بالسخرية نقاوم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نضال بدرانة

ولدت في منطقة الجليل عام ١٩٨٤، درست المرحلة الابتدائية والثانوية في قرية عرابة حيث ولدت ثم انتقلت للعيش في مدينة حيفا. بدأت مسيرتي الكوميدية في عالم الساتيرا في سن ١٤ عام  من خلال سكيتشات مدرسية قصيرة وتقليد لبعض الشخصيات السياسية في المهرجانات الفلسطينية المحلية، أول صعود لي على خشبة المسرح كان في تقليد شخصيات سياسية مثل معمر القذافي وياسر عرفات. في فترة المدرسة كان يدعوني طلاب المدرسة “المهرج”  ” الكراكوز” ” النكتجي”، ربما كانت هذه النعوت التي التصقت بي منذ الصغر كفيلة بتحديد مسيرتي الحياتية.

لا أعلم حتى كتابة هذه السطور ما دفعني للمضي في عالم الكوميديا وعالم الفن واستمرت لدي حالة البحث عن الأسباب التي دفعتني إلى هذا العالم من خلال الخوض في الذاكرة والطفولة والبحث عن نضال بدارنة الطفل.  لا اذكر اي شيء من طفولتي سوى بعض الصور التي تأتيني أحيانا كطيف عابر  في ذاكرتي عن شخصية نضال الطفل السمين ذو الشعر الاشقر، الخجول، المنطوي على نفسه في الصف المدرسي. ربما كان هذا أحد أسباب اعتلائي خشبة المسرح في طفولتي كإثبات وتأكيد لوجودي وحضوري ورغبتي في التحول من طفل غير مرئي إلى طفل مرئي.

 درست المسرح  ثم الإخراج السينمائي وبعدها  استكملت دراستي بموضوع العلاج من خلال السينما، قدمت عشرات العروض الكوميدية في فلسطين والعالم، تميزت عروضي الكوميديه بتناولها اللاذع للقضايا المجتمعية والسياسية في فلسطين والعالم العربي. قدمت  في المجال السينمائي أربعة أفلام ما بين الوثائقي والروائي وكان اخرها فيلم بوست تراوما وهو فيلم وثائقي قصير يتناول موضوع الصدمات النفسية التي ترافق الاشخاص نتيجة ما يقوم به الاحتلال من خلال التطرق لثلاث مراحل تاريخية في نضال الشعب الفلسطيني.

قبل توجهي لدراسة المسرح  أدركت  الدور الهام للكوميديا وقدرتها على التغيير المجتمعي واجتراح الامل من رحم المعاناة في بلاد قل ما فيها الضحك وكثر فيها الموت ودمار الحروب.
 ان القدرة الخارقة للكوميديا في زرع التفاؤل وبث روح الامل والقوة هو ما جعلني امتهن الكوميديا والساتيرا وابتعد في ادواري المسرحية عن المسرحيات الجادة والدراما المفرطة مع العلم انني قدمت بعض الأدوار الجادة كان اكثرها تميزاً العمل المسرحي اليوناني ” أفغانيا في تاوريس “.
نتيجةً للظروف السياسية واجهت الحركة المسرحية الفلسطينية ملاحقات و تضييقات من الاحتلال الاسرائيلي مما حد من تطور المسرح بشكل عام والمسرح الكوميدي بشكل خاص.
 حاولت العديد من الفرق المسرحية وعلى مدار سنوات التسعين خلق حراك فني كوميدي من خلال تقديم مقاطع كوميدية اجتماعية م ولكن بقيت هذه المبادرات تزاحم نفسها ولم تقوى على خلق حالة مسرحية كوميدية في فلسطين.
 عام 2006 شاركت في تأسيس العديد من التجارب الكوميدية مثل”  فرقة الشارع” وفي عام 2008 فرقة ” دولة الضحيكة ” في عام ٢٠١٥ اسست  الى جانب الصديق وافي بلال شركة المنشر  فن وانتاج وهي شركة مستقلة لانتاج العروض والافلام الكوميدية وكانت هذه التجربة ريادية في الداخل الفلسطيني وقد اقمنا هذا المشروع ايماناً منا بضرورة الدفع بعجلة الانتاج المستقل في فلسطين وضرورة التخلي عن التبعية للمؤسسات الرسمية والصناديق المانحة.  وفي عام 2009 قدمت اول تجربة فلسطينية في الستاند اب كوميدي حيث قدمت عرضي الاول ” ع الواقف” وكان هذا هو اللقاء الاول بين الجمهور الفلسطيني وممثل مسرحي وحيد ( مونو ) يقدم عرض كوميدي متواصل لمدة ساعة ونصف.
 نجاح هذا العرض والإقبال الكبير عليه كان بداية لانطلاق جانر جديد في فلسطين وهو الستاند اب كوميدي. بعد ع الواقف الاول قدمت ( ع الواقف ٢ ) ( خلوني ساكت احسن ) ( يوم السبت عطلة ) ( تفظلوا يا غوالي ) (جمهورية الهريسة ) ( استوى العدس ) ( كائن فضائي) والعديد من العروض الكوميدية الفردية.
في السنة الاخيرة 2024 قدمت عروضًا سياسية ( مخرج طوارئ) و ( الكبة الحديدية ) وهما عرضان تم كتابتهما وعرضهما في ظل ما تتعرض له غزة من حرب ابادة وعدوان حيث تناولا هذان العرضان ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من قتل وتدمير وعرض نضال من خلال هذان العرضان كوميديا سياسية من العيار الثقيل يمكن تصنيفها بالكوميديا السوداء.
اعتبر  ان هذان العرضان يختلفان عن كل ما سبق وعن كل ما قدم بالذات ان المقولة في هذان العرضان هي مقولة احتجاجية في وجه الموت الذي يتربص للفلسطيني في كل مكان.
 ان  اصعب ما يمر به صانع الكوميديا هو التعالي على جراحه وجراح شعبه وبحثه الدائم عن الفرح بين ركام الحرب.
 كان لدي تردد كبير في اطلاق عروض كوميدية بالوقت الذي يباد فيه الفلسطيني واللبناني امام اعين العالم. وكانت هذه الفترة بمثابة مرآة لي وضعتني امام اسئلة صعبة تتعلق بدور الكوميديا والضحك في مواجهة الحزن والفقدان.
 هل على الكوميديان ان يصمت ويقهره الموت ورائحة الدم ام هذا هو الوقت لمواجهة هذا السواد والبحث عن ما تبقى فينا من امل.

في فلسطين خصوصا وفي عالمنا العربي عموما لا يمكن فصل الفن عن الواقع اليومي المعاش بالذات في ظل ما يتعرض له الانسان العربي من محاولات كم الافواه والقمع. ان هذا الواقع المأساوي والمبكي يجعل من الكوميديا مهمة صعبة وفي بعض الاحيان يمكن تسميتها بالكوميديا المضحكة المبكية في ان واحد وهذا بالطبع يجعل من الكتابة الكوميدية تحدي للفنان حيث لا يمكن له ان ينسلخ عن واقعه المعاش والعيش في حالة اغتراب عن حقيقة ما يحدث حوله ولكن في الوقت ذاته هذا التحدي في صياغة وكتابة الكوميديا ينتقل بالفنان من مرحلة صناعة الكوميديا لاجل الترفيه الى مرحلة الكوميديا التي تحاكي وجع الناس مما يجعلها ذات مضامين وابعاد انسانية تسعى الى خلق امل متجدد.

دون الخوض في الكلاشيهات والشعارات الكبيرة اسعى في عروضي للحديث عن شعبي وعن مجتمعي من خلال الضحك والستاند اب كوميدي. هناك توقعات دائمة مني كفلسطيني ان اتحدث فقط عن سواد العيش وعن الافق المسدود، عن السياسة والاحتلال ولكن يمكن للفلسطيني ايضا ان يتحدث من خلال فنه عن قضاياه الصغيرة مثلا رغبته بشراء سياارة، قدرته على امتلاك بيت، الابوه، الامومه، التربية، الطفولة او اي موضوع يومي دون التعقيدات التي فرضت علينا بحكم واقعنا تحت نير الاحتلال. 

من خلال عروضي احاول ان اتمسك باحلامي البسيطة من اجل العيش في عالم افضل، عالم يحترم قيمة الانسان دون الشعور الدائم بالخوف من التصنيفات التي تفرقنا، احاول ان اتمسك باحلامي في تربية ابنتي بعالم خال من الدم والدمار، اكتب واقدم الكوميديا لاعيش وأحيا كأي انسان في هذا العالم المجنون الذي يقتل اجمل ما فينا وهو قدرتنا الدائمة على الحياة والتجدد.

ان اكثر الصعوبات التي تواجه الكوميديان الفلسطيني هي التابوهات المجتمعية التي تحد من امكانياته في تقديم الستاند اب كوميدي ـ يحاول الفنان وبشكل دائم عدم المواجهة المجتمعية بعكس قدرته على المواجهة مع الاحتلال وتقديم فن احتجاجي سياسي، لم يتخطى الفنان في فلسطين حاجز التقاليد والاعراف وما زال يحاول المراوغة بينها والبقاء في المنطقة الامنة , انا تعرضت للكثير من الحملات التحريضية بسبب العروض التي اقدمها ونقدي الدائم للتابوهات المجتمعية البالية ولكن ايماني بما اقدم هو ما يدفعني للاستمرار وتخطي هذه المناطق الامنة التي تحد من انطلاقتي ككوميديان وتحد من التقدم نحو بناء مجتمع واعي ومجتمع منفتح ومبني على الحوار وتقبل كل ما هو مختلف. 

الكوميديا فن صعب بالذات عندما لا يمكنك التحكم بهدوئك النفسي ولا باستقرار مشاعرك اليومية حيث تتأثر ككوميديان بكل ما هو حولك، همومك اليومية، مشاكلك الروتينية الصغيرة اذ يمكن لاي تفصيل صغير في يومك العادي ان يأثر على قدرتك في كتابة النكات والساتيرا.

اجد نفسي في بعض. الاحيان عاجزاً عن الكتابة والضحك محاولاً بكل جهد ان لا افقد قدرتي على الضحك واسعاد الناس، ربما من اعظم ما تصنعه الكوميديا فصل الانسان عن واقعه الاليم والمُحبط احياناً. 

بعد مسيرة اكثر من ١٥ عام في مجال الكوميديا ادرك الان ان هذا الفن يصنع المعجزات، فسحة امل ينفصل فيها الجمهور عن كئابته اليومية وعن ثقل العيش بالذات عندما نفسه من خلال النكتة او الموقف المضحك. 

تجمع الكوميديا التي اقدمها بين الواقع والخيال، واجمل ما في الستاند اب كوميدي هي المساحة والقدرة على تحويل الواقع الى خيال والتطرف في الحبكة مع ابقاءها واقعية وهذا ما يدفع الجمهور الى تصديق معظم المواقف وهذا شيء مهم ان يكون الكوميديان قادراً على اقناع جمهوره بما يقول لتبدو القصص من نسج الخيال حقيقية وصادقة. 

وظيفة الكوميديا هي الترفيه عن النفس اولا واخيراً ولكن تصبح قيمتها عظيمة عندما تكون هذه الكوميديا ذات رسالة ومقولة من اجل التأثير وصنع التغيير الاجتماعي والسياسي.

لدي ايمان عميق بان التهكم والسخرية يمكنها تجريد وتعرية كل شيء وهذا ما يجعل للكوميديا القوة والقدرة على تحطيم كل المفاهيم المجتمعية والتابوهات المكدسة وراء الباب الخلفي من بيوتنا، من شوارعنا ومن مدارسنا. 

تناولت في عروضي الكثير من المواضيع الاشكالية مثل الدين، الجنس، العلاقات الاسرية، التحرش والعديد من المواضيع التي لا يفضل الجمهور الخوض فيها ووضعها على الطاولة ولكن هذا هو الدور الحقيقي للفن ان يكون منحازاً، صادقاً ومواجهاً.. والكوميديا بالذات جاءت لتقول لا تقديس لاي شيء وكل ما حولنا هو مادة للتهكم والسخرية، وهذا ما افعله كي لا اموت قهراً، احيا ساخراً، ضاحكاً ومتفائلاً في البلاد المقدسة.
…………………..

*ستاند اب كوميدي فلسطيني

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم