الموت في المدينة لا يتمّ استيرادُه لأنه مُنتجٌ وطنيّ بامتياز، ويتمّ عادةً بحجّة “حماية الوطن.” وهو يُعبّأ بالصناديق، ورائحةُ الموت تُسيطر على هواء المدينة فتنسلّ إلى كلّ أنفٍ مهما كان مصابًا بالزكام. وبالرغم من ذلك، فإنهم يقيمون “محكمةً” كلّما وَجدوا جثةً ملقاةً على قارعة الطريق ويستجوبون القاتل.
وعلى ذمّة القاتل، فإنّ القتيل كانَ إرهابيّاً يحمل في طيّات كتابٍ كان يقرأه في حديقةٍ عامّةٍ ما يشبه الخططَ العسكريّة التي تسربتْ إليه من دولةٍ أجنبيّةٍ معاديةٍ بهدف إسقاط النظام، وخبّأ في ثوب طفلته قنبلةً بحجم رضاعة الحليب الخاصّة بها، ودَسّ في عيون زوجته جهازَ تسجيل.
وبحسب ضابط الأمن الذي تولّى التحقيق، فإنّه لم يتمّ العثورُ على أيّ خططٍ عسكريّةٍ بين طيّات الكتاب الممزّق، لكنه أبدى توجّسَه من الكلام المكتوب فيه. ولم يتمّ العثورُ على أيّ سلاحٍ أبيضَ قرب جثّة القتيل، ولا على قنبلةٍ في ثوب جثةِ طفلته، ولا على أيّ نوع من أجهزة التجسّس والتسجيل في عيون جثة زوجته، فاضطرّ رجلُ الأمن الجنائيّ إلى فقء عيني جثتها بحثًا عن أدلّةٍ تدحض رواية القاتل. وأضاف ضابطُ الأمن: “لكنّ هذا لا يبرّئ القتيل من إثم النيّة المسبّقة، فكلامُ الكتابِ مريب.”
وعلى ذمّة القاضي، فإنّ القاتل كان خائفًا من الفكرة ـــــ وهذا ما يجعل الجريمة دفاعًا عن النفس، فالفكرة أشدّ فتكًا من القنبلة. لكنّ القاضي لم يحدّد لونَ الفكرة وشكلَها وكميّتها، بل اكتفى برفع الجلسة بعد تبرئة القاتل.
أما بالنسبة إليّ، فالقاتل ضحيّة البشريّة التي تَخلّت عن الإنسانيّة ووقفتْ إلى جانبه تبرِّر له الجريمةَ لتقْنعه بأنه بطل. إنه ضحيّة الإنسان الذي خلق الجريمةَ، ومن ثم صار يبحث كيف يمكن أن يصنع رجالَ أمنٍ ليتخلّص منها.
ترى مَن جاء قبل الآخر: الجريمةُ أمْ رجلُ الأمن؟ الخوفُ أمْ رجلُ الأمن؟ ومن الذي فرّ من الآخر: الأمنُ أمْ رجل الأمن؟
لا يشبه اللهُ أبدًا ذلك الإلهَ الذي يصلّي له رجالُ الأمن والمخبرون، ويتحدّث عنه رجالُ الدين والمتديّنون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مهنّد صلاحات
كاتب ومخرج مقيم في ستوكهولم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنان: ماكس ارنست ( 1891 – 1976 )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة