أشرف الصباغ
(١)
كانت جدتي تضحك وتقول: “بيت من غير نسوان، سكن للشيطان”.
يضحك الجميع، وتقام الأفراح بطول حارة اليهود وعرضها. تحيط بيتنا الكبير الكهارب من كل ناحية، ويأتي إلينا حتى أصحاب المحلات من شارع الموسكي. كان كل عُرس يأتي إلينا بامرأة جديدة تنير البيت الكبير. وعندما آن الأوان، خرجت أمي لتنير بيتا آخر في الزيتون، بينما تزوجت خالتي من صاحب مقهى في الحارة وظلت هناك.
وُلِدْتُ في الزيتون. كانت أمي تحكي لي دوما عن أمها عن جدتها أثناء انتظارنا العذراء من كل عام وسط الجموع التي تنتظر المدد. وبين تلك الجموع تعرفتُ على زوجتي عندما كنا صغارا. وظللنا نطلب المدد كل عام حتى كبرنا بين الأحلام والرؤى والانتظار.
(٢)
لم يكن أول ما لفت نظري هو تلك الفتاة سائقة التاكسي. كانت فتاة شابة تدرس بالجامعة وتعمل بسيارتها، أو ربما بسيارة والدها، في إحدى الشركات الجديدة التي ظهرت في القاهرة مؤخرا. تجاذبت زوجتي معها الحديث، وسألتها عن عملها الأصلي، وعن تصرفات الزبائن معها، وهل تتعرض للمضايقات والتحرش. وراحت الفتاة السائقة تحكي باطمئنان، وبابتسامة لا تفارق شفتيها، عن أنها تدرس بالجامعة، وتعمل في أوقات الفراغ. قالت إنها تتعرض للمضايقات مثل أي شخص يعمل في هذه المهنة، ولكنها كامرأة تتعرض لبعض المضايقات الإضافية من الرجال الذين يستعرضون أمامها فحولتهم النادرة أو يسألونها أسئلة محرجة أو يدعونها صراحة لمواعيد ولقاءات. ضحكت بخفة وذكاء، وقالت: “كل واحد له رد، وكل واحد له علاج. وأحيانا أطالب البعض بالنزول، الأمر الذي عرَّضني لغضب المسؤولين في الشركة. ولكنهم دائما يتفهمونني عندما أشرح لهم ماذا يحدث معي”.
كان تقود السيارة بحرفية عالية وشجاعة وخفة. لم تكن تعرف الطريق جيدا. اعتمدت على اتصالاتها الهاتفية مع والدتها التي كانت توجهها. ضحكتْ وأخبرتنا أن والدتها كانت بالأمس فقط في الدرب الأحمر، ذهبت من ناحية مستشفى الأزهر، ومرت على الباطنية إلى أن وصلت إلى هناك. ابتسمت في خفة وقالت إن والدتها من مريدي ستنا فاطمة النبوية، ولكنها لا تعرف إلا طريقا واحد إليها.
ردت زوجتي في دهشة:
– قالوا لي إن هناك طريقا من شارع الغورية!
وصلنا إلى ميدان عابدين. كان علينا أن نتجه إلى شارع بورسعيد لنقطعه إلى الدرب الأحمر. اكتشفنا أنهم غيروا اتجاهات غالبية الحواري والشوارع، ربما لاحتياطات أمنية، نظرا لأن هذه المنطقة تضم مديرية أمن القاهرة. دخلنا أحد الشوارع بالخطأ، ومنه انعطفنا إلى حارة جانبية ضيقة للغاية. أوقفت السائقة السيارة أمام ثلاثة رجال جالسين أمام أحد محلات البقالة وسألتهم عن جامع السيدة فاطمة النبوية، حيث كنا نريد أن نذهب. رد الرجال في أدب شديد، وشرحوا لنا الطريق الصحيح. كانوا في غاية الدماثة. نصحونا بالرجوع إلى شارع بورسعيد والدخول إلى الدرب الأحمر من الشارع المجاور لمديرية الأمن، لأنه الطريق الأقصر والأسهل، بدلا من الدخول من هنا حيث الحواري الضيقة، وإمكانية الوقوف لساعة أو اثنتين في طابور طويل بسبب دخول البعض بشكل عكسي.
فعلنا كما قال لنا الرجال. ولكن الشارع المجاور لمديرية الأمن لم يكن أحسن حالا من الشوارع والحواري التي حذَّرونا منها. ومع ذلك، كان السائقة تناور بحنكة وذكاء وقدرة على القيادة. سيارات كثيرة وتكاتك وشبان يحملون أقفاص الخبز على رؤوسهم ويقودون الدرَّاجات، ورجال يدخنون الشيشة على أبواب دكاكينهم، وأطفال يقطعون الطريق ونساء كبيرات السن يسرن بصعوبة وهن يحملن أكياسا بلاستيكية أو صفائح ثقيلة أو صُرر لا يعرف أحد ما بداخلها.
مررنا من أمام باب زويلة. سألنا عن جامع ستنا فاطمة النبوية. قالت لنا امرأة بخشوع: “ادخلوا إلى اليمين ثم إلى اليسار ستجدون الجامع أمامكم.. شيء لله يا ستنا فاطمة”. رد رجل فارع الطول يلبس جلبابا رصاصي نظيفا وعلى رأسه عِمامة بيضاء: “من الأفضل أن تسيروا إلى الأمام حارتين وتدخلوا في الثالثة على اليمين ثم تنزلوا هناك، لأن السيارات لا تدخل إلى الحارة المؤدية للجامع”.
اتضح أن الرجل كان أكثر دقة. أو بالأحرى، كان يعرف أننا يجب أن نتوقف أمام الحارة، ونسير عدة خطوات لنصبح أمام المدخل الكبير الواسع للجامع، والذي نصعد إليه على دَرَجٍ كبير واسع ونظيف.
نزلنا من السيارة. ودَّعنا السائقة بود وحرارة. وجدنا بعض الرجال والشباب يجلسون عل جانب الطريق. سألناهم: أين جامع……!!! وقبل أن نكمل، وقف شاب طويل وأشار بيده نحو مبنى يأخذ العقل. لا حظنا أن الناس هنا، ومنذ دخولنا المنطقة، في غاية الأدب: مهذبون بطرقة غريبة وكأنهم سقطوا للتو من أفلامنا القديمة، عيونهم تشع ذكاء وودا ومحبة، ملامحهم هادئة وحبيبة. انتبهنا أيضا إلى أنهم يتعاملون بحنان بالغ ورجولة، لا ينظرون إلى النساء بعيون جائعة، وإنما بود ومحبة واحترام. شيَّعونا بنظرات دافئة حتى وصلنا إلى ما قبل الدرج الكبير الواسع. كنا نشعر بدفء تلك النظرات التي تمنح الإنسان إحساسا بالأمان، وبأنه بين أهله وناسه.
بحثتْ زوجتي بعينيها عن أحد ما، أو شيء ما. نظرتُ إليها بعينين متسائلتين، فابتسمتْ، وقالت هامسة:
– لا أدري أين باب النساء!
جاء صوت قوي قاطع وحاسم من إحدى زوايا الحارة القريبة:
– بابها واحد.
فنطقت امرأة عابرة: مدد.
كان ضخما وطويلا يقف هناك بملابس كثيرة على جسده والمسابح تحيط برقبته، وبيده مبخرة ضخمة وبالأخرى مسبحة طويلة. عيناه واسعتان لا يختلط فيهما الأبيض بالأسود، تشع منهما ابتسامة ساحرة، ووقار أخَّاذ يطل من ملامحه السمراء المتوارية خلف لحية بيضاء حلوة.
شعرتُ برجفة في يد زوجتي التي كانت لا تزال تمسك بيدي. توجَّهتُ إلى شابين يقفان على أول الدَرَج. سألتهما:
– أين باب النساء؟!
علتْ وجه أحدهما ابتسامة رائقة، ورد الثاني في هدوء:
– الباب واحد!
اتسعت ابتسامة الأول وقال:
– والكل في رحابها بالداخل. ادخلوا.
صاحت امرأة جالسة على أعلى الدرج موجهة حديثها إلى زوجتي: “مدد”. وأشارت لنا بالدخول، فاتحة ذراعيها عن آخرهما، وكأنها تفتح بابا لا أول له ولا آخر.
أخرجت زوجتي طرحة بيضاء من حقيبتها. ألقت بأحد طرفيها على رأسها، وبالطرف الآخر على كتفها. قفزتْ على الدرج كطفلة تخطو أولى خطواتها. نظرتْ نحوي بوجه مضيئ. دعتني بعينيها إلى الدخول. مدتْ يدها بثقة. أمسكتْ بيدي، فسَرَى تيارُ سلامٍ في جسدي. قلتُ لها: سأنتظرك هنا. قالت: “أ لم تسمع؟ بابها واحد، والكل في رحابها بالداخل”. صَدَح صوت يشبه صوتي، انطلق في كل أرجاء المكان: “مدد يا أم اليتامى”، فتزلزت الجبال، والجبال لا تتزلزل إلا من أجل اليتامى والدراويش والسكارى بعشق نورها وعطفها وحنانها، ورددت المجرة الصدى: مَددٌ مدد…
انشقت السماء. رأيتنا نهبط منها يدا بيد وكتفا بكتف. حلَّقنا ولهونا. بدت لنا الأرض بألوانها الزاهية صغيرة بحجم القلب. وما إن وصلنا إليها حتى تسطَّحَت واتسعت. ركضنا حتى اعتدنا ملمسها وطراوتها. تعلَّمنا كيف نسير في الشوارع والحواري بأيادٍ متشابكة، نختصر الطرق ونعبر قضبان السكك الحديدية إلى أن نصل إلى كنيسة العذراء بالزيتون.
كنا صغارا ننتظر ظهورها من العام إلى العام. ومن العام إلى العام صرنا صبيانا وبنات نشعل الشموع ونذهب إلى بابها. كانت زوجتي ونحن صغارا، تتركني وتدخل بشمعتها إلى الداخل. وكنتُ أنتظر دائما بالخارج. لا أدري إلى الآن، مَنْ كُنْتُ أنتظر مِن السيدتين: أُمُ النور أَمْ أُمُ اليتامى! كانت واحدة تأتي كل عام من السماء إلى كنيسة الزيتون، والثانية من الداخل، من داخل القلب، ربما من داخل قلوب النساء والرجال السابحين في رحابها والواقفين على عتباتها في الدرب الأحمر. وربما مِنْ قلبي أنا أو من قلب تلك المرأة التي كانت تقف منذ قليل على أعلى الدرج تفتح ذراعيها عن آخرهما وتَنْشُد المدد!
كانت تدخل بشمعتها مع الأولاد والبنات. تبتسم ابتسامتها الصغيرة الفرحة، وتهمس: “سأغمض عينيىَّ بالداخل كي أراها مثل السنة الفائتة”. أعابثتها: “ستأتي من السماء، وسأراها أولا. ربما لن تدخل إليك هناك”. تضحك عابثة وتقول: “أنت الذي تنام كل عام ولا تراها”.
كنتُ أبقى في الخارج مثل كل عام لكي أراها وهي تحلق في السماء بهالة من نور لا عين رأته ولا خطر على قلب بشر ولا تراه إلا القلوب والأرواح. لكنها لم تكن تهل على الأرض إلا عندما أُغْمِضُ عينيىَّ وأسلِّمُ قلبي لها. كانت زوجتي، عندما كنا صغارا، تخرج دوما في هذه اللحظة من كل عام، فتجدني نائما في سلام. تمد يدها الصغيرة نحوي. وكلما كانت تمر بها على رأسي، كنت أشعر بظهور البشارة. وتهل العلامات حتى أراهما نورا ومحبة وسكينة. فتأخذ كل منهما برأسي في صدرها، وتبتسمان نورا ومحبة وسلاما، ويهلل الناس، ترج أصواتهم الزيتون والمطرية وكون الأكوان، ترقص الصلبان على الأبراج: “أم النور، أم النور”. تتردد أنفاسي بين السماء والأرض فينبت العنب والبصل والسوسن، وتصدح الطيور في الأعالي وتُسَبِّح الأسماك في البحار: “أم النور، أم النور”.
(٣)
شعرتُ بيدها تمر على رأسي. فتحتُ عينيىَّ، فرأيت نورا ثلاثي الأبعاد ينطلق: من وجهها، ومن ملامح رجل أسمر ضخم بلحية بيضاء حلوة، ومن ابتسامة امرأة لا تزال تفتح ذراعيها عن آخرهما وتَنْشُد المدد. ويتردد الصدى: مددٌ مدد.
مدت يدها: نفس اليد الصغيرة أمام كنيسة العذراء. أنهضتني من رقدتي أمام بابها الواحد. حَكَتْ لي كيف غَفَتْ للحظة في الداخل، وماذا رأت في رحلتها من الأزل إلى الأبد. ابتسمت فتوحد النور والنار والدفء. سألتني: “وأنت، ماذا فعلت؟”. حكيت لها عن المرأة الجالسة خلف الجامع تبيع الطيور، وعن المقهى الجانبي، قبالة أحد أبوابها، يجلس عليه رجال طيبون، وعن امرأة نظرت إلىَّ بود وحنان وسألتني في عِتَاب: “لماذا لم تدخل!”
فسألتني مجددا:
– وماذا قلتَ لها؟
– قلتُ لها إني أرى. فوضعت يدها على صدرها وقالت في فرح: مدد!
– ولكن لماذا لم تدخل؟
– أنتِ تعرفين أنني أنتظر دوما في الخارج، قد أراها آتية من بين الناس، وربما من السماء.
– لا فرق أبدا. الاثنتان صورتان لجوهر واحد، مثل وحدانية الشمس مهما تعددت صورها.
كان الوقت ظهرا. الشمس تتوسط السماء. ونسمة طرية تَسْبَحُ وتُسَبِّحُ فتشيع البهجة والسكينة في أرواح النساء والأطفال والرجال. ابتسمتْ لنا امرأة متوسطة العُمْر تربط حذاء طفل صغير. قالت في سلام: مدد. ابتسمت زوجتي وقالت: “من غير عدد، يا أهل المدد”. نظر إلينا رجل عابر نظرة حلوة، وابتسم. فقالت الصبية التي بصحبته: “مدد”. فابتسمتُ لها وقلتُ: “يا أهل المدد”.
مررنا على حواري وأزقة ضيقة تضم أفران خبز وورش نجارة وحدادة ومقاهي ومطابع قديمة. لا أصوات عالية ولا ضجيج. المارة والجالسون أدركوا أننا غرباء. كانوا يبتسمون ويفسحون الطريق وعلى وجوههم ابتسامات خافتة تبعث بالبهجة والسكينة. مظاهر الفقر تكاد تنطق بما تخفيه البيوت المتلاصقة بنوافذها المفتوحة وأبوابها المشرعة وأحبال الغسيل التي تحمل كل حكايات الثياب المنشورة عليها وأحلام أصحابها من صبيان وبنات.
سألتني:
– هل تعرف بيت ابنة خالتك هنا؟
شعرتُ بضيق تنفس. تشتتْ كل الرؤى، عندما تذَكَّرتُ أن ابنة خالتي تعيش في بيت من البيوت المحيطة بالجامع. لكن الأبواب متعددة ومفتوحة، تؤدي كلها إلى ما في القلوب، وابنة خالتي، غادرت حارتنا، واختارت أن تكون إلى جوار مقام الحبيبة.
نَظَرَتْ فجأة إلى باب أحد الأفران وقالت بسعادة: “رائحة الخبز فتحت شهيتي”. صاح رجل تبدو عليه مظاهر الاحترام، من على المقهى الصغير المقابل: “تفضلوا”. فردت عليه بابتسامة: “شكرا”.
عبرنا حدود الدرب الأحمر، ودخلنا الباطنية. اشترينا جبنا من أحد محلات البقالة الصغيرة. فَضَضنا الورق عنه ووضعناه في الخبز الذي كان لا يزال ساخنا. ضحكت البائعة، وقالت لابنتها: “قومي اعملي لهم شاي، يا بت”. ضحكنا جميعا. وكان هناك عدد من الشباب الذين ينظرون إلينا، أو بالأحرى إليها، بعيون جائعة. قالت: “يبدو أننا خرجنا من الحدود الآمنة إلى أرض الكلاب”. ضحكتُ وأشعلتُ لها سيجارتها، ثم سيجارتي. ويبدو أن صاحبة الدكان لمحت نظرات الشباب، فخرجت. وضعت يدا في وسطها والأخرى على الباب. وقبل أن تنطق بكلمة، كانت نظراتها قد وصلت إليهم، فاختفوا وكأنهم لم يكونوا.
عندما وصلنا إلى ساحة سيدنا الحسين، ظهر علامات الضيق على وجهينا. نظر كل منا مرة أخرى إلى ساحته، وخيَّمت غيمة ثقيلة على القلب، فلا الساحة ساحته، ولا الباب بابه. فهو قد صار من إحدى جهاته ثكنة عسكرية، ومن جهة أخرى مزبلة، ومن ناحية الساحة صار ملتقى لكائنات غريبة لا هي تسير في اتجاه القلب ولا تخطو نحو الروح ولا تطرق الباب، كائنات بعيون زجاجية خاوية تبحث عن الموجود وتلوك الحاضر. شعرنا بغربة، فتلاقت كَفَّانا وتشابكت أصابعنا، ومددنا الخطى. نظرت إلىَّ متسائلة. فأومأت ناحية شارع الأزهر. قالت في احتجاج ودلال: وأنا أريد العودة من شارع الموسكي. ضغطتُ على كفها، فقالت في وجل: “أنت تعرف أن الباب واحد مهما تعددت الطرق”.
انعطفنا يمينا في شارع الموسكي. وكلما كنا نقترب من حارتنا، كانت يتزايد همسها الذي يتأرجح بين الخوف والوجل والفضول: “متى ستحكي لي عنها، ومتى ستخبرني عن جولاتك السرية هناك؟!”.
قلتُ لها..
لم أكن أحب دخول حارة اليهود من ناحية باب الشعرية. أعشق مدخلها من شارع الموسكي، حيث تؤنسني أصوات القطط والكلاب التي تعبث بالأغطية البلاستيكية التي تغطي عربات البضاعة في آخر الليل. لم أكن ألتفت إلى السكارى والحشاشين الذين يتبولون كيفما اتفق. كل ما في الأمر هو أنني كنت أسرع الخطى حتى أعثر على مدخل بيت خالتي.
ولما كبرتُ قليلا، أصبحتُ أُفَضِّلُ دخول الحارة من ناحية باب الشعرية عندما يكون مزاجي رائقا، ولدىَّ رغبة في معاكسة بنات حارتنا ومناغشتهن، واللهو مع الأطفال الذين يلعبون كرة القدم في تلك الحارة الواسعة نسبيا، قبل الانعطاف إلى الزاوية الصغيرة التي يقف عندها بيت خالتي في مقابل المقهى القديم الذي كان يملكه زوجها قبل موته في عركة لم يكن له فيها لا ناقة ولا جمل.
ماتت خالتي بالصدفة بعد أن عانت مرضا غريبا أقعدها سنوات طويلة خلف النافذة التي كانت تطل منها دوما على مقعد زوجها الفارغ. هاجرت ابنة خالتي وزوجها وولداها من الحارة إلى حارة مشابهة بجوار مسجد فاطمة النبوية في الدرب الأحمر. لم يعد لدىَّ لا خالة ولا أخت ولا مقهى ولا شقة. لم يعد لدىَّ أيضا بيت العائلة الكبير الذي كان يتوسط أوسع أزقة الحارة. اختفت ملامح الأجداد والآباء، بينما ظلت حكايات الجدات والأمهات تحيي ملامحنا وملامح الحارة، وتبث أشواق الراحلين وتبعث أرواحهم كل يوم في أحلامي.
(٤)
أعرف أنني سأهرب اليوم كالعادة بعد أن أوَصِّلُها إلى البيت. سأشرب إلى أن ينفلت الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
إن شبهة الجلوس في مكان آمن مثل بار ستلا أو الكاب دور تجعل الإنسان عرضة لمخالطة الأنبياء والرسل الذين يجلسون بشكل متناثر في تلك الأماكن لإخفاء هوياتهم الأصلية. هؤلاء الأنبياء والرسل، يمكنهم مغادرة المكان في أوقات الصلاة، حيث المساجد والجوامع لا تبعد كثيرا عن البارات. وهناك اعتقاد سائد لدى حثالة المصريين أمثالنا بأن جهات عليا بالتعاون مع السلفين والمصريين السعوديين قد استطاعوا أن يحصلوا طوال نصف قرن على موارد مالية جبارة لبناء مساجد إلى جوار الكنائس والبارات أو في مواجهتها تماما.
قد يجد الإنسان نفسه جالسا بالصدفة المحضة إلى جوار نافذة تطل على جدار أو على منور، وربما تكون مرسومة أصلا على الحائط وعليها بعض القضبان الحديدية كإجراء احترازي للتأكد من رفع درجة الأمان في تلك الأماكن المحفوفة دائما بالكفر والخطر، وبالمثقفين الذين يبدأون أولى خطواتهم على طريق التثقيف الذاتي واختبار مرارة الحكومة وكبار المثقفين والمخبرين والمرشدين المتناثرين في تلك الأماكن. وكذلك اللواءات المتقاعدين الذين غالبا ما تجدهم يفهمون في كل الفنون ويحفظون النوتة الموسيقية وأسماء الفنانين التشكيليين والشعراء والقصاصين الذين يعيشون في تلك الأماكن أو يرتادونها فرادى في آخر الشهر، وجماعات في أول الشهر وفي منتصفه.
إن أسوأ ما في بارات وسط القاهرة هو مراحيضها التي صُممت وبنيت خصيصا للرجال. فستلا والكاب دور والهاليجان بارات ذكورية ابنة ستين كلبا. بينما بعض البارات الأخرى التي ترتادها الشريحة الأوفر حظا في طبقة الحثالة والمثقفين المخبولين، تعتبر مراحيضها أحسن حالا من مراحيض بارات الأنبياء والرسل وأولياء الله الصالحين والقديسين والشهداء. ومع ذلك فهذه المراحيض تتحول بقدرة قادر بعد الثانية عشرة ليلا إلى ما يشبه المراحيض العامة، إما لأن الشريحة الأوفر حظا في طبقة الحثالة والمثقفين المخبولين يسكرون ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي وبدون تكلف فيظهرون على حقيقتهم، أو أننا نحن الشريحة الأكثر انحطاطا ورثاثة نغادر باراتنا العفنة التي تلتزم بمواعيد الحكومة والأزهر والكنيسة والجبهة السلفية وأمناء الشرطة والمخبرين وتغلق أبوابها في الساعات المقررة، ونتوجه كالمنومين مغناطيسيا إلى بارات الشريحة الأوفر حظا، تجذبنا بعض السنتيمترات التي تظهر من أذرع النساء أو أقدامهن، أو روائح البرافانات التي تتضوع بها أجسادهن.
هذان احتمالان اثنان فقط لتدهور حال مراحيض بارات وسط القاهرة التي تنقسم إلى مراحيض للرجال فقط، أو مراحيض – منفصلة بطبيعة الحال – للرجال والنساء.
باراتنا الحقيرة لا تسمح بدخول النساء. أو بالأحرى، الكاب دور لا يسمح بدخول النساء المصريات، بينما على السيدات الأجنبيات أن يبرزن جوازات سفرهن الأجنبية للسماح لهن بالجلوس والتمتع بالخدمة الاستثنائية وتناول تلك المشروبات الخرائية التي تقدمها باراتنا الرخيصة. ستلا والهاليجان لا يتوقفان كثيرا أمام دخول السيدات، لأن مراحيضهما مصممة ومبنية خصيصا للرجال. ومن الصعب أن تقنع سيدة محترمة أن تقف لتطرطر مثل الذكور في مرحاض قذر والكل تقريبا يراقبها، سواء كانت جالسة، أو واقفة تطرطر. هذا لا يعني إطلاقا أن مراحيض الكاب دور نظيفة وإنسانية. فلدينا فيه مبولة واحدة للرجال، وحمام حقير مفروش بنشارة الخشب مثل بقية أرضية البار، ورائحته، لولا ستر الله، تكاد تصل إلى تل أبيب، وربما إلى جمهورية جنوب السودان الشقيقة.
الكاب دور يعمل وفق قوانينه لا قوانين الحكومة أو قوانين الدولة. تارة يفتح مرحاضا للسيدات، وتارة يغلقه. تارة يسمح بدخول السيدات المصريات، وتارة يمنعهن. يجري إصلاحات وترميمات تمنح المكان أبعادا جديدة. ولكن بعد عام أو اثنين يعود المكان إلى ما كان عليه قبل عشرين وأربعين وتسعين عاما، وكأن جزءا من مهنة المصريين هي إعادة أي شيء جديد إلى صورته القديمة والأقدم، ربما الأقبح…
العاملون في الكاب دور لا يتغيرون إلا نادرا، إما بالموت أو بالثراء. ويأتي آخرون يشبهونهم. لا يسمحون بدخول النساء المصريات، بينما النساء الأجنبيات لا يجلسن أصلا في هذه الأماكن العطنة مثل الجالسين فيها من أمثالنا وأمثال بقية شرائح الحثالة المنكوبة. يقولون إن السيدات المصريات يفتعلن المشاكل، وربما يثرن المشاكل بين الرجال المخمورين. وكأن النساء الأجنبيات ملائكة بأجنحة وريش أبيض، أو أنهم يدخلن الكاب دور من أجل صلاة التراويح.
إنها فلسفة المراحيض. فبدلا من أن تمنع النساء من ارتياد البارات الرخيصة، عليك فقط أن تصمم مراحيضها وتبنيها للرجال فقط. وحتى إذا كان هناك حَمَّام، فيجب أن يكون أقذر قليلا أو كثيرا من المشروبات التي يقدمونا، وأكثر وضاعة من معاملتهم وسحناتهم وملامحهم التي تشبه نشارة الخشب، ومية النابت والترمس.
على عكس كل كائنات المولى عز وجل، نحن أبناء الشرائح الحثالة نحب مازة البارات العفنة، ونحب صوت أم كلثوم الذي ينطلق من آلات خشبية عتيقة يضعونها بالقرب من المراوح الضخمة المعلقة في الأسقف العالية التي يزينها العنكبوت. نعشق التباهي بما نشربه، والتظاهر بالسكر، وتصفية الحسابات أثناء ذلك، ثم البكاء والتوجه إلى الحمام للتبول والترجيع في آن معا، ثم العودة مجددا للبدء من الصفر قبل أن ينذرونا بأن مواعيد الإغلاق قد حانت، وعلينا أن ندفع الحساب ونغادر إلى الجحيم بعد أن ندفع لهم بعض الإتاوات في شكل بقشيش، وإلا فسوف يطلِّعون دين آبائنا في المرة المقبلة، وقد يطرطرون لنا في ماء النابت.
سأتوجه إلى حارتنا المهدمة. لن أتمكن كالعادة من العثور ولو حتى على جدار من جدران بيوتنا. سأتبول على الأطلال والأشباح كما كان يفعل الكبار في الزمن الماضي. وسأكتشف أنني صرتُ عجوزا لا تقدر قدماي على حمل جسدي النحيف ورأسي المشوَّش وصدري الخالي من الأحلام. سأدق على الأبواب، وسأحفظ أشكالها ومعالمها ورسوم الأطفال عليها قبل أن يبيعوها. لن أتجه اليوم إلى مقابر الدراسة. سأنعطف إلى شارع الغورية، وسأقطع الطريق مجددا إليها عبر بوابة المتولي هذه المرة. سأجلس على بابها مرة أخرى، وسأغفو لعلني أعثر عل باب ابنة خالتي وأولادها، وربما تأتي هي بنفسها بين الرؤية والحلم لتمسح على رأسي، مثلما كانت تفعل أم النور في الصغر، وتأخذ بيدي لنعثر معا على الذين راحوا وغادرونا، أو نعيد الذين ابتعدوا عن الأبواب، ونفتح أبوابا جديدة للمريدين والمنتظرين على حواف الأحلام والرؤى.
……………..
*(من مجموعة “أبواب مادلين”)