بالوعي والسخرية اللاذعة: أشرف الصباغ يفرض حضوره على “مراكب الغياب”!

sameer mahmoud
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. سمير محمود

قابلت أشرف الصباغ مرة واحدة قبل أكثر من ربع قرن، عن طريق صديق مشترك هو الكاتب الروائي سعد القرش، كان ذلك في مؤسسة الأهرام الصحفية في عام 2000 تقريبًا.

أشرف الكاتب الروائي المترجم هو مصري صميم مسكون بالوعي، مفتون بالتفاصيل، مدمن للحكاية، لا تفارقه الدعابة والسخرية القاتلة وبخاصة في أحلك الظروف، يضحك ن قلبه حتى ولوكان ضحكه كالبكاء، فهو ينتصر دومًا للإنسان لا الطبقة ولا السلطة ولا الجنس أو الوضع الاجتماعي. لا أتخيله مطلقًا ببدلة رسمية أو بربطة عنق، فهو أشبه بطائر حر يود لو تخلص من أجنحته وريشه، وانطلق عاريًا، كما روائع الفن والتماثيل الإغريقية القديمة، يتقن العربية والإنجليزية والروسية، لكنه انحيازه دائمًا وأبدًا للخطاب وليس للغة، سواء في كتاباته أو بنية أعماله الأدبية والروائية أو حتى في أحاديثه العادية، وكتاباته اليومية على الفضاء الأزرق.. الفيسبوك.

خلال اللقاء العابر الذي جمع ثلاثتنا؛ الصباغ والقرش وكاتب هذه السطور على أكواب من الشاي في مؤسسة الأهرام الصحفية، تحدث الصباغ كثيرًا عن مصر بحب وحنين ولهفة رسم معها رائحة الشوارع وطعم البيوت والذكريات، وأخذنا في جولة افتراضية بشوارع وحارات القاهرة الخلفية والأمامية، دون أن نبرح أماكننا، وقد أدهشتني قدرته الفائقة على الرسم بالكلمات التي صنع بها صور متلاحقة للشوارع والحارات والمقاهي والمكتبات بأدق تفاصيلها وألوانها ورتوش وأفاعيل الزمان وآثاره عليها، والأهم تسمية الأشياء ومجمل الأمور بمسمياتها الصحيحة والدقيقة.

قفزنا بالحديث نحو الشمال، حيث الاتحاد السوفيتي الذي كان قد تفكك في عام 1991، وهو  بالمناسبة عام تخرجي في الجامعة بعد دراسة الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، لم يتطرق الصباغ إلى الثورة البلشفية، ولا إلى سياسة المكاشفة “الجلاسنوست” ولا قدم لنا خطبة عصماء عن وعود البيريسترويكا، وإعادة الهيكلة وخطة إعادة بناء الاقتصاد التي كان قد أعلنها رئيس الاتحاد السوفيتي ميخائيل جورباتشوف في عام 1985، وإنما انصرف حديثه إلى الفن والأدب والفكر والثقافة والناس؛ فقد شاركنا حفل الشاي “فيودور ديستويفسكي” و”إيفان تورجنيف” و”ألكسندر بوشكين” و”ليو تولستوي” و”ألكسندر تشاكوفسكي” و”نيقولاي جوجول” و “أنطون تشيخوف” و”مكسيم غوركي”، وآخرين لا أتذكرهم الآن.

أتذكر تفاصيل هذه الجلسة الرائعة، التي أجزم بأن كل من سعد القرش – صاحب الدعوة – الذي حاسب على المشاريب، أو أشرف الصباغ المدعو، لن يتذكرا أيًا من تفاصيلها، إلا أنني لم أنس.. كلاهما يكبرانني بسنوات قليلة، لكن الصباغ قد استحضر في هذه الليلة عوالم بدت لي ساحرة مبهرة، شعرت معها بطموح ووعي وعمق ثقافي لافت وغير مصطنع.

تطرق الحديث إلى “آنا كارينينا”، “الإخوة كارامازوف”، “الحرب والسلام”، “الجريمة والعقاب”، “النفوس الميتة”، “يفجيني أونيجين”، “بطل من هذا الزمان”، “الأباء والبنون”، وبعضها كنت أسمع به للمرة الأولى بحياتي، وقد حرضتني هذه الليلة على اقتناء كل هذه الكتب والروايات ومنها بنيت نواة مكتبتي الوليدة بعد أن عرفت قدماي الطريق إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهذا أول ما أدين به للصباغ الذي لم يكتف بأن أهداني كتابًا، بل فتح عيني على عوالم كانت مجهولة بالنسبة لي في ذلك الوقت!

كانت حصيلتي المعرفية عن الاتحاد السوفيتي قد توقفت عند ستالين ولينين، وصحيفة البرافدا وكومسومولسكايا برافدا التي أشبعنا فيها الدكتور محمد فراج شرحًا وتدريسًا، ومن جغرافيا المكان عرفت الساحة الحمراء ومجلس الدوما  وسانت بطرسبرج ولينين جراد، ولما كنت قد أدمنت لعب الشطرنج، التصق بذاكرتي غاري كاسبروف، ربما هو في عمر صاحبنا أشرف الصباغ، وهو من مواليد مدينة باكو بجمهورية أذربيجان إحدى الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية “الاتحاد السوفيتي سابقًا”، ظل كاسبروف سيد العالم وبطله في الشطرنج حتى تلقى هزيمة مريرة من الحاسب الآلي Deep Blue  في عام ١٩٩٧.

تخلل الحديث الثلاثي -بيني وبين الصباغ والقرش- الكثير من الضحك والسخرية، والتندر على كل شيء، بدءًا من بطرس الأكبر أعظم قياصرة روسيا، وحتى كلاب الشوارع التي وصفها الصباغ آنذاك بالكلاب الخرساء؛ فهي حين تنبح لا تفهم من نباحها سوى هذا الصوت “جف.. جف”!

انقضى اللقاء وترك لي علامة استفهام كبرى حول الساحر الساخر الصباغ، كيف يشبه كلامه وكيف يشبه كتابته، حتى  مضت السنوات تلو السنوات، ولم يعد هناك تواصل، إلا  في السنوات الأخيرة عبر فضاء الفيسبوك الذي كان من حسناته تقريب المسافات واسقاط الحواجز، بدأت أتابع كتابات الصباغ وكتبه ورواياته وترجماته الرصينة، ووجدت الخيط الرفيع الناظم لهذه الأعمال، وهو الجدية الشديدة والتدقيق والتمحيص في كل ما يقول ويكتب أو ينقل عن اللغات الأخرى، فلا هو يتعجل أي منتج فكري أدبي إبداعي يقدمه، ولا هو تتلبسه نداهة معارض الكتب وحفلات التوقيع، ولا هو تؤرقه شهوة الانتشار والكتابة، وإنما ينضج تجربته الروائية والكتابية الإبداعية على مهل، وبعد تدقيق وبحث وتمحيص، وانتقاء فريد للمفردات والتعابير باللغة التي ينتج بها الخطاب  ويصنع الفن الخالص، سواء في القصة أو الرواية.

وبالاقتراب أكثر من أشرف الصباغ الإنسان، تكتشف أنك أمام مثقف صاحب موقف وأثر يبقى، ليس بالشخص العابر في أفكاره وآرائه -التي لك أن تتفق معها أو تختلف- لكنه في النهاية مثقف حر؛ لا يقبل أي تصنيف كان، وإنسان حر؛ لا يتسع صدره لانتماءات سياسية او فكرية أيديولوجية ضيقه تقيده، فهو يرى في الحرية فضاء يستطيع أن يتنفس فيه دون أن يحرم غيره متعة التنفس، وباختصار هو ثائر على كل قيد.

ومن سمات شخصيته أيضًا مواقفه الحاسمة، بحكم تكوينه ووعيه وإدراكه ودراسته للفيزياء والرياضيات والعلوم، فهو لا يعرف ولا يرحب بالإمساك بأي عصا من المنتصف، لا يرحب بأنصاف الطرق وأنصاف الحلول وأنصاف الأفكار وأنصاف الحقوق، أما الكل أو اللا شيء، وللتوضيح أقول أشرف صاحب موقف حاسم ورافض لكل أشكال الدروشة والمعجزات والكرامات وادعاءات هلامية، فلا كهنوت ولا تمسح بالعتبات وإيمان بالخوارق والغيبيات، لذا يسخر بشراسة من كل ما يجافي العقل والمنطق فيرفض قداسة الأشخاص أو من يسمون أنفسهم برجال الدين -أي دين- ولكنه يؤمن برب الدين ويحترم كل الأديان ضمن احترام أوسع لمفهوم الحرية التي من ضمنها حرية الدين والمعتقد.

من سمات أشرف الإنسان، رفضه القاطع لسطوة أصحاب السلطة -أي سلطة وكل سلطة- سواء كانت سلطة دينية أو مدنية أو عسكرية، انطلاقًا من ثوابته التي تنحاز للحريات وتنتصر للعدالة والكرامة الإنسانية، وإقرار الحقوق والالتزام بالواجبات، دون قيود شكلية تتكدس في صورة شعارات لا وجود لها على أرض الواقع.

في الوسط الأدبي والثقافي الذي اقتحمه مبكرًا وعلى استحياء قبل ثلاثة عقود تقريبًا، لم يقدم الصباغ نفسه بصفة الأديب الأريب ولا الكاتب الفلتة ولا المترجم الألمعي ولا أسطورة العلوم والفنون، وحتى حين يقترب بالبحث والكتابة النقدية عن أعمال آخرين من الكتاب والروائيين، ينطلق من  بحث جاد وقناعة مطلقة لطالما رددها في حواراتنا المشتركة عبر فضاءات التواصل الاجتماعي، حيث يقول:

“لا أؤمن بمقولة الأديب الكبير ولا الناقد الكبير ولا حتى القارئ الكبير، ولكن إيماني ويقيني وقناعتي تنحاز للكاتب والناقد والقارئ الهاوي، الذي يتحرر من كل إكليشيهات الكتابة ومفردات النقد السطحية الفارغة، البعيدة كل البعد عن معانيها ومقاصدها، والكاشفة عن جهل أو عدم قراءة بالمرة”.

ويضيف دائمًا: نحن مجرد هواة، نعشق ما نكتب وما نقرأ، ونقدم قراءتنا الخاصة ورؤيتنا الخاصة في أعمال الآخرين، لا تخدعنا عبارات النص المائز واللغة الشعرية والسرد المتجاوز، ولسنا أسرى لسلطة لقواعد تقيدنا سواء في الكتابة أو القراءة أو النقد على السواء.”

بهذه القناعات، لا يمكنك أن تجد أشرف الصباغ _ وقد تجاوزت كتبه ال ١٤ كتابًا ما بين قصص قصيرة وروايات وكتابات نقدية آخرها كانت رواية “مراكب الغياب”، وكتابه “نجيب سرور بين العبقرية والبطولات المزيفة”- متكالبًا على أي شيء لا ظهور إعلامي، ولا أوصاف تصفه ولا يرحب بها، ولن تجد له شلة ثقافية أو أدبية تتحرك ضمن قوافل الموالد والمؤتمرات الأدبية، ولا هو من الباحثين عن الجوائز والتكريمات، ولا هو من حملة المباخر المطبلاتية لا لشخص ولا لفكرة ولا لمذهب أو معتقد.. فهو كما ذكرت حر تمامًا، يكاد يكون وصف “المثقف الحر” الذي أتى إلى هذا العالم بمزاجه، ويود أن يغادره دون ضجيج، كطير حر في سماوات العالم، هو أدق وصف للصباغ الساخر الساحر.

وإذا كانت السخرية الحادة اللاذعة هي تيمة في شخصيته وفي كتاباته وأعماله الروائية، فقد برع في استخدام هذا السلاح في تشريح وتعرية تشوهات النخب المثقفة ليس فقط في مصر، وإنما بامتداد العالم العربي، وهذه هي السمة التي سأتوقف عنده بإيجاز إذا ما تركت أشرف الصباغ الإنسان، إلى الكاتب الروائي، فهو يرفض أوهام النخب المثقفة، ويرى في استعلاء بعضها وحديثها الغارق في تهويمات عوالم أخرى، انفصالًا حقيقيًا عن واقعها وأزمات مجتمعاتها، وعيشها في عوالم وهمية كلها شعارات حنجورية ومقولات نظرية فارغة، لا تشتبك مع الواقع من قريب ولا من بعيد، ولا تضيف ولا تحل ولا تربط، ومن ثم فهذه النخب هي تجسيد حي لأجيال ضائعة، لا يستنكر عليها الصباغ وجودها وإنما يكشف في إنتاجه الفكري والأدبي خواءها وانعدام أثرها، بل وعجزها عن التفاعل مع الآخرين، وقد تجلى ذلك بشكل واضح جدًا في روايته الأخيرة “مراكب الغياب”.

يتحدث البطل سامح علوان عن خادمته أم حافظ فيقول بلغته الساحرة الساخرة:

وبطبيعة الحال، لم تكن تنسى أن تتفحص وجهي يومياً، وتخيط الأزرار المقطوعة في قمصاني، وتقول لي بلهجة آمرة “لم يعد لدينا لبن، ولا يوجد صابون أو رابسو ولا حتى عيش”. وأنا طبعاً كمفكر عضوي ووجودي، كنت ألعن سنسفيل أبيها لأنها تقطع على مكالماتي الهاتفية المشحونة بالنقاشات البناءة، والأفكار التي ستنير العالم وتنهي الظلم والطغيان وإهانة المرأة والطفل، والدروس العظيمة من تراجيديا سبارتاكوس، وبطولات بحارة أسطول بحر البلطيق إبان الثورة البلشفية والحرب الأهلية في روسيا، وبداية عصر جديد لتخليص العالم نهائياً من الظلم والطغيان، والقضاء على الإمبريالية والرأسمالية العالمية، وإشاعة العدالة الاجتماعية والرقابة الشعبية. ومن جهة أخرى، بذل الجهود لتحقيق الديمقراطية العالمية والتعددية القطبية اللتين ظهرتا في السنوات الأخيرة في مواجهة النيوليبرالية.

وبلغة لا تخلو من السخرية الحادة ذاتها يدير الصباغ نصه وسرده في حوارات سامح علوان وأم حافظ في روايته مراكب الغياب ومنها نقرأ هذا الحوار العبثي الساخر عن المرأة:

يا أم حافظ، أنتِ لا تفهمين شيئاً. يجب أن نبدأ بداية صحيحة. إن المرأة كيان مستقل، ويجب أن ندافع عنها، ونرفع عنها وصايتنا ونحميها من التكلس، بل ونحميها من نفسها في المقام الأول – يا ابني لا تقلب دماغي ولا تصد عني، إلهي يسترك… هل تريد أن ترفع الوصاية عنها وفي نفس ذات الوقت تحميها وتدافع عنها ؟! إلهي يسترك وينور مخك كمان وكمان… يعني هي عاجزة وكاتعة ولا تستطيع حماية نفسها؟! عموماً يا خويا المرأة تريد أن تقوم من النجمة لكي تنفض وتركب لك زراير القمصان المقطوعة.. وتريد أن تمسك برقبة البواب الواطي وتعلقه من عرقوبه لأنه نسي أن يكنس مدخل البيت ونسي أن يسقي الزرعة اليتيمة في مدخل العمارة… عندك من الآن حتى الساعة السابعة صباحاً، اندهش كما يحلو لك، وروح سلع المرأة وسلخها كما تريد.. وعندك أيضا وقت لإصلاح التعليم في أفريقيا وبنجلاديش ودكرنس وأسيوط، وعمل الثورة الخضراء هناك.. لكن كل ما أرجوه إلهي يسترك، أن تقوم بدري وتأخذ لنفسك ركناً بعيداً في البلكونة إلى أن تنهي المرأة أعمالها… وبالمناسبة، فيه شق وراء شباك الحمام وجلدة الحنفية في المطبخ تحتاج لتغيير، والسيفون عطلان.. هل ستتصرف أنت وتصلحهم أم أنادي على مرات البواب تصلحهم؟

أم حافظ هذه لعنة، وابنة كلب لا تسمع الكلام.. لا تقدر مجهودي العضوي والوجودي في طرح الأفكار والسياقات من أجل ضبط عقارب الوعي الجمعي وتأطيره في بوتقة اعتبارية قادرة على تفعيل النشاط الإنساني وتوجيهه من أجل خدمة المجتمع..

يذكرني أشرف الصباغ في جوانب عديدة من حياته وأسفاره وعطائه بنجيب سرور، ومع ذلك تظل السخرية اللاذعة – عند الصباغ – من أي شيء وكل شيء ومن أي شخص وكل شخص -حتى من ذاته- ومن الأفكار والأقوال والأفعال علامة مميزة للكاتب بارزة لكاتب من العيار الثقيل وإن خاصمته أقلام النقاد وعرابو الجوائز.!

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم