهي في حالة انتظار دائم للاجازات..انتظار لاينتهي.. أصبحت تخاف كثيراً وتنسى كل شيء.. تسند رأسها إلى أكوام الكتب لتذهب في سُباتٍ عميق.. تحسب الأيام وتعد الصفحات وتحصي الدرجات وترتب الرغبات. لم يعد لديها شغف لأي شيء..حتى علم النفس لم تعد تحبه! لطالما اعتبرت نفسها محللة نفسية، تُشَخِّص المشاكل وتبحث عن وصف الحالة واسمها العلمي. لطالما نجحت في قراءة العيون والوجوه واكتشاف مفاتيح الشخصيات من أول نظرة. لكنها تاهت في صفحات الكتاب المهلهل. وبذلت جهداً مضنياً في ربط فقراته المبتورة. الكل أكبر من مجموع أجزائه. لقد أصبح احساسها بكل ما يدور حولها أكثر حدة. وانتباه حواسها أشد. كل احساس وانتباه يتحول الى ادراك ووعي وأفكار وخبرات. أصبحت تسرف في التأمل الذاتي. وكل ذلك يصب في ذاكرتها التي أرهقها حشو الكتب وزحام الأفكار وفوضى المذاكرة.
انتهت من تناول الافطار وأصبحت مستعدة للبدء
باااطاطااا.. باطاطاطاطااا..باطاطاطااا.. يا قووووطاااااا..
آاااه..لازال البائع مستمراً! إنه لا يتعب ولا يكل ولايمل..ينادي ويلحن نداءه على البطاطا طوال النهار. إنه بالتأكيد يبيع أصنافاً أخرى. لكن..لماذا اختار البطاطا بالذات لينادي عليها؟ إنه يذكر الطماطم على استحياء. وهل تستأهل البطاطا كل هذا الجهد ليبيعها؟ يبدو أنه يعشق البطاطا.
ستدخل إلى غرفتها وتغلق الباب وتجلس على المكتب لتذاكر. ستحاكي نموذج الطالبة المجتهدة لعلها تفلح. ارتسمت في ذهنها صورة لطالبة تجلس إلى مكتبها معتدلة وعلى وجهها ابتسامة..صورة منزوعة من كتاب قديم.. مرسومة بقلم أسود وملونة بألوان باستيل باهتة.. ويظهر فيها مكتب نظيف وعليه كتابين اثنين فقط بالإضافة إلى كتاب مفتوح. إلى يمين الكتابين وقفت الأباجورة ممشوقة، رافعة رأسها ذات القبعة في خيلاء، عاقدة ذراعيها على صدرها في هدوء وملل، عيناها نصف مفتوحتين ينبعث منهما ضوء يتسلط على الكتب. حملت كتبها المكدسة بعيداً وتركت كتاب علم النفس وحيداً على المكتب. ستذهب إلى الحمام حتى لا تقوم في منتصف الجلسة. ثم تمر على المطبخ لتحضر قارورة مياه وكوب لتشرب فيه حتى لاتضيع وقتها في زيارة المطبخ من وقت لآخر. لا بأس من حمل بعض البسكويت إلى غرفتها في حال إذا جاعت وهي تذاكر. ستفتح الشباك لتهوي الغرفة وتضمن دخول الهواء النقي إلى رئتيها ومخها ليزيد تركيزها. أخيرا جلست وفتحت الكتاب.من أين تبدأ؟ هل تبدأ بالدروس القديمة أم الجديدة؟ ستبدأ بالذاكرة..نعم الذاكرة..أهم قوة ذهنية تحتاجها.. ماذا لو خانتها الذاكرة؟ ماذا لو نست كل شيء وصارت ذاكرتها ورقة بيضاء؟ هل تستطيع أن تكتب ما تريد؟
أمامها حائط وخلفها مرآة. الحائط يحمل بقايا رسومات بالألوان الشمعية رسمتها وهي صغيرة. مازالت تتذكر جيداً ذلك اليوم الذي رسمت فيه باللون الأخضر الزرعي على الحائط الأبيض. تتذكر كيف حاولت مسحه ولم تفلح. لاتستطيع أن تظل ناظرة إلى الحائط. ولاتستطيع أن تلتفت إلى المرآة. لقد تقصف شعرها كثيرا!! ماهذه الحبوب التي تُغطي وجهها؟ عليها أن تكف عن أكل الشوكولا. “يللا يا قلبي يا أسعد قلب” هاهو صوت عبد الحليم يأتيها من عند الجيران يشق صمت غرفتها ويقطع حبل أفكارها المشتتة. عبد الحليم ينادي قلبه ويشجعه على النهوض والمضي. لكن عبد الحليم لم يكن سعيداً ولم يكن قلبه “أسعد قلب”. كيف كان قادراً على بث كل هذا الحب في النفوس بالرغم من حزنه؟ ستستمع إلى الأغنية كاملة ثم تعود للمذاكرة. هاهي رائحة البطاطس المقلية تتسلل منبعثة من شباك مطبخ جارتها زينب. سيليها غزو رائحة الباذنجان. لابد من اغلاق الشباك قبل أن تُعبق رائحة الزيت المقلي غرفتها.. “يا ساااارة”.. زينب تنادي على ابنتها لتحمل أطباق الافطار.. مضت نصف ساعة وهي تحاول قبل أن تقرر تغيير جلستها. تركت حجرتها وذهبت إلى طاولة السفرة. تلك الطاولة التي تمنحها الشعور بالحرية وتمنحها الاختيارات. كما أنها تشعر بأنها غير بعيدة عن أحداث اليوم. جلست على كرسي السفرة وفتحت الكتاب.
باااطاطااا.. باطاطاطاطااا..باطاطاطااا.. يا قووووطاااااا
رَدَدَّت المقطع معه بصوتٍ عالٍ. ثم تناولت ورقة وقلماً وكتبته.. اندهشت لما وجدتها تتذكره جيداً. تُراها تتذكره لسهولة لحنه؟ أم لكثرة ما يتردد على سمعها؟ لكنها لاتتذكر اسم البائع الذي تناديه ربات البيوت ليبعث لهن خضاراً عبر السلال الطائرة. ستسميه “سعيد”.
عادت تتأرجح بين السطر والآخر يساعدها على ذلك كرسي السفرة القديم. كم من مرة انقلب بها هذا الكرسي فوقعت على ظهرها ثم أخذت تضحك على نفسها وهي ملقاة على الأرض. هل يفلت الكرسي من جديد؟ أم أنها أصبحت تتحكم في قدرتها على التأرجح؟
باااطاطااا.. باطاطاطاطااا..باطاطاطااا.. يا قووووطاااااا
لماذا لا يستريح هذا البائع؟ لماذا لا يصمت؟ ألم ينهكه المشي والغناء؟ إنه في الشارع منذ الصباح الباكر. بالتأكيد كل من يمر عليه يرى البطاطا!! حتى الناس في البيوت سمعوا نداءه ومنهم من انصاعوا فنزلوا واشتروا أو ألقوا إليه بسلالهم!! فما الحاجة لأن يستمر في النداء؟
إنها لا تستطيع التركيز. الوقت يمر وهي لا تفعل شيئاً سوى التفكير..إلى أين تذهب؟ هل تعود للداخل؟ وإذا عادت..هل سيصلها صوته؟ هل يسمعه الآخرون ويتذمرون؟ أم أنها وحدها تسمعه؟ لماذا لا يطلب منه أحد السكوت؟ هل يأكلون جميعاً البطاطا؟ ستنزل وتبتاع كل مالديه من بطاطا. لكن هل سيجدي ذلك؟ بالتأكيد لديه محصول بطاطا يخبئه في مكان خفي قريب من المنطقة، ربما عند أحد معارفه من الباعة. سوف تشتري منه البطاطا..ستطهيها وتأكلها.. لعله يذهب ولا يعود ولا تسمع له صوتاً!