وتوالت إصداراتها المتعددة بين الشعر والرواية والترجمة التى أنجزت منها ترجمة رواية «الحب» لمارجريت دوراس، وفى العام الماضى أصدرت كتابها السردى «ورأيت روحى بجعة»، وقد حصلت به على جائزة ساويرس مناصفة مع الكاتب محمود الوردانى عن روايته «بيت النار»، وفى هذا الكتاب السردى الذى يقف بين الشعرى والنثرى، تبلغ هدى حالة عالية من التجريب الممتع والشائق والمبهر، فهى كاتبة لا تشغلها القضايا الكبرى، ولا تسعى من أجل بث الفضيلة فى روح قارئها، ولا تبتغى توصيل أى رسالة للعالم، إنها تكتب وتبدع ذاتها بقوة، وتحاول أن تجيد هذا النوع من الكتابة الذى نجد أطرافا منه عند جبران خليل جبران وميخائيل نعيم قديما، وهى سمة كتابية تكاد تكون قادرة على الدخول بطريقة محببة إلى نفس القارئ، دون أى زخرفات ودندشات وحبكات تثقل النص وتجعله كئيبا أو مترهلا.
وقد أصدرت الكاتبة أخيرا روايتها «بذور الطماطم» عن دار كلمة، وهى تستكمل ما بدأته فى كتابها السابق، فهى ليست رواية بالمعنى المألوف والمتعارف عليه، هناك طريقة مبتكرة للكتابة، يتمركز الراوى كبطل للرواية، ويظل يحكى مفردات حياته المتعددة فى فصول متعاقبة، لا يوجد خط زمنى صاعد أو هابط، ولا توجد استرجاعات، فقط الراوى لديه شهوة حكى متنامية عن حياته وحياة الآخرين، ورغما عن الكاتب والقارئ تتسلل رسائل وبضعة معان حادة، الرابط الوحيد هنا هو حياة البطلة، التى هى الكاتبة نفسها كما تفصح فى أحد فصول الرواية، وسنعرف فى هذا الفصل بالتحديد الذى يأخذ عنوان «حرف الهاء»، أن هدى والراوية فى الوقت نفسه، تلقت تعليمها فى مدرسة الراهبات، وقد أفصحت عن ذلك فى الفصل الأول الذى وضعت له عنوان «نفسية راهبة»، فى فصل «حرف الهاء»، تدخل هدى فى ما يشبه المناظرة مع مدرسها الشاب، الذى لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين عاما، الذى كان يتخيل أن تأتى تلميذاته بالكحل الفرعونى، وكذلك راكبات الجمال، وعندما قامت هدى لتسأله أسئلة وضعته فى حرج، سألها عن اسمها، فقالت له «هدى»، وعندما راح لينطق الاسم، نطقه «أودا»، لكن التلميذة المتمردة والعنيدة لقنته درسًا فى اللغة العربية وفصاحتها وقدرتها على التعبير، وأن لفظ «أودة» لا يعنى سوى الغرفة، ورغم أن هذا الفصل فى حد ذاته يذكرنا بكل ما كتبه يحيى حقى فى «قنديل أم هاشم» والطيب صالح فى «موسم الهجرة إلى الشمال» وعبد الحكيم قاسم فى «محاولة للخروج» وبهاء طاهر فى «بالأمس حلمت بك»، وغيرها من كتابات تناولت طرفى التناقض بين الشرق والغرب، إلا أن هدى لا تقصد إثارة هذه القضية بالتعقيد الذى ورد فى الكتابات السابقة، لكن هذا الفصل لا يخلو من الطرافة الممتعة، كذلك فالكاتبة قلبت الآية ووضعت أستاذها فى وضع أدنى، ودوما خائف ومتردد، ويخشى إدارته التى تمارس عليه نوعًا من القهر، ودوما مديرة المدرسة تهدد بتبليغ السلطات الفرنسية بعدم التزامه، فينهون عقده ويعود لبلاده ليؤدى الخدمة العسكرية هناك، وتتوالى الفصول التى تختلط فيها استعادة براءة وفطرية الطفولة طوال السرد مع اصطدام هذه البراءة بخشونة الكبار أو أو الذوق العام، وبدا ذلك بقوة فى فصول «مؤخرة نظيفة صباحا» و«جيبة قصيرة رقراقة بالألوان» و«أغنية الموت»، وفى هذا الفصل الأخير على وجه الخصوص، تتعرف البطلة على زميلتها جان فى المدرسة، وكانت هدى أو البطلة أو الراوية تتسلل إلى غرفة الموسيقى لتعزف على البيانو، وكان البيانو يحقق بعض الراحة للطفلة المتألمة من خشونة المدرسة وتلاميذها، وكان هذا التسلل نوعًا من الخروج عن المألوف، فالمدرسة تعلم تلميذاتها الالتزام، وعندما تخرجن عن هذا الالتزام، لا بد أن تعترفن، لكن جان عندما قررت أن تعود لبلادها قالت لهدى :اذهبى إلى غرفة الموسيقى، وعندما قالت لها هدى: إن ذلك ممنوع، صرحت لها جان بأنها كانت تراها وهى تختلس بعض الأوقات ذاهبة إلى غرفة الموسيقى لتعزف على البيانو، وكانت تقف لتحرس هذا الاختلاس دون أن تعلم الراوية أو تشعر بذلك، هذا الموقف كاد أن يدفع هدى للبكاء، لكنها صرحت لجان بأنها لا تعرف البكاء، فقالت لها جان: غنّ، أو اكتبى، هنا تتجلى لحظة درامية نادرة، يمتزج فيه الشعر والنثر والحميمية المطلقة، هنا طفلة تحاول أن ترى بعمق الطفلة البيضاء النظيفة من أى تلوث اجتماعى قادم، طفلة ليست معنية إلا بإطلاق عنان جموحها الفطرى ليدهش ويندهش، طفلة تختبئ فى الدولاب لترى الظلام جيدا، دون أن تكون مغمضة عينيها، هدى حسين تتجلى بمتعة وحنين، وتصرخ فى أحد فصول روايتها «الكتابة يا أمى الكتابة»، ولا تنزلق لكى تصبح الكتابة وعظًا أو إرشادًا أو درسًا فى اللغة، وهذا ما يعطى الكتابة طزاجة ورقة غير مألوفة.