رجب سعد السيد
كنت مواظباً على حضور حلقات (لقاء للحوار) أسسه الراحل الدكتور عادل أبو زهرة في منتدى ثقافي ضخم بالإسكندرية. وكان المتحدث – المفترض – في آخر حلقة حضرتُها هو الدكتور مصطفى الفقي، سكرتير “مبارك” المعلوماتي؛ ولم يحضر. وبعد طول انتظار، جاءنا مديرُ المنتدى ليقول إن الفقي اعتذر متأخراً، لما علم أن محافظ المدينة لــن يكون حاضـــراً اللقــــاء، فاســـتكبر أن يأتي لمقابلة مثقفي المدينة دون أن يكون المحافظُ في معيَّته !. واستشاط بعضُ الحاضرين غضباً على الفقي، وطالبوا المديرَ بوضعه في قائمة سوداء. وحاول مدير المنتدى تهدئة جمهور المنتدى، من صفوة مثقفي الثغر، فقال لهم، لن نضيع الأمسية سُـــــدىً لعدم حضور الضيف، واستأذنهم في أن يحل محله. وذهب إلى منصة المتحدثين، وعالج أجهزة العرض، فانطلقت شرائح محاضرته، وكانت بالإنجليزية، وأخذ هو يتحدث بالعربية، شارحاً مضمونها الذي كان مفاجأة للجميع: (العلاقة بين مؤسسات الحكم الأمريكية). كان الموضوع بعيداً جداً عن اهتمامات الحاضرين، الذين أُســـقِطَ في أيديهم، وراحوا يستمعون إلى حديث ممجوج. وأثناء إلقاء المحاضرة القهرية، واتتني فكرة أن أسجل بعض عناوين شرائحها، وقد اعتزمتُ أمراً !.
وغادرتُ المكانَ قبل انتهاء حديث مدير المنتدى الذي كان تمجيداً، بطبيعة الحال، للنموذج الأمريكي. وفي منزلي، عكفتُ على حاسوبي الشخصي، واستخدمت الساحر البديع (جوجل) في البحث عن عناوين الشرائح التي سجلتها عن المحاضرة التي فُرِضـتْ علينا، طالباً منه أن يحدد البحث في نوع الملفات الشرائحية (باور بوينت)، فاستجاب لأوامري، ووضع بين يديَّ مئات منها؛ فتحتُ بعضها، ففوجئتُ بأن محاضرة مؤسسات الحكم الأمريكية ليست لذلك المحاضر، وإنما هي لعدد من الكتّاب والسياسيين الأمريكيين والأوربيين، أخذ منها مدير المنتدى، أو من يعملون لحسابه، دون أي إشارة للمصدر، حسب أصول الإسناد المتعارف عليها، التي نجدها عند من يتوخون الأمانةَ العلمية من الباحثين. وتصادفَ أن أشرتُ، في جلسة جمعت بعض الأصدقاء، إلى هذه الواقعة، فأخبرني صديقٌ بما يؤكدُ ما توصلتُ إليه عن طريق (جوجل)، ومفادُه أن له ابناً من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات، يعمل ضمن طاقم خاص يحتل، مع سكرتارية ضخمة، طابقاً كاملاً من مبنى المنتدى، مخصصاً لمكتب المدير؛ وأن ما توصلتُ إليه هو أسلوبُهم المعتادُ في العمل، فتأتيهم التكليفات عن طريق (الأسطوات) من معاوني المدير، فيهرع الفنيون الصغار إلى الإنترنت، ليغترفوا منها المعلومات، في مختلف التخصصات والتوجهات العلمية والفكرية، فيقدمونها في صورتها (الخام) لأولئك الأسطوات، الذين يتوفرون على (طبخها) حسب رغبة مديرهم، وقد يحدث أن يقدم (الصبيانُ) أنفسهم المادةَ مطبوخةً !. وقد يجري عليها المديرُ بعض التعديلات، قبل أن ينسبها لنفسه، ويستخدمها في الندوات والمؤتمرات، على نحو ما حدث في ندوة “الفقي”، وعلى نحو ما سيلي بيانُهُ.
واكتفيتُ لسنواتٍ بالاحتفاظ بهذه الواقعة ضمن ملفٍ كبيرٍ للسرقات العلمية أحتفظُ به، منها ما تعرضتُ له أنا شخصياً عندما سُرقَ بحثٌ منشورٌ لي، عنوانه (وصف مصر بيئياً)، ومقالٌ عن أسرار التجارب العلمية التي تجري في الفضاء الخارجي. كما أنني عاصرتُ، خلال فترة عملت فيها سكرتيرا لتحرير مجلة علمية تصدِرُها مؤسسةٌ بحثية، واقعةً محددة، أعطى فيها مدير تحرير المجلة لنفسه الحق في السطو على نتائج بحوث ميدانية قام بها فريق من زملائه، وأنشأ بها مقالا أجازه بنفسه لنفسه، ونشره باسمه على صفحات المجلة. وواقعة أخرى كان المتهم بالسرقة فيها رئيسُ تلك المؤسسة، ذاته، ولكن الاكتشاف جاء متأخراً جداً، فاستخدم السارقُ سطوته في الإفلات من الإدانة والعقاب. ومن وقائع السرقة التي عاصرتها، وكنتُ شاهداً عليها، ما قام به لسنوات طويلة طبيبٌ مزيَّف بالإسكندرية، كان يدَّعي أنه أستاذ الجراحة بجامعتها، ولم يكن يكتب، بل يسرق، وينشر ما يسرقه مستتراً وراء لقبه العلمي الفاخر المُنتَـحـــل، الذي لم يهتم أحدٌ بالتحقق منه، حتى اكتشفت مجلتا (الدوحة) و(العربي) أمره، ثم فضحته إحدى زوجاته، فانتهى به المآلُ إلى السجن.
والحقيقة هي أن السرقات العلمية ظاهرة عالمية الانتشار، فلصوصُ العلم موجودون في كل مكان، يعتمدون على ما يحسبونه جهلاً، أو غفلةً، عند المتلقين، ولا يهتمون بالتحسب لأن يأتي وقت يكتشف فيه (متابعون) ألاعيبهم وسرقاتهم؛ ومن هؤلاء المتابعين فريقٌ من العلماء جربوا، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أن يراجعوا المقالات العلمية المنشورة في ست مجلات علمية ذائعة الصيت، فضبطوا 16 حالة تزوير علمي، معظمها في مجالي علوم الحياة والطب. وفي عام 1986، نشرت مجلة ” Nature ” تفاصيل أكبر حملة لمطاردة الغش العلمي، قادها عالمان من معهد الصحة القومي الأمريكي، قضيا أربعة أعوام في مراجعة وتدقيق 129 بحثا علميا منشورا باسم الدكتور جون دارسي الذي كان يعمل أستاذا بجامعتي أموري وهارفارد، والذي اتضح أنه وصل إلى موقعه الوظيفي والعلمي المتميز اعتمادا على بيانات ومواد علمية ملفقة، في تخصص حيوي خطير، هو علم أمراض القلب!.
ولم يدُرْ بخلدي يوماً أن أتابع (نشاط) السيد الأستاذ الدكتور مدير المنتدى، على نحو ما قامت به مجلة (ناتشر)، إذ أن لديَّ ما هو أنفع للناس ولي، من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، فقد كنت موقناً من أننا أمام حالة محورُها (الارتكان) إلى القوة والنفوذ، فقد كان المدير صانع المعجزات يتوسد حجرَ الأسرة الحاكمة في مصر، وكان يمارس عمليات (التخليص) أو (التشهيل) لأفراد تلك الأسرة الفاسدة، فتورمت ذاته مثل ثمرة حُقِنــتْ بهورمونات حفز النمو، وانطلق يفعل ما يشاء، بأي وسيلة يختارها؛ فاستقرَّ لديَّ أن أي محاولة لكشف تقمصه دور الرجل (بتاع كله)، وفضح سوءاته، لن تجد صدىً. ولكني لم أتوقف عن جمع (عينات) ونماذج من ممارساته تؤكد، في النهاية، على أننا أمام نموذج نرجسي فريد، يتوسل كلَّ السبل لدغدغة مشاعره ورغباته؛ ولنراجع معاً وقائع حدثٍ واحدٍ، هو مؤتمر (مستحدثات علوم الحياة) – البيوفيجان، بتعطيش الجيم – الذي ينعقد بالمنتدى بشكل دوري، كل سنتين، منذ العام 2004؛ ولنبدأ بالأمر الأسهل والأوضح، ونتصفح كتيبات برنامج المؤتمر، لنجد عدد صور لشخص المدير، فردية أو وسط آخرين، على النحو التالي : 2004 (18 صورة)؛ 2006 – (13 صورة)؛ 2008 (12 صورة)؛ 2010 (15 صورة) بمتوسط 14 ونصف صورة، في كتيب لا يزيد عدد صفحاته عن 50 صفحة.. ولا توجد بيانات عن مؤتمر 2012، لأنني حاولتُ الحضور، واستأذنتُ الإدارات الإعلامية في المنتدى، وعندما ذهبت لأحضر حفل الافتتاح طاردني عنصر أمن وطلب مني المغادرة !.
وقد جرت العادة أن يلتزم صاحب البيت التواضع، ودرجة من النزاهة تجعله ينأى بنفسه عن مزاحمة ضيوفه، مفسحاً لهم المجال؛ لكن المدير الآمر الناهي في هذا المنتدى استباح لنفسه كل هذه المساحات من أضواء آلات التصوير، إرضاء لنزعات ذاتية، أو – ربما – رغبة في تأكيد سطور رسالة يهمه أن تصل إلى المجتمع العالمي، من خلال هذا المؤتمر الذي فرضه على المكتبة، بمشاركة (المنتدى العالمي لعلوم الحياة – بيوفيجان)، الذي حصل على عضويته، تطلعاً – كما يشير بعض المراقبين لأحوال الرجل ومنتداه – إلى أن يرى اسمه في قائمة المرشحين لجائزة نوبل !.
يُقــوِّي هذا الظنَّ حرصُه على أن يستضيف المؤتمرُ، في كل دوراته، عدداً من الحائزين على جائزة نوبل، والمعروف أن حائزي هذه الجائزة يشاركون في ترشيح واختيار الحائزين الجدد. وقد استضاف المؤتمر في دورة 2004 – على سبيل المثال لا الحصر – حائزيْن على نوبل في الكيمياء، هما “جون ماري ليهن” – 1987، و”شيروود رولاند” – 1995؛ وحرص أ.د. مدير المنتدى على أن يشاركهما كلمات جلسة الافتتاح. كما كان المديرُ المتطلع لنوبل حريصاً على أن تشتمل وقائع كل الدورات على (مائدة مستديرة) تضم ضيوف المؤتمر من الحائزين على نوبل، يتحدثون حول رؤاهم لأحوال العالم؛ وكان هو يجلس بينهم على المسرح، شديد الحرص على الانفراد بمهمة إدارة حواراتهم، وكان يتدخل فيها أحياناً كثيرة؛ ولم يكن من الصعب على أي مراقب للمؤتمر، بصفة عامة، ولهذه (الموائد) على نحو خاص، أن يتوصل للانطباع المراد تسريبه إلى هذه الباقة من (الضيوف)، بصفة خاصة، وإلى بقية الحاضرين من ممثلي المجتمع العلمي العالمي !.
وقد استقرَّ لدينا من هذه المتابعة، التي كنا نقوم بها مدفوعين بالرغبة في كشف وجه زائف، نشأ ورسَّـــخَ وجودَه في كنــَــــــفِ نظامِ حكمٍ بغيضٍ، أسقطه الشعبُ المصري في 25 يناير، أن الظن قد ذهب بمدير المنتدى إلى أن اجتذاب المزيد من الأضواء يستدعي بناء نموذج الرجل الذي يعرف كلَّ شيئ، مستغلاً هذا المؤتمر وغيره من فعاليات المكتبة، وإمكانياتها الطباعية، دون أن يكون لذلك مردود ملموس للمنتدى الذي يمثل مؤسسة عامة، فالنفعُ العائدُ ذاتيٌّ بالدرجة الأولى. وللتأكيد على صحة وجود نموذج الرجل (بتــاع كلّـه)، دعونا نلقي نظرة سريعة على مشاركات المدير العارف بكل شيء، التي فرضَ فيها ذاتَه، في دورات مؤتمر البيوفيجان الأربع :
1 – إلقاء كلمة الافتتاح، وكلمة الختام (كل الدورات).
2 – مقرر جلسة رئيسية موضوعها (نحو علوم حياة جديدة). 2004.
3 – رئيس جلسة عن توجيه علوم الحياة والتكنولوجيا الحيوية لخدمة العالم الثالث. 2004.
4 – مشارك في جلسة عن (حقوق الملكية الذهنية) .. 2004.
5 – مقرر جلسة عن (بناء القدرات في العلوم والتكنولوجيا من أجل مستقبل أفضل). 2004.
6 – مشارك في جلسة تدعو للتعاون من أجل صالح العلم والعالم. 2004.
7 – رئيس جلسة لإطلاق فعاليات موقع (المتمرسون). 2006.
8 – رئيس جلسة لمناقشة علاقة القطاع الخاص بالبحث العلمي. 2006.
9 – مقرر جلسة عن تدريب العاملين في مجال الصحة. 2006.
10 – مساعد رئيس جلسة عن أعمال اللجنة الأفريقية للتكنولوجيا الحيوية. 2006.
11 – مشارك بجلسة عن نصيب العالم النامي من التكنولوجيا. 2008.
12 – مدير جلسة عن أحوال الغذاء في العالم. 2008.
13 – مشارك في جلسة عن الدراسات المتقدمة للعاملين في المجالات الصحية. 2008.
14 – رئيس جلسة عن الاكتشافات الدوائية واللقاحات. 2008.
15 – رئيس جلسة عن موضوع مستقبلي : (الروبوتات الحيوية كصلة بين الهندسة وعلوم الحياة، بتطبيقاتها في مجالات الطب وعلوم الحياة والصناعة والبيئة). 2008.
16 – رئاسة جلسة عن الــ C.I.O.
17 –متحدث رئيسي في جلسة عن الدراسات المتقدمة التي يجب أن توجه للعاملين في المجالات البيئية.
ومن إصداراته الخاصة التي طبعت على نفقة مؤسسته العامة، ما يلي :
– العلم وثقافة تغيير الحياة (طبعتان) – 2007.
– المكتشفات بين يديك. (تحرير مع آخر) – 2004.
– الوعود وتنفيذها (تحرير، مع آخرين). 2008
– مبنى مبهر. 2007.
– تصور لمستقبلنا – طبعتان – 2007.
– تغيير سبل العيش (تحرير، مع آخرين) – 2007.
– حرية التعبير (2007).
– انطباعات عن مستقبلنا الرقمي – 2006.
– نساء العلوم – 2006.
– كناب في فقه الدساتير (!!!) – 2012.
ومن مجمل هذه المشاركات والإصدارات يسهل جداً تبيُّــنُ أن السيد أ.د. المدير قد يكون على قدر من العلم والثقافة يتيح له تأليفَ كتاب عن تأملاته في مبنى المكتبة، فهو يحمل درجة الدكتوراة في الهندسة؛ لكن المنطق يجعلنا نتعجب، ونتشكك، في إمكانياته وفي قدرته على (إنتاج) بقية الإصدارات التي تحمل اسمه مؤلفاً أو محرراً، وآخرها كتابٌ في فقه الدساتير، أصدره ليغازل به إدارة الأخوان !.
وحتى إن تغاضينا عن ذلك، فلا يمكن التغاضي عن تدخل مهندس معماري في أعمال (مؤتمر) علمي متخصص في البيولوجيا الحديثة، التي تحير قضاياها كثيراً من البيولوجيين أنفسهم، متحدثاً، ومديراً لجلسات تعالج موضوعات بعيدة كل البعد عن تخصصه المهني، كالتكنولوجيا الحيوية، والطب، والصيدلة، والبيئة، والكيمياء، بالإضافة إلى حقوق الملكية الذهنية، وأحوال الغذاء في العالم، وبناء القدرات العلمية والتكنولوجية، بل وقد رأيناه محاضراً في مؤتمر عن الرياضيات وتدريس العلوم !.
والمؤكَّــدُ أن هذا المدير لم يكن ليصدرَ كل هذه الكتب، ولم يكن ليتمكن من فرض ذاته على هذا النحو بالغ النرجسية، لو كان في موقع آخر، خارج جدران المنتدى بإمكانياته الهائلة، وقبل كل ذلك، لو لم يكن مستمداً قوةً من سطوة أسرة نهبت مصر وأشاعت فيها الفساد، بل نهبت أموال المكتبة ذاتها!. والمؤكد أيضاً أن مشاركاته وتدخلاته في غير تخصصه، وفي حضرة أساطين العلم، كانت تُقابل بالمجاملة، فهو المضيف صاحب البيت.
لكل ما سبق، فإن كاتب المقال لا يجدُ نفسَــه بحاجة لأن يعتذر عن اضطراره إلى استخدام هاتين الكلمتين الدارجتين عنواناً لمقاله، فهما – في رأيه – أبلغ ما يمكن أن تعبر به العامية المصرية البديعة عن الشخصية التي يتعرض لها، وفق ما أثبته من أحوالها.