العامية خزان العواطف والإنشاد والاستخدامات اللغوية المتداولة والشائعة. ما يكتبه محمد خير أكثر حداثة من هذه السمات التقليدية. إنه يكتب بالعامية، لكنه يجرب أن يُعرِّض مفرداتها إلى اختبار معجمي آخر. الواقع أنّ هذا الإحساس الذي تشيعه قصائد المجموعة لا ينبع فقط من حداثة معجمها وتمرُّغه بمفردات الحياة المعاصرة، بل، أيضاً، من ميل الشاعر نفسه إلى شعرية النثر. النثر بتجلياته الأكثر نثرية. نثر الشارع والمقهى والمنزل والعزلة والأشياء الزائلة أو التي تبدو كذلك لكثرة ما هي هشّة وسريعة العطب. وهذا، على أي حال، من مكوّنات قصيدة التفاصيل، ومن خصوصيات النثر العادي الذي تُكتب به عادةً. إنّها قصيدة في امتداح ما هو تفصيلي ومهمل وعابر. وحين تكون اللهجة العامية هي «البلاسما» التي تضم هذه الممارسات والخيارات، يكون متوقعاً أن تفقد هذه اللهجة شيئاً من تقليديتها، وتكسب، في الوقت نفسه، قيمةً استعمالية مضافة. مع تقدمه في تصفّح المجموعة، يتلقى القارئ المزيد من الإشارات إلى سعي محمد خير لإنجاز قصيدة عامية تستثمر عوالم ومناخات ومعاجم قصيدة النثر اليومية. ولا يحتاج القارئ إلى البحث طويلاً ليختار مثالاً على ذلك، فالمجموعة كلها تذهب في هذا المنحى. لنأخذ قصيدة «اللُّعَب» التي تكشف عن ابتكار تخييلي عن حياة الدمى واللُّعب. إنها أجيال متشابهة تخرج من المعامل لتعيش أكثر من البشر: «مش مجبرين / يردوا على أسئلة العيال/ وحتى لو كسرولهم إيد ولا رجل/ مش هيحسوا بحاجة/ هيفضلوا مرتاحين/ مسنودين ع الأرض/ ع الحيطة/ ع الكراسي البامبو/ ع الكنب الأسيوطي/ مش هتفرق/ مولودين كلهم في نفس اليوم/ ولو ما حصلش شيء خطير/ زلزال مثلاً/ أو نوبة غضب من اللي بتحرق البيوت/ فغالباً هيعيشوا أكتر مني ومنك». الشعر هنا مصنوع بمكونات ومذاقات غير شائعة كثيراً. كما أنّ الحياد العاطفي في القصيدة والتفلسف الداخلي الذي كُتبت به يُطيل من تأثير هذا الشعر على المتلقي ويجعله أكثر عمقاً. ثمة تقنيات وحساسيّات في طريقة تأليف الجملة وفي اصطياد الصور والأفكار. وثمة مهارة في فتح عوالم القصيدة وفي إقفالها بالصورة المناسبة. الذين اعتادوا على ما يتوقعونه من الشعر العامي قد لا يستسيغون الطعم الجديد الذي يقترحه عليهم شعر محمد خير. أما الذين ينتظرون المفاجآت فلا بد من أنّ مجموعة «بارانويا» ستكون هدية تُشبع فضولهم.