حسن عبد الموجود
لتحميل ملف إبراهيم أصلان كاملاً بصيغة pdf اضغط هنا
أول إشارة لعمله في هيئة «الاتصالات السلكية» كان 1966 في مجلة «المجلة»
حاول علاء الديب استقطابه إلى «صباح الخير» إلا أنه تمسك بوظيفته في «التلغراف»
الموظفون الصغار ضللونا وأخبرونا أن مكتبه فى الطابق الخامس ومصطفى سليمان أنزلنا طابقاً
بطل «وردية ليل» كان يتطلع مثل أصلان عبر الشباك إلى برج الكنيسة ومبنى «الأهرام»
الوصول إلى سعيد عامر كان مثل محاولة تخطي جبل وأول كلمة قالها: «زوجته أخدته مني»!
كان يحفظ عناوين الشوارع والعمارات في القاهرة والمحافظات والدول العربية
سعيد عامر: عرضت عليه مسرحية لي فطلب مني قراءة شكسبير بعدها مزقت أوراقي
مصطفى سليمان: اقتصرت مهمته على فرز البرقيات ولم يكن يسمح بخطأ واحد
شعبان يوسف: سعد صمويل قادني إليه في مقهى فينيكس
مئتا متر فقط هي المسافة بين دار «أخبار اليوم» حيث أكتب هذه السطور، ومبنى «هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية» حيث عمل إبراهيم أصلان. ما عليك إلا أن تجتاز شارع الصحافة، ثم تعبر شارع الجلاء، ومنه عبر أي زقاق جانبي إلى شارع رمسيس لتجد أمامك المباني الثلاثة التابعة للهيئة: المبنى الجديد، ومبنى الديوان، ومبنى الأوتو الأبعد عن الشارع. غير أن هذه الأمتار المئتين رحلة بالغة الصعوبة لمن يريد «هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية» وصولاً إلى المكان الذي عمل فيه إبراهيم أصلان، لا كاتباً للقصة والرواية، أو رئيس تحرير هذه الإصدارات الأدبية أو تلك، أو محرراً صحفياً، بل «موظف». مئتا متر فقط هي المسافة إلى ذلك العالم الذي ترك أثراً لا تخطئه عين في كل حرف كتبه أصلان، ولم يلق برغم ذلك ما هو جدير به من اهتمام.
الأوتو .. المبنى الأهم في مسيرة الكاتب الكبير، لا يزال طيفه حاضراً في المكان
كان إبراهيم أصلان يدخل الهيئة مجتازاً بابها المواجه لشارع سيد درويش، قاطعاً الأمتار القليلة إلى المبنى، صاعداً عدة سلمات داخلية، ومنها إلى الأسانسير، وصولاً إلى الطابق الرابع، في مبنى «الأوتو» الذي ظل يجتاز ممراته، ويتحرك وسط غرفه لسنوات عديدة.
عمل أصلان موزع برقيات لفترة وجيزة، ثم انتقل إلى هذا المبنى ليلتحق بقسم «الإداريات»، أو «التلغراف الدولي» في الستينيات. وفي تلك الفترة نشرت مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي، في عددها 116، الصادر في أغسطس 1966، تعريفاً به جاء فيه أنه يعمل بإدارة «المواصلات اللاسلكية» التي كان بعض موظفيها ـ ومنهم إبراهيم أصلان ـ يطلقون عليها اختصاراً اسم «إدارة المواصلات».
تعريف المجلة بأصلان بسيط، لا يعدو بضعة أسطر: «من مواليد طنطا في 3 مارس 1937. يكتب القصة القصيرة والمسرحية منذ ما يقرب من أربع سنوات. نشر عدداً من القصص القصيرة والمقالات في بعض المجلات المصرية والعربية. أعزب»، مع صورة له تظهر وسامته الشديدة وشاربه الذي كان بالكاد يشق طريقه إلى الحياة، وكأنه مرسوم بالقلم الرصاص، الشارب الذي سوف يتعملق لاحقاً حتى يصير أوضح قسماته والعنوان البارز للكاريزما الكبيرة التي أحاطته، طوال الوقت، بهالة مبهرة. نشرت «المجلة» قصة أصلان الشهيرة «بحيرة المساء» على خمس صفحات مع تعقيب للدكتور شكري محمد عياد في صفحة، أثنى فيه على الأسلوب والجو العام لها، خاتماً: «هذه قصة جيدة. وهي أول قصة أقرؤها للكاتب الشاب إبراهيم أصلان. فليحرص على تنمية موهبته. وليكن دائماً أصيلاً وصادقاً. لقد أعجبني من هذه القصة أن الكاتب لا يحاول أن يصطنع الحداثة كما يفعل كثير من كتاب القصة الشبان. إنه لا يزال يكتب في حدود التقاليد التأثرية التي نعرفها في تشيكوف وكاترين منسفلد ومعظم كتاب القصة القصيرة في النصف الأول من هذا القرن».
موهبة لامعة كالذهب في جو مشمس
توازى صعود نجم أصلان مع عمله في الهيئة. ولمعت موهبته لمعان الذهب، حتى أن مجلة «جاليري» خصصت ملفاً كاملاً له وعنه في عدد فبراير 1971، ومن يعرف المجلة فهو يعرف بلا شك أن ذلك الملف يعد أمراً استثنائياً وحدثاً فارقاً، فالمجلة منبر لجميع الاتجاهات الطليعية في الفن والكتابة، والمشاركون المعتادون فيها أو المشرفون عليها هم من أمثال إبراهيم فتحي وغالب هلسا وإدوار الخراط وإبراهيم منصور. خصصت «جاليري 68» ـ المستقلة عن جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها والتي بدأت بذرتها من مقهى ريش ـ ملفاً كاملاً عن إبراهيم أصلان بدون أن يكون له سند يدعمه، فلا شهرة، ولا جائزة، ولا انتماء إلى مؤسسة ثقافية، أو صحفية، ولا يعني هذا أن المجلة كانت تحابي أصحاب الجوائز، أو موظفي الثقافة، أو الصحفيين، بل يعني أن كتابة أصلان وحدها كانت كافية لأن تضعه المجلة في صدارة المشهد الثقافي المصري الطليعي في ذلك الوقت.
كان إبراهيم أصلان يرسل قصصه إلى المجلات بالبريد، ويحرص أن يرفق طابع بريد إضافياً داخل الظرف، ويطلب من هيئة تحرير أي مجلة يراسلها أن ترد عليه في خطاب، فكانوا يلصقون ذلك الطابع في ظرف جديد وعليه عنوانه وبداخله الرد الذي ينتظره، لهذا وُلد عملاقاً، بمعنى أنك لن تجد، في الأغلب، أي رد عليه في مجلة من المجلات، بعكس كثيرين من مجايليه الذين تمتلئ صفحات البريد بالردود عليهم، وبرسائلهم الممهورة بأسمائهم الثلاثية، خيري أحمد شلبي، ومحمد يوسف القعيد، وإبراهيم عبدالقوي عبدالمجيد، ومحمد عفيفي عامر مطر، والسعيد سلامة الكفراوي، كان يقول لشعبان يوسف: «لو هتمشي على حواجبك مش هتلاقي أي رد عليّ في مجلة من المجلات».
في ذلك العدد من «جاليري 68» اعتبرته هيئة التحرير ممثل الجيل الجديد، ونشرت له خمس قصص هي «الجرح»، «الرغبة في البكاء»، «التحرر من العطش»، «البحث عن عنوان»، «الملهى القديم»، بالإضافة إلى ثلاث دراسات، الأولى «إبراهيم أصلان.. وقناع الرفض» لإدوار الخراط، حيث كتب فيها أنه «من طراز الرافضة، إنه كاتب يرفض. إنه ليس كاتباً معتزلاً»، و«هذا كاتب يتشبث، بعناد، بتفاصيل العالم المرئية فقط، ويبني قصصه على غرار هذا العالم، الذي يراه جامداً»، ثم دراسة «غالب هلسا» «قصص إبراهيم أصلان»، وكتب فيها أنه «يقدم لنا عالماً يتأرجح بين العقل والجنون»، ثم خليل كلفت «إبراهيم أصلان في مرحلته الجديدة»، وكتب فيها عن شخصياته أنها توفر «رغم الإطار السميك الخانق تطلعات حقيقية إلى آفاق جديدة».
في فترة عمله بالهيئة، في الستينيات، حاول علاء الديب استقطابه للعمل في «صباح الخير» صحفياً، بدلاً من وظيفته بالتلغراف، واستكتبه ونشر له مقالاً عن «السائرون نياماً» في 9 نوفمبر 67، لكن أصلان فضَّل الاستمرار في التلغراف.
تقصي أثر إبراهيم أصلان
كان لا بد من بعض الاتصالات والمكاتبات لتدبير دخولي إلى «هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية». كتبت في رسالة لمسؤول أنني «أريد إجراء تحقيق عن الكاتب المصري العظيم إبراهيم أصلان، الذي كان جزءاً من الدولاب الوظيفي هنا، وكذلك تصوير مكتبه، أو ما تبقى منه»، ورغم الحصول على الموافقة، بقيت بعض الصعوبات أمام التصوير، فبينما يرفع زميلي الكاميرا ليلتقط صورة لأحد المباني يتطوع شخص عادي، موظف أو ساع، ليسأله بحدة عما يفعل، ناهيكم عن احتجاز الكاميرا نفسها ـ لدقائق طويلة مضطربة ـ لمجرد تصوير باب جانبي من الخارج!
كان رفيقي في جانب من هذه الرحلة الكاتب شعبان يوسف الذي عمل بالهيئة، وتحديداً في المبنى الجديد، قبل خروج أصلان منها بعام، وكان متحمساً للغاية للمهمة، وأسهم وجوده كثيراً في اختصار الجهد والوقت. رافقنا كذلك مسؤول رفيع من القرية الذكية هو الأستاذ أحمد عبد اللاه، الذي أسهمت بطاقة هويته المشهرة طوال الوقت تقريباً في فتح أبواب كثيرة وتذليل عقبات ما كانت لتذلل بدونه.
اجتزنا الممر المتسع الذي تقف على جانبه ثلاث سيارات إسعاف، إلى السلالم القليلة المفضية إلى الطابق الأول حيث تبدأ رحلة الأسانسير صعوداً وهبوطاً، بمجرد أن انفتح الباب وخرج منه شخص متوسط الطول، أمسكه شعبان يوسف من يده صائحاً: «تعال هنا»، فظهرت على الرجل علامات ارتباك المجرم المتلبس بجريمة لا يعرفها، لكنه تمعن في ملامح شعبان، ولما عرف من ورائها ملامح زميل قديم، أشرق وجهه بابتسامة كبيرة، وتهلل، واحتضنه. اسمه إبراهيم أحمد، وبدأ رحلته الوظيفية بعد التحاق شعبان يوسف بالهيئة بسنوات، وجمعتهما لقاءات كثيرة، كان مدخلنا الأول إلى المكان، سألناه عن مكتب الأستاذ إبراهيم أصلان فقال: «اسألوا في الرابع»، صعدنا وأوقفنا عدداً كبيراً من الموظفين والموظفات، كانوا يتحركون هنا وهناك بحماس من يعملون في وردية الصباح، وقد بدوا وكأنهم خارجون تواً من رواية أصلان «وردية ليل»، هؤلاء هم الموظفون الذين يسبقهم حماسهم البالغ في الصباح بينما يحتلون أماكن موظفي وردية الليل الذين يغادرون مسكونين بالنعاس والأرق والأشباح. توقفت للحظة متطلعاً إلى ممر في الطابق الرابع يبدو بلونه الرمادي الغامق وأبوابه المتتالية وإضاءته الهادئة صورة طبق الأصل من الممرات التي أرانا إياها أصلان في روايته. لم تنل الأبواب الخشبية من المشهد القديم بالكامل، فهناك أبواب معدنية مستقرة في أماكنها منذ عشرات السنين. رحل من كانوا يطرقونها ويجتازونها ويجلسون خلفها منهمكين في العمل والنميمة، بينما بقيت هي. أبواب أخرى اقتُلعت من أماكنها بعنف، وقوالب طوب انتُزعت، وبان لحم قوالب أخرى حمراء، تقشُّر عنها الطلاء الرخيص، فبدت الأبواب كأنها فتحات لعمارات ستالينجراد بعد انتهاء القصف الألماني. كان الموظفون مرحين راغبين في التعاون فعلاً، لكن الأمر كان ينتهي بهزة خفيفة من الرأس، لا أحد يعرف أين كان مكان إبراهيم أصلان، لو كان يعيش اليوم لبلغ 84 عاماً، وهناك صعوبة شديدة في أن يعرف هؤلاء الشباب وحتى الكهول شيئاً عنه، ثم بدأ ما يشبه الهمس يتعالى، قال موظف: «أنا أعرف الأستاذ إبراهيم رسلان»، وردد آخر وراءه: «أيوه الأستاذ رسلان»، ثم ثالث، ووافقتهم امرأة، وسرى الهمس من الغرفة، التي كنا نقف فيها، عبر الشبابيك والأبواب إلى الخارج، فصار صوتاً مسموعاً، جاء على إثره آخرون فسدوا باب الغرفة ومنعوا ضوء الشبابيك خلفنا من المرور إلى الطرقة الطويلة، وصاح أحدهم بحماس: «بتسألوا عن مكتب الأستاذ رسلان، أنا أعرفه»، وفي هذه اللحظة انفجرتُ فيهم، محاولاً أن تبدو صيحتي الغاضبة مهذبة بقدر الإمكان: «اسمه الأستاذ إبراهيم أصلان»، ثم تحرك ناحيتنا شخص يرتدي بدلة خلفت فيها المكواة لمعة رديئة وقال: «ممكن أشوف صورته»، فكتبتُ اسم أصلان في جوجل، ورفعت شاشة الموبايل التي تحتلها صورته، فقال الرجل بثقة تامة: «أنا أعرفه طبعاً، وأعرف مكتبه، ده كان أستاذ كبير، مكتبه ليس هنا، وإنما في الطابق الخامس»، وهكذا سرنا وراءه فوجاً، وشعبان يوسف المتشكك كان يردد: «الخامس؟! الخامس؟! الخامس؟!». أشار إلى غرفة مغلقة بجوار الأسانسير، وقال: «هذه غرفة الأستاذ إبراهيم»، لم تكن هذه السهولة مقنعة بالنسبة لي، ومع هذا شعرت بالسعادة، لكن ذلك الإحساس سرعان ما تلاشى حين علمنا أن الغرفة مغلقة، ولا بد من موافقة مدير الشؤون الإدارية مصطفى سليمان ليفتحوها لنا.
بدأنا جولتنا في المبنى عبر الأسانسير الذي كان يستخدمه
بضع سلمات تفضي إلى الطابق الرابع
في فصل «فستان التيل» من «وردية ليل» يدور ذلك الحديث الشيق ببين رجل وامرأة، مشدودين إلى بعضهما البعض، لكن الرجل يبدو مثل كاتبه، ذلك الشخص المحايد، الذي لا يبذل مجهوداً كبيراً لجر أنثى إلى مخبئه، كما سيخبرنا سعيد عامر، زميل أصلان التاريخي في الهيئة، وصديقه، وتلميذه بحسب ما أصر على وصف نفسه طوال حديثنا.
تحث المرأة الرجل ـ في «وردية ليل» ـ على دخول السينما، ربما ليفعلا ما يروق لهما في عتمة تقطعها ظلال أطياف الممثلين، بينما كان يتحجج بالزحام ليدفعها إلى التفكير فيما يفكر فيه، لكنها تقطع عليه الطريق: «أنا مابروحش بيوت»، أو «مش باحب أروح بيوت». اثنان يدوران في الليل والعدم، لكن ما يعنيني من ذلك الحوار أنه يكشف عن عمل الراوي في هيئة الاتصالات السلكية واللاسلكية. لعله أخبرها بطبيعة عمله لتفهم أنه مشغول وأن وردية ليل تنتظره، وأن عليهما من ثم أن ينجزا الأمر بسرعة، ويُستحسن أن يكون ذلك في البيت. تعنيني أكثر من ذلك إشارة إلى الطابق الذي يعمل به البطل، وهو الرابع، ليس الخامس على الإطلاق:
«أصل أنا عندي شغل»
نظرت إليه دون أن ترفع وجهها المائل، وبانت أهدابها الطويلة، والثقب الدقيق في حلمة أذنها الخالية.
«آه والله. عندي وردية ليل».
«انت بتشتغل إيه؟»
«أنا بشتغل موظف»
«موظف؟»
«آه»
«فين؟»
«في هيئة المواصلات»
«اللي فين دي؟»
«اللي عند معهد الموسيقى»
«العمارة العالية؟»
«آه. باشتغل في الدور الرابع».
منحنا أحدهم رقم مصطفى سليمان، كان صوته مجلجلاً ومرحباً، والمفاجأة الجميلة أنه يعرف الأستاذ إبراهيم أصلان جيداً: «كان رجلاً فاضلاً، وشاهدته، وأستطيع أن أحكي لك بعض الأمور عنه». حدد لنا موعداً بعد ثلاثة أيام، وذهبنا إليه، ولكن موظفة الاستعلامات التي حفظت وجوهنا جيداً من المرة السابقة أوقفتنا، بسبب الكاميرا، وحاولنا معها عبثاً، كانت توبخنا تقريباً رغم أنها تحاول أن تقلل من حدود سلطتها: «ترضيان لي الأذى؟! لن أسمح بهذه الكاميرا إلا بإذن من مسؤول كبير»، وأعطيتها مصطفى سليمان على الموبايل، ويبدو أنه خضع لتخويفاتها لأنها أعادت إليَّ التليفون بشماتة. وجدته يقول لي: «تصرف»، وتصرفت. رجعت إلى أحمد عبداللاه، مسؤول القرية الذكية الذي لازمنا في المرة الأولى كظلنا، واستغرق الأمر ساعة حتى جاء إلينا شخص من الداخل طالباً من الموظفة أن تسمح لنا بالمرور، وكنت أنظر إلى شعبان يوسف فأراه يسدد إليها نظرة قاسية جرحت رأسها بعنف.
شعرت أنني وصلت إلى الهيئة في اللحظة المناسبة، فلو تأخرت قليلاً لضاع الرمق الأخير من فرصة الإطلال على هذا الجانب من عالم أصلان. ذلك لأن مصطفى سليمان أخبرنا أنه في غضون شهر واحد من اللحظة التي جلسنا فيها أمامه، سوف يُحال إلى «التقاعد المبكر». اعتبرت أن الحظ يحالفني، وحكيت له عن مكتب الدور الخامس، وقلت إنني مندهش لأن إبراهيم أصلان ذكر في «وردية ليل» أكثر من مرة أن البطل يعمل في الدور الرابع، فهل يُحتمل مثلاً أن يكون قد نُقل في فترة من الفترات إلى الطابق الخامس؟! فرد باندهاش شديد: «ومن قال إنه عمل بالطابق الخامس أصلاً، إبراهيم أصلان لم يغادر الرابع حتى خروجه من الهيئة، هذا أمر عجيب، دعك من هذا الكلام، وسنذهب حالاً إلى مكتبه».
في الطابق الرابع بدأنا الرحلة بالبحث عن مكتب أصلان
في فصل «نوافذ» من «وردية ليل» يرينا إبراهيم أصلان ما كان يراه من الشبابيك، في الطابق الرابع. مرة أخرى يتكرر ذكر ذلك الطابق. يطل محمود من شباك، على نوافذ قليلة مضاءة وراء ستائر خفيفة مسدلة في الأدوار العليا من المبنى المقابل، هناك كذلك النافذة المطلة على معهد الموسيقى العربية، كان محمود يمشط شعره أمام زجاجها، منتظراً مع الحريري صعود أول العاملين في وردية الصباح. وفي قصة «كوب شاي» يعود كذلك ليقول: «لاحظت أن النافذة من هنا كانت تطل على مجمع المحاكم الكبير، وبرج الكنيسة البيضاء، والسطح المكشوف لمعهد الكفيفات»، وكذلك كان لا بد من ذكر لمبنى الأهرام الذي يحتل مساحة كبيرة من المشهد الذي تطل عليه نافذة المكتب المواجه لإبراهيم أصلان، والذي يقول مصطفى سليمان إنه كان مفتوحاً على الدوام، فهو بالتالي متاح أمام نظر الكاتب الكبير لا يعوقه شيء عن التطلع عبره:
«خطوت على الشريط الورقي المكوم أمام دائرتي، ووضعت الكوب على قاعدة النافذة الطويلة المفتوحة، وجلست أدخن وأشرب ما تبقى في كوب الشاي، وأرى كيف أنها، من هنا، كانت تكشف قدراً آخر من سماء الليل، وتلك المساحة الكبيرة الممتلئة بعربات الأمن المركزي، والجانب الآخر من جريدة الأهرام».
الموظفون خدعونا وقالوا إن هذا مكتبه في الطابق الخامس ومصطفى سليمان أعادنا إلى الرابع
تبعنا مصطفى سليمان، نازلين السلالم من الطابق الخامس إلى الرابع، وشعبان يوسف يحاول إنعاش ذاكرة زميله بكثير من الأسماء، «الحاجة نجاح تعرف أصلان، أنا كلمتها»، ويرد مصطفى سليمان: «لا أظن، لم تتعامل معه كثيراً وستكون معرفتها به سطحية»، ويقول شعبان: «محمد أحمد»، ويرد مصطفى: «ممكن يعرف رقم سعيد عامر»، وينظر إليَّ ويكمل: «هذا أهم شخص بالنسبة لأصلان، كان يعمل معه في نفس الإدارة، وهو صديقه الملازم وحبيبه، سأتصل به، لو وصلنا إلى سعيد عامر ستحصل على كنز معلومات وحكايات، أعدك بذلك».
جميع أرقام سعيد عامر مغلقة. لا أحد يرد على تليفون بيته، نسمع جرساً طويلاً من بعيد، جرساً لا يبدو أنه قد ينتهي أبداً.
أوقف مصطفى شخصاً على السلم: «هات لي نمرة محمد أحمد»، وأوقف شخصاً آخر: «أريد نمرة محمد عبدالعزيز»، اتصل بأحدهما أو بالاثنين، وقال لهما إنه لا يستطيع الوصول إلى سعيد عامر، ويريد أي رقم جديد له. لم يكن يكلّ من الاتصال، مكالمة وراء أخرى، نسمع صوت الرسالة الآلية فنفقد الأمل. أما الحوار معه هو، فلم يكن يبشِّر بالكثير، إذ التحق بالهيئة في نهايات عمل إبراهيم أصلان بها، ولم يحظ بفرصة مقابلته كثيراً.
وبدأت أعزي نفسي: سنلتقط على الأقل صوراً للمكتب، سنرى أين كان أصلان، ونرى طرفا مما رآه.
بدلاً من الباب المعدني باب خشبي. غرفة المكتب الواسعة انقسمت إلى غرفتين، في كل منهما مجموعة موظفين. الغرفة التي تعنينا منهما هي الغرفة اليمنى، ذات المكاتب الثلاثة. وراء كل مكتب موظفة محجبة. الموظفات الثلاث انتحين جانباً حتى لا يظهرن في الصور، وأشار مصطفى سليمان إلى المكتب المواجه للباب: «هذا مكتب أصلان»، واستدرك: «أقصد أن هذا هو المكان الذي كان يحتله مكتب أصلان، هذا مكتب وضعناه هنا منذ ثلاث سنوات، وقبله كان هناك مكتب خشبي أيضاً لا أظن أن أصلان استخدمه. كان مكتبه إيديال. وهذا التكييف لم يكن موجوداً خلفه، إنما كان في مكانه شباك ضخم يطل على الشارع»، يجلس مكانه ويقول: «لو جلست مكانه وتطلعت إلى الخارج عبر الباب ستجد باباً آخر مفتوحاً دائماً، وفي مواجهته نافذة ضخمة مفتوحة، نوافذنا كانت مفتوحة دائماً، كان يرى منها برج الكنيسة والأهرام»، وعقبت: «كأنك تتحدث عن مشهد من وردية ليل، كان البطل ينظر من هذه النافذة»، فقال: «بالتأكيد يقصدها»، واستدرك: «لكن النوافذ المجاورة كذلك تطل على نفس المشهد»، واستأذنته في تصوير المشاهد من خلالها.
أردت أن أنقل الصورة كما رآها ونقلها في «وردية ليل». أخذ زميلي المصور أحمد نبيل يعمل بدأب وصمت، ويأتي إليّ ليريني على شاشة الكاميرا ما يلتقطه. شعرت وأنا أطالع شاشته، أنه يترجم كلمات أصلان التي قرأتها مراراً إلى مشاهد ملونة رُدَّت إليها الروح.
قال مصطفى سليمان إن آخر اتصال له بسعيد عامر كان منذ سنوات، ومن المؤكد أن أرقامه تغيرت. فكرت ـ بينما يجرب الاتصال بأصدقاء وزملاء مشترَكين ليسألهم عن أرقام له ـ في سعيد هذا، لا يمكن أن يكون موظفاً وحسب، أقصد أن شخصاً عاش لصيقاً بأصلان لن يكون نمطياً بأي شكل من الأشكال. ومضى مصطفى سليمان يبذل جهداً مضنياً للوصول إليه.
انتبهت فجأة على صوت الرنين المتصل والواضح ووجه مصطفى المتهلل. قلت لنفسي إن الـ«سبيكر» سينقل لنا صوت سعيد عامر على ما يبدو، وفعلاً رن صوته في فضاء الغرفة، وبدا كأنه لطفل صغير يلهو بلعبة ما، صوت رفيع وحاد وساخر يشع بالبهجة والمرح، لمدة خمس دقائق اقتصر الحوار بينهما على الحياة والأبناء، والهيئة، والماضي، والحاضر، إلخ.. قبل أن يسأل سعيد فجأة بعد كل هذا: «مين معايا؟!»، ولم يتلق إجابة من مصطفى الذي صمت قليلاً قبل أن تجلجل ضحكته. «انت مصطفى سليمان!»، وبعد ضحك متصل بين الاثنين أخبره مصطفى أن صحفياً يريد إجراء مقابلة معه عن حبيبه إبراهيم أصلان، وقال سعيد: «طبعاً طبعاً، أهلاً وسهلاً، عندي له كلام مهم جداً، أنا علاقتي بأصلان استمرت رغم أي شخص، والوحيدة التي نافستني عليه كانت زوجته، أخدته مني»، ثم انفجرت ضحكته في الغرفة وكادت أن تفجر النوافذ، وضحكنا جميعاً.
حدد موعداً لمقابلته في الصباح التالي، وفي نفس المكتب، بدلاً من بلدته بالقليوبية. وعده مصطفى بـ«إفطار من بتوع زمان»، وطلبت منه أي صور تجمعه بالأستاذ إبراهيم، لكنه بصوته الرفيع قال إن الأستاذ إبراهيم كان يفر من الكاميرا كأن فيها عفريتاً يطارده. لكنه لم يغلق الباب في وجهي تماماً، أخبرني أنه سيحضر صوراً للمكتب وبها بعض زملاء العمل القدامى الذين كانوا قريبين من أصلان.
كما تخيلته تماماً، نحيف، ويرتدي نظارة «كعب كوباية»، حاد الصوت ومع هذا طفولي، ساخر، كأن أصلان هو من يتحدث. كان الحوار معه ممتعاً وإن تخللته وقفات كثيرة بعد أن سرى خبر مجيئه إلى الهيئة سريان الضوء في غرفة ليبدد عتمتها لحظة أن تُزاح عنها ستارة ثقيلة.
جاؤوا للسلام عليه، رجالاً ونساء، واللافت أن النساء اللاتي جئن إليه كن جميعاً سافرات. كثير من السلامات والأحضان والقبلات والتحيات. فيض من المحبة غمر الغرفة وبعث فيها أجواء عامرة بالدفء بقدر ما هي عامرة بالشجن، فكأن هؤلاء عادوا بعودة سعيد إلى سنوات متعتهم وبهجتهم في الماضي. جمل خاطفة كانت كافية لتوجز قصصاً نسجوها جميعاً في هذا المكان على مدار سنين.
ومضى الحوار مع سعيد، إلى أن فاجأني بمفاجأة غير سارة. قال إن إحدى القنوات المتخصصة، هي «قناة النيل للدراما»، قد صورت معه ومع آخرين فيلماً أثناء حياة أصلان، ربما منذ عشرين عاماً، أي قبل اليوتيوب، عن «وردية ليل». سألته: «هل كلامنا متشابه؟» فقال: «بذمتك يا أستاذ هل ما قلته لك عن الشيوعية والعلاقات النسائية والدنيا والآخرة والإلحاد يُقال في التلفزيون؟ هذا كلام لم أقله من قبل، كما أن المكان نفسه تغير، والتلفزيون شيء والصحافة شيء آخر»!
أقرب أصدقاء أصلان يتحدث
تبدأ الحكاية. يقول سعيد عامر:
تم تعييني هنا عام 1970، وقع نظري على الأستاذ إبراهيم أصلان، وكنت أستمع إلى مناقشاته مع زميل من سنّه اسمه عصمت عمران، كانا يتحدثان في الاقتصاد والفلسفة والأدب بتوسع وتبحر، وأنا كشاب صغير، حاجة وعشرين سنة، تمنيت أن أتحدث مثلهما، التصقت به، كنت أذهب إلى البوفيه لأطلب له شاياً، وأجلس إلى جواره. كانت لي بدايات في التأليف المسرحي، بدايات مهلهلة، وأعطيتها له فقرأها، ولم يحرجني، ضحك، وأخذني واحدة واحدة، وسألني: «هل قرأت لشكسبير؟ فقلت لا، تينيسي وليامز؟ لا، فقال: «طب ازاي؟ أنت لو أردت أن تكون نجاراً فلا بد أن تملك العدة، المنشار، والفارة، والشاكوش، وطالما أنك تريد أن تصبح أديباً فعليك أن تقرأ شكسبير فوراً، وبمجرد أن قرأت أول عمل لشكسبير مزقت أوراقي التي كنت أكتب فيها أشياء من قبل «الجزار قال للبقال، والجزمجي قال للسمكري»، (يضحك)، لقد أحالني إلى كاتب عظيم ففهمت الفارق فوراً، وأدركت المسافة الشاسعة التي تفصلني عن ذلك العالم.
اقتنينا سلسلة من سور الأزبكية هي «روائع المسرح العالمي»، كان العدد يُباع بقرشي صاغ، وأهم من لفتِ أصلان انتباهي إلى الأدباء العظماء أنه علمني كيف أقرأ أصلاً، كان يقتني كتباً جميلة جداً، وحكى لي أنه كان يقرأ طول الليل لدرجة أن أباه المتدين، كان متجهاً ليصلي الفجر، وحينما شاهده يقرأ فصل عنه الكهرباء.
أصلان كان ذا شخصية رقيقة جداً جداً، كان مثل الزجاج الرقيق الهش، أي شيء يمكن أن يخدشه، أو يجرحه، وهكذا آلى على نفسه ألا يستخدم كهرباء البيت واشترى لمبة نمرة 10، وظل يقرأ عليها حتى مات أبوه.
كنت أبحث عن قدوة، وأعجبني إبراهيم أصلان للغاية، وقلت إنني أريد أن أكون إبراهيم أصلان آخر، أخبرته بذلك فضحك بحنو بالغ، وقال لي: «لو أنك تريد أن تكتب عن طبيب فلا بد أن تكون عندك معرفة، ولو بسيطة، عن هذه المهنة، وبالمثل الاقتصاد، لو أنك تريد أن تكتب عن موظف في بنك فينبغي أن تكون ملماً ولو بجانب من عالمه، وليس التبحر شرطاً، وإنما مجرد أن تكون على علم بالقليل من كل شيء، سواء في علم النفس، أو الفلسفة. بدأت بجان بول سارتر، وزوجته سيمون دي بوفوار، بدأت أفهم ما الوجودية. كنت شخصاً وأصبحت شخصاً آخر بعد كم جلسة مع الكاتب العظيم، وجهني إلى هيجل وأرسطو وأفلاطون، وجهني إلى الميتافيزقا، وكان مدهشاً أن شاباً من السبتية وبولاق أبوالعلا لم يكن يقرأ الجريدة يتحول على يد إبراهيم أصلان إلى شاب يطلع على نتاج الحضارة الإنسانية العظيمة.
كان موظفاً في البريد ونقلوه إلى التلغراف، وبقي على اتصال بي حتى رحيله. انتدبوه في وزارة الثقافة لمدة عام. بعد خروجه كانت الاتصالات تنقطع أحياناً لمدة عام أو اثنين، وحينما كنا نتقابل يبدو وكأننا تركنا بعضنا بالأمس فقط، لا يقول أحدنا للآخر: أين كنت؟ ولماذا لا تسأل؟ وهذ الكلام الفارغ، لا، إطلاقاً، هذا أقل بكثير من أن يحدث مع صديق عظيم مثل إبراهيم أصلان، وليس معنى أنني لا أتصل به أنه لا يعيش داخلي والعكس صحيح، ولا يوجد صح أو خطأ في علاقة كهذه، كل منا لديه ظروفه لكن الود موجود.
وجهني كذلك إلى الأدب الروسي، ابتداء من تولستوي ودوستويفسكي وغيرهما، الأول لم أستطع أن أكمل له أكثر من «الحرب والسلام» التي صدرت ترجمتها في أربعة أجزاء ضخمة، إنها ملحمة، والثاني قرأت رائعته «الإخوة كارامازوف». هو كان يحب أنطون تشيخوف.
كان أصلان يخبرني أنه يكتب ليلاً، ويقرأ ما يكتبه صباح اليوم التالي، يراجع ويشطب، وهكذا الصفحة تصبح نصف صفحة، ثم ربع صفحة، كان متأثراً بمهنة التلغراف، بالكلمة مدفوعة الأجر، من الممكن أن يكلمك عن موضوع، وتنتظر تكملته فإذا به يقول لك فجأة: «خلاص كمِّل انت».
قلت له مرة: أنا أريد القراءة سريعاً، أريد أن أرفع معدل استيعابي كذلك، أعارني في البداية أكثر من كتاب ثم وجهني إلى دار الكتب، كان هناك فرع في «قاصد كريم» بالقرب من دوران شبرا، شارع الترعة، وكنت أستعير الكتاب تلو الكتاب، أفتكر إيه ولا إيه؟ نحن كنا أكثر من أحباب، وتوقعت أن يجيب سؤالي ببساطة، لكنه انتفض كمن لدغه عقرب وقال لي بانفعال: كأنك تريد مني تعويذة في كوب، وأسقيها لك، ماذا تريد؟ فكررت كلامي: أريد أن أرفع معدل استيعابي وأقرأ سريعاً، فقال لي: ابدأ فوراً، ستصل إلى هذا حينما تقرر، عليك أن تفعل ما تقوله وسيتحقق مباشرة. كان يتحدث بعنف شديد لم أعهده فيه، تحولت إلى قارئ، وتركت التأليف بمرور الوقت، قرأت توفيق الحكيم، كان معجباً للغاية بنجيب محفوظ ونصحني بقراءته.
وعلى الجانب الأيديولوجي لم يكن شيوعياً، وفي هذه الفترة تصورت أنني مثقف بصحيح، وقررت إقامة اعتصام، ودعوت كثيراً من الزملاء، كان هدفي المطالبة بتحسين أجورنا، ومعاملتنا بشكل جيد أسوة ببعض الأماكن الأخري، وصفق لي كثيرون، وهكذا زاد يقيني بأهميتي، مع أنني كنت أقل الموجودين، كان هناك النقابي أحمد طه، والعظيم إبراهيم أصلان.
أفضل أعماله كتبها وهو يعمل
يكمل سعيد عامر:
منحوا أصلان تفرغاً لمدة عام حتى ينجز رواية «مالك الحزين» التي تحولت إلى فيلم «الكيت كات»، ولكنه في هذا العام لم يكتب حرفاً واحداً، جاءني وقال لي إن البطالة تولِّد بطالة وإن «أفضل إنتاجي كتبته وأنا أعمل، وحينما توقفت هجرتني الكتابة»، كان يكتب الرواية في ذهنه وأنا كنت فأر التجارب، يصطحبني من هنا ونذهب مشياً إلى السلطان أبو العلا ونستقل أتوبيس 104 إلى الكيت كات، ويحكي لي عن الشيخ حسني، وكذا وكذا، رغم أنه لم يمسك قلماً بعد ولم يدون حرفاً بالتالي، كل يوم يحكي لي ما سيقوم به الأبطال، كيف سيتحركون، أو كيف سيحركهم، من سيحب من؟ ومن سيخون من؟ كيف ستتقاطع مصائرهم، وكيف يشعر هو نفسه تجاه هذا أو ذاك منهم، وأنصت إليه بانبهار، وربما أعلق باقتضاب، وكان يستقبل تعليقاتي كالعادة بود وحب وبساطة، وحينما تكتمل الأحداث في دماغه تأتي اللحظة التي يجلس فيها إلى المكتب ليدوِّن ما كان يحكيه لي، لقد اكتمل العالم في ذهنه، ويبدو أنه يحتاج إلى الظهور، كأنها لحظة ولادة بالضبط، كان يحكي لي الكثير من التفاصيل، وربما يسترسل، لكنه في الكتابة شيء آخر، فلا مكان لكلمة زائدة، وبدون مبالغة لا مجال لحرف زائد، أو حتى فاصلة أو نقطة، قد تفلت منه بعض الكلمات، ولكنه يتعقبها بالمحو في المراجعات العديدة التي كان يجريها على نصه، وكأنه يدفع أموالاً مقابل هذه الكلمات، لقد كان متأثراً بالتلغراف، والكلمة في التلغراف تُكتب مقابل مال، ولذلك يكون لزاماً عليك أن تقول ما تريد بأقل عدد من الكلمات وإلا فإن جيبك سينزف، كان أستاذ المعاني الشاملة المكتوبة بأقل عدد من الكلمات، كان هذا نهجه، أعماله كانت قصيرة ومبهرة ولكنها ذات معان كثيرة، كل شخص ربما سيفهمها بطريقته، لكن عليَّ الاعتراف بأنها لا تناسب القارئ الساذج، صعب جداً أن يقرأ شخص من هذا النوع لإبراهيم أصلان، دعك ممن يقولون إن كتابته تناسب البسطاء، هي عن البسطاء، لكنها تحتاج إلى قارئ لديه حد أدنى من الوعي.
قصته القصيرة كانت تُدرَّس ضمن الأدب العربي في جامعة براغ، كان يكره الإعلام، ويختار أبعد مكان عنه، انظر إلى صوره وفيديوهاته، وحواراته، ستجدها نادرة للغاية، وهناك حتى صعوبة في الوصول إليها، وحينما حصل على جائزة الدولة التقديرية رضخ تحت الإلحاح البالغ والمطاردات المستمرة إلى إجراء بعض المقابلات، كانت لازمته الشهيرة، حينما يريد أن ينهي موضوعاً استرسل فيه، أن يشيح بيده قائلاً: «وكده»، وحينما ينطق هذه الكلمة عليك فوراً أن تعرف أن الموضوع انتهى.
اسألني عن النساء.. كان قطاً سيامياً
«… لكن للأسف، مفيش بنات في وردية الليل».
«السلالم» ـ «وردية ليل»
يواصل سعيد عامر:
كان في علاقاته النسائية أو العاطفية مؤدباً للغاية لدرجة الشلل، وكانت هذه المعادلة تعجبه للغاية، وعلى مزاجه جداً، تهجم عليه الواحدة منهن، تحاصره، وهو مثل القط السيامي، ينصاع ببراءة مدهشة، تاركاً نفسه لها، ترفعه من مكانه وتحتضنه بالقرب من صدرها، كان سلساً «وسموز» مع من تأخذه، لم يكن يعارض، لكنه لا يأخذ خطوة باتجاه أنثى، إذا أرادت أن تأتي هي فأهلاً وسهلاً، أما هو فبريء يجلس في انتظار من تريد، كان العنصر النسائي في قسم الإداريات يعد على الأصابع، ثم فجأة أرسلت إلينا القوى العاملة عدداً مهولاً من السيدات، وتم تقسيم الذكور على الإناث، كل واحدة تزوجت من عامل، كان الأمر يشبه انفراجة، ما عدا أنا طبعاً، مليش في الحكاية دي (يضحك). تأتي الواحدة فتسلم عليه، وتطلب الكلام، وهو يقول أهلاً وسهلاً، لا يذهب إلى واحدة أبداً، وبمجرد أن تعطيه الواحدة منهن ظهرها يمسحها من ذاكرته، لا يبقى لها أثر، ولكن عليك أن تنتبه إلى كلامي لأنني أتحدث عن العلاقات العابرة، كلهن كن يقعن في غرامه، كاتبات ونساء عاديات، هنا مثلاً كان كثير من العاملات يقعن في غرامه، كان معروفاً لهن أنه «سبيل ماء للشرب»، كان أشعث، ويدخن البايب، ويرتدي الكاسكتة، ويبدو أن شكله الغريب والمدهش كان المغناطيس الذي يجذبهن إليه.
ألقى بطارية السيارة في الترعة فقفز نصف سكان إمبابة خلفها عرايا
اشترى سيارة فولكس واجن، حكى لي أنه يكره الوقفة عند الميكانيكي لإعادة شحن البطارية، فبعد أن يزهق منها يغيرها، وحدث مرة أن شعر بثقلها، كانت السيارة تسير بالكاد، فأوقفها على كوبري قريب من منطقة البصراوي، وفتح الكبوت وأخرج البطارية القديمة، وبمنتهى الهدوء ألقاها من أعلى الكوبري في الترعة، وتقريباً نصف سكان إمبابة قفزوا خلفها عراة، ودارت عليها معركة في الماء، معركة بحرية (يضحك) وهو تركهم وسار مبتعداً لإحضار بطارية جديدة، كان شخصاً مدللاً، أو يشعر بالتدليل، كان يعمل في وردية الليل باستمرار وكنت أعمل معه معظم الورديات ما عدا واحدة أو اثنتين أحضر فيهما صباحاً، كان يرى مبنى الأهرام وبرج الكنيسة من الشباك ويتحدث عنهما دائماً.
***
في فصل «عام سعيد للسيدة» يأتي ذكر الطابق الرابع الذي كان يعمل به إبراهيم أصلان للمرة الثانية، كما ترد إشارة إلى تورط القسم في أعمال السياسة التي يتحدث عنها سعيد عامر.
«كان محمود الذي تسلم العمل معي في نفس اليوم، يتدرب على أعمال الحفظ في الطابق الرابع من المبنى. وكان الحريري هو الذي يقوم بتدريبه، وأثناء ذلك. كان يحكي لنا عن العاملين القدامى في وردية الليل، هو الذي أخبرني أن العم بيومي كان سياسياً قديماً. اعتقلته الحكومة عدة مرات، وأن العم جرجس يعيش طول عمره مع زوجة غير التي أرادها. فلقد أحب فتاة، وخطبها ولكنهم في ليلة الدخلة بدلوها بشقيقتها الكبرى، وأن العم جرجس نفسه هو الذي يحكي هذه الحكاية، ويقول إنه غير نادم على حبيبته الأولى، وأن ما حدث كان من حسن حظه».
يواصل سعيد عامر:
كانوا يطلقون على قسمنا اسم «سيبريا» وينظرون إليه باعتباره قسماً للمجرمين والخارجين على القانون، وتخيل يا مؤمن أن هذا القسم كان به العظيم إبراهيم أصلان. أي واحد تظهر عليه علامات البلطجة في أي قسم آخر، أي شخص يتشاجر مع زملائه أو يعتدي على أحدهم، أو يضايق مديره، أو يتحدث معه بطريقة غير لائقة، باختصار أي شخص يظهر سلوكاً عدوانياً، ينقلونه فوراً إلى «الإداريات».
يتدخل مصطفى سليمان:
كان سعيد عامر يمتلك كاريزما مخيفة، لا أقول ذلك لأجامله، لكنني كنت شاباً صغيراً وشاهدته هو وإبراهيم أصلان وآخرين، كان الجميع يخشونه باستثناء إبراهيم أصلان، لأن سعيد كان يتعامل معه باعتباره أستاذه، ويحبه بشكل استثنائي.
يستأنف سعيد:
أي شخص يتسبب في قلق كانوا يحضرونه إليَّ، وأنا أقوم بترويضه، لكن ليس بإظهار العين الحمراء، بل بالود والتفاهم، بمجرد أن أبدأ الحديث يشعر أنني صديقه وهكذا يصبح فرداً من العصابة مباشرة، عصابة الإداريات. كان إبراهيم أصلان يشاهدنا مبتسماً، وأستطيع القول إنه كان يمثل «سويسرا» القسم، الأرض الجميلة المحايدة التي لا تملك جيشاً، لم يكن يحب جو الاعتصامات والإضرابات كما فعلنا في 76، كان مشغولاً بالكتابة ولا شيء غيرها، حدثني ذات مرة عن برنارد شو الكاتب الساخر، وقال لي إنه كان ثائراً مثلي وفي إحدى المرات التي كان يقود فيها مظاهرة جاء الأمن وحينما شاهد التحفز في عيونهم والهراوات في أيديهم طلع يجري، وأصبحت عقدة عنده، ثم تحول إلى كاتب ساخر بسبب هذا الموقف، كاتب يبدأ بالسخرية من نفسه. كانت الشيوعية في هذا التوقيت مثل الإرهاب الآن، جريمة لا غفران لها، وقال لي أصلان: «اسمع، حينما يقول لك المحقق إنك شيوعي، وتعتنق الأفكار الشيوعية، انتفض فوراً، واظهر غضباً واستنكاراً، وقل له: أستغفر الله العظيم، لا إله إلا الله، أنا مسلم وموحد بالله، حرام عليك، فيعرف أنك حمار ويتركك وشأنك، كانوا يتعاملون معنا باعتبارنا كفرة، وفعلاً نجحت خطته، بمجرد أن نفذت ما طلبه مني أمام المحقق ابتسم، وشعر أنني غلبان، ولا أفهم شيئاً في البتنجان، كنت أذهب إلى المحققين، لكن بعد فترة صرت أطلب منهم المجيء إليَّ، لدرجة أنني طلبت أن يحضر ممدوح سالم بنفسه إلى هنا، وكان رئيساً للوزراء وقتها، ومعه النبوي إسماعيل. طلبوا إحضار كراسي إلى المكان ليجلس عليها ممدوح سالم، لكنني رفضت وقلت إذا جاء إلينا فعليه أن يجلس على تلك الكراسي المكسورة ذات الأرجل الثلاثة التي نضيف إليها من أرجلنا نحن أرجلها الرابعة، وقد تحداني: «أنا مش رايح وهو يجيني»، وأنا حلفت طلاقين وحتة أنني لن أذهب إليه، وكان للنبوي إسماعيل تلميذ اسمه أحمد زعتر، وهو مأمور القسم هنا، وأصبح مساعداً لوزير الداخلية بعد ذلك وقال له: «هؤلاء مجرمون»، كان يرتدي بدلة وكرافتة، وتحدث في البداية بشكل جيد وقال إنه مدني والدليل ملابسه هذه، والنبوي باشا أستاذي وأنا كلمته عنكم، ونريد وفداً منكم يذهب لمقابلته، وكنا في اليوم الرابع، وكانت هناك خشية أن يتخلي عنك زملاؤك، لا بد أن تكون عينك على الناس لأنهم رأس مالك، وإذا تركوك ستواجه المصير بمفردك، وحددنا أكثر من اسم، لكن الأستاذ محمد رشاد شرف، وكان ضرِّيب أنفاس وراجل محترم للغاية، سألني أمام أصلان عن الأسماء التي كتبتها، فأخبرته، وقال لي إن هذا خطأ وإن عليَّ أن أكتب أسماء أخرى، وطمأنني أنهم لن يراجعوا ورائي، ما علينا سوى أن نعطيهم إيحاء بأننا كثيرون وأن الأمر ليس مقتصراً على الموجودين بالاعتصام، وقال: «هات ناس جديدة، ولو سألوكم قولوا أي أسماء»، ولما جاء الرجل وحاصرني أنا وأحمد طه وقد حكيت له حكايات غريبة أكلها، وفي المرة الثانية سألته: هل سعيد عامر هو المشكلة عندك؟ ورأى أحدهم عصبيتي الشديدة فقال لهم: «اغلقوا البلكونة، ده ممكن ينط منها ويجيبلنا مصيبة»، وأغلقوا بابها بالفعل، كان ذلك في فيلا لاظوغلي، قلت له أيضاً: «لو ضربت سعيد عامر برصاصتين، هل بهذا ستحل مشكلتك؟ أنا كنقابي أتحدث عن قرشين علاوات للناس، أرخص لك من الورديات الزائدة والأجور الإضافية، والقلق، عليك أن تتفق معي، الناس سيفرحون وأنت ستطمئن، وأنا سأحصل على برستيجي، ورفع سماعة الهاتف وطلب من رئيس الشركة على الجانب الآخر أن يرفع طبيعة العمل، ورد عليه الآخر كما عرفت فيما بعد: «عُلم وينفذ»، كانت للضباط في هذا التوقيت كلمة كبيرة، كنت أعود إلى أصلان محملاً بهذه الحكايات، يسمع ويتكيف، دون أن يبدي رأياً، لكنه حينما يشعر بأنني أقترب من منطقة الخطر، وهو الشخص الذي يحبني ويخاف عليَّ فعلاً، يوجهني، ويقول لي لا تُقدم على هذا الأمر، أو تصرف على هذا النحو..
طبقت نصيحته على أولادي فصاروا قروداً
«…نجلس في ركن القاعة حيث النافذة الأمامية الطويلة، وكنا نعرف أن العاملين في ورديتي الصباح والمساء يراقبن فتيات التلغراف المصري من النافذة الأخرى وهن يبدلن ثيابهن، ويتزيَّن في زجاج النوافذ المفتوحة بالمبنى المجاور، أما هذه النافذة فهي تطل على الشارع الكبير والأشجار، ونور المصابيح العالية التي تلفها هوام الليل والضباب، والرجال والنساء وصغار العائلات الذين يجلسون في الشرفات المزروعة، بنورها الخفيف».
من «وردية ليل»
يواصل سعيد عامر:
هل كل شيء بيننا كان يدور حول القراءة والكتابة والسياسة فقط؟ لا طبعاً، من الممكن أن يحدثني عن جارة له تطارده باستماتة، وقلقه من العيون حولهم، أو قلقه من الاستجابة لها عموماً، ويسألني: ماذا أفعل؟ هل أستمر؟ هل أبتعد؟ هل تظن أنها تنصب لي فخاً؟ هل ترى أنها تتعامل ببراءة أم أن لها نوايا سيئة؟ هل تحبني فعلاً؟ دبرني يا وزير، أصدقك القول، رغم كل شيء كان خجولاً للغاية، كانت هناك أيضاً زميلة له هنا تحبه للغاية، لكنها تركت العمل وذهبت إلى بورسعيد، كانت تعمل في البحر، كان مرغوباً للغاية لكنه كان يخاف من ظله، ولا يُقدم على أنثى أبداً..
كنا نتحدث أيضاً عن الأولاد، قال لي وكان هشام ابنه عنده ثلاث سنوات: تعرف ياض يا سعيد، العيِّل الصغير ده بيفهم زيي وزيك، ولو كلمته بطريقة «إنجغة إنجغة إنجغة» وبتاع، مش هيفهمك، عليك أن تحدث ابنك كأنك تتحدث إلى شخص عاقل وكبير، وقد طبقت هذه النصيحة على أولادي وأصبحوا كالقرود، فابتداء من بلوغهم سن الثالثة، كانوا يردون على التليفونات ويتحدثون كالأشخاص البالغين، وأحدهم حينما بلغ الرابعة كان يحلف بالطلاق في المناقشات، كنت أقول له بغضب: «عملت كذا؟!» فيرد عليَّ بغضب أكبر: «عليَّ الطلاق ما حصل!»، لقد قال لي أصلان إن المصريين يعلمون أبناءهم التخلف بالطريقة التي يحدثونهم بها، وقد كان ابناه هشام وشادي محظوظين بهذا الأب الرائع والمختلف.
أبوه ألحقه بمدرسة عسكرية رغم رفضه لها وقفز من الشباك ذات مرة وهرب للأبد، وللعلم كاد أن يلقى مصرعه في هذا الواقعة فقد كانت النافذة عالية للغاية، واستجاب له أبوه بعد هذه الواقعة وألحقه بمدرسة مدنية، لا أعرف إن كان حصل على معهد لاسلكي أم لا، وإنما أنا متأكد أنه حصل على دبلومة ثقافة..
أكثر من جرجس
في فصل «تأهيل» من «وردية ليل» يبدأ الراوي، المنضم حديثاً إلى التلغراف، في استلام مهماته، بدلاً من العم بيومي الذي سيُحال إلى التقاعد بعد قليل. في هذه القصة أيضاً، يبدو أن بيومي والعم جرجس سيتركانه يسلم أول برقية بمفرده:
«كان المطر الذي تساقط أول الليل، قد توقف الآن، وخلَّف بركاً صغيرة على مقربة من أرصفة الميدان الخالي. وكان العم جرجس قد أخرج البرقية الأخيرة من جيب سترته الحكومية المغلقة. أعطاها لي، ورافقني إلى البناية القديمة المبتلة، وقف أمام حجرة المصعد الخشبي، وأشار برأسه إلى الباب البعيد، وتركني وانصرف».
في فصل تال عنوانه «الدرج»، يتعرف الراوي كذلك على عالم كامل، حدوده الدرج، إذ يفتحه جرجس ويخرج عدة الشغل، وكذلك صورة جماعية باهتة، فيها الخواجة شقال، والجنرال متولي، وخالد، ومحيي الأسمر، وحسن بحر، والريس ماكميلان، والعم جرجس نفسه، وكذلك العم بيومي، والمرحوم صالح توفيق، وأنجلو صاحب الدرج ذاته ويبدو أن الراوي يعلم أننا سنصير في النهاية مجرد أرواح هائمة لا تدل عليها سوى صور قديمة ومهترئة مثل هذه.
يقول سعيد عامر:
عم جرجس كان شخصية حقيقية، لكن كان هناك أكثر من جرجس، هذه ليست حكاية، كنا على وئام مع المسيحيين، نحبهم ويحبوننا، وكان عددهم كبيراً في المكان. في فترة تولى رئيس مسيحي الهيئة وعين عدداً كبيراً منهم، تقريباً كان العدد في فترة من الفترات خمسين بالمائة مسيحيين وخمسين بالمئة مسلمين، لكننا لم نشعر بأن هناك مشكلة من أي نوع.
كان إبراهيم أصلان يقرأ البرقيات، ويضعها في فايلات، ثم ربطها بدوبارة جيداً.
يتدخل مصطفى سليمان قائلاً إنه «كان يصحح كذلك، يبدو أنك نسيت يا عم سعيد، لو احتوت برقية على أخطاء كنتم تعيدونها مرة أخرى وتطلبون التصحيح».
يستأنف سعيد عامر:
كان يحدث أن يخطئ الأوبريتور أحياناً، فنعمل آركيو لنصحح الخطأ. كان إبراهيم أصلان يقرأ الفايل، وينقل البرقيات التي ينتهي منها إلى التوزيع في الأسفل، وهم يضعونها في الأظرف ويوزعونها يدوياً، ولكنه أحياناً يشعر بالزهق ويرسلها مع فراش إلى التوزيع، لم يكن عليه أن يذهب بنفسه، فهناك ما يشبه الأنبوبة، نضغط عليها فتذهب إليهم، أو هم يرسلونها إلينا، كان يؤدي عمله، لم يكن بلطجياً، وإنما موظف يحترم وظيفته، ولا يسمح لأحد أن يوجه إليه أي كلمة إساءة أو توبيخ أو حتى ملحوظة عادية.
ذهب ليخلع ضرسه وبعد أن خدروه نزل إلى الشارع
آلمه ضرسه مرة ونحن في مقهي فينيكس، وكان لا بد من خلعه فوراً، بعدما وصل إلى مرحلة لا يرجى فيها له علاج، وبات هناك خوف من تفتته فيصبح اقتلاعه صعبا. سار معي في الشارع وفي يده كوب ماء، يتمضمض منه كل حين، لكنه أبداً كان لا يتوجع بصوت عال، كان تجسيداً للصلابة، ذهبنا إلى أصهاري في بولاق وسألناهم عن طبيب، فدلونا على أحدهم، وهناك، في شارع بولاق الجديد الذي ينتهي بسلطان أبوالعلا، وجدنا طبيباً ودفعنا الفيزيتا، وأعطوه حقنة البنج، واستمهلوه بالخارج إلى أن يسري مفعوله، ولما اختفى الألم بتأثير المخدر، لكزني في ساقي ناهضاً وهو يقول: «أنا تمام كده، يلا بينا»، ولحقت به مذهولاً إلى الشارع. لم أزل مندهشاً من تصرفاته الغريبة تلك حتى هذه اللحظة، لكن وعزة جلال الله هذا حصل.
أسأله لماذا اختارك؟ فيرد:
أنا اخترته وليس هو من اختارني. هو ارتاح لي، كان ينظر إليّ بحب دائماً ويقول: «أنت جميل»، لم أكن أعارضه، لا أضايقه، ولا أغضبه، كنت مطيعاً للغاية، وتابعاً مخلصاً له، يأمرني أمراً، الحكومة والدنيا في هذا التوقيت كانت قلقة مني، ولكن إبراهيم أصلان عندي ملك، أحبه وأخشي أن أضايقه ولو للحظة عابرة.
مصطفى سليمان عاصر أصلان لمدة عام قبل خروجه من الهيئة
يتدخل مصطفى سليمان:
كان الأستاذ سعيد عامر شاباً صغيراً، وإبراهيم أصلان يكبره بحوالي 12 عاماً، إبراهيم ولد في مارس 1935، (في تعريفها به اختصرت مجلة «المجلة» من عمر أصلان سنتين إذ أثبتت تاريخ ميلاده في 3 مارس 1937) وسعيد ولد في 1947، وكان يصدر مجلة اسمها «الأمانة» يهاجم فيها النقابة العامة، مجلة ليست أكثر من فرخ فولسكاب، يأتي المديرون والموظفون في الصباح فيجدونها معلقة على الأبواب أو موضوعة على المكاتب، وكان من الشجاعة والتحدي بحيث يذهب بنفسه إلى رئيس مجلس الإدارة، ويسلمه نسخة.
يستأنف سعيد عامر:
كنت أهرب من الرقابة والتصاريح اللازمة لإصدار مجلة بأن أكتب عليها «نشرة غير دورية». مدير مكتب رئيس الهيئة كان يقوم مفزوعاً بمجرد رؤيتي ويضرب تعظيم سلام، ويتسلم النسخة الممهورة بتوقيعي، وأعلى ما في خيله يركبه، لم يكن أصلان يخشى عليّ، فهو يعرف أنني ابن جنية وأسلك مع العفريت.
لأول وآخر مرة، طلبت الكويت 11 شخصاً، كنت منهم، كانوا يحاولون استرضائي بكل الطرق، وقبل الكويت بعثوني إلى بريطانيا، تخيل يا مؤمن شاباً يخرج من بولاق أبوالعلا إلى مطار هيثرو، وهناك طبعاً تسببت لهم في مصائب، وماذا تنتظر من شخص تأخذه من السبتية إلى لندن؟ بعد الاعتصام أرادوا مني تمثيل البريد والتلغراف، وكنت في لجنة نقابية ولست في النقابة العامة، أرسلوني إلى هناك لعل وعسى، وطبعاً خيبت ظنهم، وكانت أول مرة ننفتح على الغرب بعد أن قام السادات بطرد الخبراء الروس، كان من يتحدث مع الغرب، وقتها، كمن يرتكب جريمة إرهابية.
كان يستمع إلى حكايات موزعي التلغراف باهتمام بالغ
يحكي سليمان في «كوب شاي» من «وردية ليل» كيف لاحظ في ورديته الليلية الأولى بمكتب الحركة الخارجية أن زملاءه القدامي يغيبون ويعودون حاملين أكواب الشاي، ويخبره محمود أن عامل البوفيه يعمل بمفرده ليلاً ولذلك فهو يكتفي بإعداد الطلبات دون النزول بها.
يحكي سعيد عامر:
طبعاً كان يقابل الزملاء الموزعين، كانوا يأتون للراحة أحياناً وشرب الشاي، وكان بعضهم يقضي نوبته في المكتبة في حال عدم وجود برقيات للتوزيع، وكان إبراهيم أصلان يحب أن يتحدث معهم ويستمع إلى حكاياتهم، والمواقف التي يتعرضون لها وهم يتعاملون مع الغرباء الذين يطرقون أبوابهم، كان يعتقد أن هناك حكاية وراء كل باب، وكان يستقصي تلك العلاقات الصغيرة التي تنشأ بين موزعي التلغراف والناس في الخارج، فينصت إلى كل تفصيلة ويسأل في كل شيء، وعرف كثيراً من الحكايات المدهشة التي أضاف إليها الكثير من خياله وخبرته السابقة قبل أن يأتي إلينا، كما كان يقرأ البرقيات بتمعن، ويرى أن الناس أقدر على التعبير من أدباء وفنانين.
ارْكن إنتاجه الأدبي جانباً وتعال نتكلم عن حجم ثقافته وقراءاته ومعلوماته التي كان يمتلكها، كانت رهيبة، جعلته موسوعة متحركة، لحسن الحظ أنني كنت أكثر المستفيدين منها، لم يكن متثاقفاً، وكانت لديه قدرة على تغليف هذه الثقافة بمتعة غير عادية ومسحة سخرية لا يمتلكها غيره، سخرية تخصه هو، مسجلة باسمه هو، تعبر عنه هو، وتمثل جزءاً أساسياً من شخصيته. من المستحيل أن تشعر وأنت معه أنه مشهور وأنه أديب يتسابق الكل على صداقته، أو التقرب منه، كان «جنتلمان»، في الهيئة كانوا يعرفون أنه كاتب، ولكن الأهم أنه هذا الشخص المحترم الذي يعبرون به فيجدونه دائماً بشوشاً ومبتسماً يرد التحية بأفضل منها، ويجلسون معه، فيرتاحون لحديثه، رغم أن هذا لم يكن أمراً متكرراً، كنت أعمل «أوبريتور» وهو في الإداريات، بعد نزول الشريط المخرَّم من «المبرقة» أضعه في جهاز إرسال، ذلك قبل شفرة مورس، وما أنتهي منه يأخذه الأستاذ إبراهيم أصلان، يراجعه وحينما يتأكد من عدم وجود أخطاء يربطه ويعمله «بناضل»، ومفردها «بنضل» مرقمة بأرقام مسلسلة ومرتبة جيداً، كنت أطبع ما أنتهي منه فيبدأ عمله بعدي، وكان يحدث أحياناً أن يجد رقماً ساقطاً، أي برقية غائبة، فيطلبها: «فين البرقية دي؟»، وهكذا أعيد طباعتها مجدداً، وكان كذلك لا يسكت أبداً حينما يجد كلمة خاطئة أو ناقصة أو حتى حرفاً في غير محله، كان دقيقاً للغاية، وكنت أعرف أن دقته تحمينا جميعاً.
كان يحب التمشية التي تنتهي في الأغلب بالجلوس على مقهى فينيكس، ودائماً هو من يدفع الحساب، مستحيل أن يترك شخصاً آخر يدفع له، حتى ولو كان ما تناوله مجرد كوب شاي، لم أجرؤ أبداً في صحبته على دفع الحساب، لأنني أعلم يقيناً أنه لن يقبل، كان «باشا»، «باشا» بمعنى الكلمة.
كثيرون من الكتاب كانوا مسكونين بهواجس الأمراض والموت، فماذا عن إبراهيم أصلان؟ يحكي:
بالبلدي كان ضاربها طبنجة، أتعرف ماذا تعني «ضاربها طبنجة»؟ كان يحدثني دائماً عن فلاسفة غربيين وعلاقتهم بالموت، وكان يقول لي: «احنا هنقول فيه آخرة، عشان لو طلع فيه فعلاً منبقاش خسرانين حاجة، ولو مفيش يبقى برضه مش خسرانين حاجة»، كان من أسرة متدينة، وكان يتحاشى القرب من هذه الحكاية، فلا يخوض فيها أبداً.
جاءت إليه وألقت في حجره خطاباً فصارت زوجته
يقول محمود:
«ماعندكش عروستين لينا يا أبو أشرف؟»
«يا خويا عندك وردية الصبح، كلها بنات ولاد حلال».
«زي مين؟»
«زي إيزيس، قابلتها مرة وأنا باقبض، بنت حلال قوي».
من «وردية ليل»
يحكي سعيد عامر:
زوجته كان لها جانب إيجابي جداً معه، كان كالمنزل «المنعكش»، فبذلت مجهوداً جباراً لإعادة ترتيبه من الداخل، وهذا يُحسب لها، لقد أحبته فعلاً، وأتذكر جيداً أنها جاءت إليه وألقت في حجره خطاباً، كانت تستغيث به لإنقاذها من حياة لا تريدها، كانت تريد أن تتزوجه، وكانت عندها مشكلة كبيرة، «مكتوب كتابها»، ومع أن الموضوع «اتفشكل» فقد بقيت له بعض التبعات، وأنت تعرف ما يحدث في البيوت المصرية في مثل هذه الأمور، وقال لها إبراهيم أصلان: «خلصي نفسك من المشاكل وأنا أنتظرك»، وأبوها، جد هشام وشادي، من إعجابه به جعل المهر «ربع جنيه»، قال للمأذون المندهش: «خلي المهر ربع جنيه»، والمأذون سأله: «متأكد؟!»، ورد عليه: «وخلي المؤخر جنيه، أنا حر يا أخي»، كان رجلاً عنده بُعد نظر، وهي اشترت له آلة كاتبة، وساعدته في الكتابة، كانت زوجة عظيمة، وخلصته من كل الأمور العالقة، والعلاقات المضطربة التي ظلت تطارده كأحلام تارة وككوابيس تارة أخرى، كان يقيم في شقة في شارع النافورة بالمقطم، ذهبت إليه هناك، قبل أن يموت بسنة، كان هناك صحفيون وممثلون، وكان بصحبتي حبيبه سيد عبيد، وقال لي: أنا عندي مكتبة كبيرة جداً، ولديَّ من بعض الكتب نسختان، ولا أتذكر هل هشام أم شادي هو من جاء لنا بـ«دور شاي»، لم تكن أمهما موجودة في هذه اللحظة، ولو لم يكونا موجودين لما شربنا الشاي، المهم أوصاني بأن أحضر سيارة للحصول على هذه الكتب الزائدة، ولكن حينما وافاه الأجل توقف كل شيء، توقف حتى اهتمامي بهذه النوعية من الكتب، خسرت إنساناً عظيماً وقيمة كبرى لن يجود الزمان بها ربما قبل قرون، رفعت سماعة الهاتف واتصلت بأم هشام وعزيتها، وانتهت العلاقة من وقتها، كان قد أوصى بحصولي على نسخ، ولكن تغور النسخ. كنا نحب الكتب، ونذهب إلى معرض الكتاب، وندخل الجناح الروسي، ونحمِّل ما نريده، ولا نذهب لنحاسب، بل نصطحب الكتب إلى الخارج مباشرة، وقال لي مرة: «هما مكسوفين يقولوا انها ببلاش، فاحنا هنريحهم ونقصَّر عليهم»، لم تكن هذه سرقة وإنما مجرد اقتباس.
لو عاد بك الزمن إلى الوراء ثلاثين أو أربعين عاماً لتقدم نصيحة لصديقك العظيم إبراهيم أصلان، ماذا كنت ستقول له؟ يصمت سعيد عامر طويلاً، ثم يقول:
العلم عند الله، ربما أحدثه عن علاقته بالآخرة، لا أعني أنه كان «مديها طناش» بالكامل، لكن ربما كنت أستطيع أن أقنعه بما أشعر به الآن، لأنني تغيرت، والتغير شمل قراءاتي، فقد أصبح معظمها في الكتب الإسلامية، الغزالي، وابن قيم الجوزية وغيرهما.
لحظة، أريد أن أقول شيئاً أخيراً، لم يكن كريماً عن ثراء ولكن عن كبرياء، كان يأتي في موعده ويمشي في موعده، وأتذكر أن أحدهم اشتكى له حديث مديره إليه بشكل غير لائق، وقال لفظاً سيئاً، فقال له إبراهيم أصلان: «إنه لا يسمع جيداً، ولهذا لا يستطيع الحديث بشكل جيد»، وهكذا كان أصلان، شخص ينصت جيداً، ويتحدث قليلاً، مستمع عظيم، ومتحدث لبق بدرجة فيلسوف.
***
«أما الثاني، الحريري، فقد كان مشغولاً بترتيب البرقيات حسب أرقامها المتعاقبة. وبين وقت وآخر، كان يضع ورقة خالية مكان البرقية الغائبة حتى يلصقها عليها عندما تأتي.
وكان الآن قد انتهى من إعداد رزمة كبيرة.
وضع لها غلافين من الورق المقوى، وأمسك بالمغراز ذي المقبض الخشبي وغمس طرفه المسنون في علبة زبادي مدورة ممتلئة بالصابون الجاف، ودفع به في زاوية الرزمة وهو يقوم نصف قومة، وينزل بثقله كله على المقبض. ولما برز طرف المغراز من الخلف، تناول المسلة التي تدلى منها خيط الدوبارة، وجذب المغراز وهو يقبض على الرزمة جيداً حتى لا يتوه الخرم في طيات الورق، وأولج المسلة مرة، وأخرى، وجذب الخيط بحيث صنع مربعاً في الزاوية العليا، وربطه مرتين، والتقط الموسى وقطع الدوبارة الزائدة، وقلب المغراز في يده، وراح يدق بكعبه الخشبي على مكان العقدة حتى استوت، وحينئذ تناول القلم الجاف المفتوح، ورسم خطاً أفقياً أعلى الغلاف الأمامي، وكتب التاريخ بخط مزدوج، ورسم خطاً آخر رأسياً في الثلث الأول من الناحية اليمنى، وبدأ يكتب الرموز التي تدل على أسماء البلدان الأجنبية التي وردت منها: لندن، باريس. موسكو. فرانكفورت. روما. أوزاكا. أمستردام. جينيف. فيينا. شنغهاي. بومباي. برلين، حتى انتهى وهو يضغط على سن القلم ويعض على طرف لسانه، ودوَّن أمام كل منها أرقام أوائل وأواخر هذه البرقيات الواردة».
«وردية ليل»
هذه أدق تفاصيل العمل في البرقيات، يتذكرها مصطفى سليمان هي وغيرها، لكن رويداً رويداً. بات التذكر أمراً شاقاً وقد اختفى التلغراف نفسه منذ سنوات بعيدة. ومع أنه كان يعرف يقينا أن أصلان كاتب قصة ورواية، لكنه لا يفرق كثيراً بين الروائي والشاعر. يقول:
«أنا أقدم موظف في قسم الدولي، جئت ووجدته في مكتب الإداريات، كان شاعراً وكاتباً صاحب دماغ مختلفة، أنت تعلم طبعاً أن الشعراء والكتاب دماغهم تكون شاردة قليلاً، كان يسارياً هو وأحمد طه وسعيد عامر، لكنه يبدو أنه كان يعطي إيحاء بأنه لا يحب السياسة، قدم استقالته من قسم الإداريات «حركة التلغراف الدولي»، كل هذا الكلام أصبح غير موجود الآن، مكتبه قسِّم إلى مكتبين كما رأيت، وأصبح تابعاً للإدارة المالية، لكنني أعرف جيداً أين كان يجلس، وأعرف حينما كان يطل من الشباك خلفه ماذا كان يرى، وأيضاً ماذا كان يرى عبر شباك الغرفة المقابلة له؟ لا يوجد الآن شيء في الطابق الرابع اسمه تلغراف، كان التلغراف أساس الشغل، كان الدور الرابع مشغولاً بموظفي التلغراف الدولي، وعددهم حوالي 400، يعملون في ثلاث ورديات على مدار 24 ساعة، كان أصلان في مراقبة الإداريات، وشغلها مكمل لشغل التلغراف الدولي، وكان يعمل دائماً في ورديات الليل حيث السهر والمزاج، وكان معه أحمد طه الذي أصبح فيما بعد عضو مجلس الشعب عن الساحل، لم أره كثيراً، حينما جئت كانت أيامه في الهيئة على وشك الغروب، لكنني سمعت أنه كان «شاعر قوي، وكتاباته ساخرة»، وكان سعيد عامر هو الوحيد الذي تبقى من رائحته، وللأسف خرج إلى المعاش تقريباً في 2010.
التلغراف كان يتطلب شخصاً ماهراً للغاية، وأي شخص يلتحق به عليه الحصول على دبلوم لاسلكي من معهد التدريب، وأظن أنه بدأ هنا منذ الستينيات، كان هناك أكثر من قسم، الخطوط، الحركة، المراجعة، لاحظ أنني تركته منذ ربع قرن تقريباً، ولذلك هناك بعض الصعوبة في تذكر مسميات أو أمور تقنية، كانت البرقيات تصلنا من مكاتب القاهرة، وكل شخص يُكلف ببرقيات دولة معينة، كالسعودية، العراق، أمريكا، وهكذا، كل شخص يجلس في ورديته لينجز فرضه، ثم يطبع ما أنجزه شريطاً نسميه أسطوانة، تتم مراجعتها، كما كان يفعل الأستاذ إبراهيم أصلان، وإذا وجد خطأ ما ينبه إليه.
«يجمع أصول البرقيات التي تسلمها حتى الآن، يطويها بعناية داخل الأسطوانة المعدنية القصيرة، ذات القاعدة المصنوعة من اللباد، ويجذب الباب الصغير في ماسورة الهواء المضغوط، ويضع الأسطوانة ويغلق الباب ويروح يتابعها بأذنيه وهي تندفع في مواسير الحديد، تحتك، وتميل راحلة مع الجدران في سبيلها إلى مكتب الحركة الخارجية في الطابق الرابع، وسمع خلخلة الهواء».
«يوم آخر» من «وردية ليل»
يحكي مصطفى سليمان:
كان التلغراف زمان اسمه «المورس»، حيث يتم العمل بـ«التكتكة»، بهذا الإيقاع، بالنقر إن جاز التعبير، تستطيع التعرف على الكلمة، وليس بالحروف أو الكتابة، كان أمراً صعباً، ولكي تتقنه لا بد من دورة مدتها عامان، التليفونات كانت صعبة جداً في هذا التوقيت، ولذلك كان الناس يستخدمون التلغراف في الأفراح والتعازي والأعياد وكل المناسبات، كان إبراهيم أصلان ينكب على فرز البرقيات، وكان سمعته ممتازة في هذا الأمر، فلا يسمح بخطأ واحد، كان موظفاً ملتزماً رغم أن البعض أشاع عنه غير ذلك، يأتي في موعده ويغادر في موعده، لدرجة أنك قد تضبط عليه ساعتك، أتحدث على الأقل من واقع الفترة الصغيرة التي شاهدته فيها، وكنت أتمنى فعلاً بسبب تهذيبه البالغ وشخصيته الجميلة لو أنه صديقي، أو لو كنت أكبر قليلاً ودخلت الهيئة معه في نفس التوقيت لأتعلم منه، غير أن عزائي أنني شاهدته، وكان مثالاً للرجل العظيم، الذي لا تملك إلا أن تحبه وتحترمه من تصرفاته. كان هناك إجماع على ذلك ولم أقابل أحداً ناقماً عليه أو غاضباً منه، أتذكر جيداً بعض الأمور التي قام بها، مكتب عدلي مثلاً بعث برقية خاطئة وأعادها إليه إبراهيم أصلان حتى يعدلوها، وحتى تفهم لماذا كان يسمَّى المكتب بـ«الإداريات» فهذه الكلمة معناها «الأخطاء» و«الإداري» معناها «الخاطئ»، والخطأ قد يكون في التصنيف أو في حساب المال مقابل عدد الكلمات أو في الإملاء، مجرد حرف ناقص، حرف واحد قد يخل بمعنى الكلمة وربما بمضمون الرسالة، كان إبراهيم أصلان مقتنعاً أنه ما دمت دفعت مالاً مقابل خدمة فعليك أن تحصل عليها في أفضل صورة، ثم إنه لم يكن ليسمح بأحدهم بـ«التعليم عليه»، آه.. تذكرت، قد يقع أحياناً خطأ في العناوين، مثلاً أحدهم كتب السعودية، جدة، شارع كذا، وهذا الشارع ليس موجوداً أصلاً في جدة وإنما في مدينة أخرى، كان يصحح هذا الأمر أو ينبه له على الأقل.. كان يحفظ عناوين الشوارع والعمارات ليس في القاهرة فقط، وإنما في معظم المحافظات، والدول العربية، كانت له ذاكرة حديدية.
يتدخل شعبان يوسف الذي حضر معي هذه المقابلة قائلاً إن أصلان عمل موزعاً ربما لعام أو عامين، وهذا أسهم في حفظه لتلك العناوين.
ألاحظ موظفة مع مصطفى سليمان في الغرفة، يبدو أنها تحتل منصباً كبيراً، وأسأله: هل تغير بمرور الزمن شيء ما فيما يتعلق بوجود السيدات داخل الهيئة؟ فيقول إن الرجال والنساء كانوا يختلطون ببعضهم بعضاً بشكل عادي قديماً.
وما أكثر صفة يتذكرها لصيقة بإبراهيم أصلان؟ يجيب: «كان حريقة سجاير».
يصمت قليلاً وينهي:
أنا دخلت المكتب عام 84 وربما ظل عاماً أو أقل وغادرنا، وأذكر أن الممثل فاروق نجيب، كان يعمل معنا في التلغراف، وكان صديقاً مقرباً منه.
نبحث عن مقهي فينيكس وتهدينا إليه امرأة من زمن ماض
بدا شعبان يوسف في الهيئة كمن يجلس أمام صندوق من صناديق أرشيفه الشهير لم يفتحه منذ عشرات السنين. مجرد ظهور وجه على راداره يحفزه. هذا شحاتة ميخائيل. مرت ثوان دون أن يرحب شحاتة بشعبان، وشعرت أن شعبان يتهيأ ليسدد لكمة إلى الرجل، لولا أن ذاكرة ميخائيل أسعفته، فأنجته من ذلك المصير، وعانق شعبان. سيتكرر ذلك العناق كثيراً.
أسفل مبنى الأوتو نخطط للوصول إلى مقهى فينيكس
يقدم لي زميلاً قديماً قائلاً «الشيخ كشك» ونضحك جميعاً ثم أسأل عن سبب هذا اللقب، فينبري شعبان قائلاً بصوته الجهير إنه كان إسلامياً والأمن كان يراقبه. وينبهه الزميل «محمد عبد الحميد» إلى رفع صوته قليلاً لوجود رجل في آخر الطرقة ربما لم يسمع بعد. ونضحك. ويمر ويتعانقان.
ويظهر «حسن مشمش» ويتكرر العناق. ويظهر من يتذكرهم شعبان ولا يتذكرونه، ومن يتذكرونه ولا يتذكرهم. ويمر الوقت في الهيئة كأننا نسير في عقل شعبان وفي ذاكرته.
ربطت شعبان يوسف علاقة وثيقة بإبراهيم أصلان، بدايتها كانت في الهيئة التي التحق شعبان بها قبل تقديم أصلان استقالته بقليل، وكانت هذه فرصة لبداية تعارف وصداقة سيُكتب لها النجاح. كان الاثنان يجلسان على مقهى فينيكس، يتبادلان أحاديث حول كل شيء، وكان لا بد من إكمال الصورة، صورة الصديقين اللذين يغادران الهيئة معاً في بعض الأحيان، ويسيران في شوارع وسط البلد باتجاه المقهي. كان شعبان يوسف حاضراً بنفسه، بينما قمت بدور إبراهيم أصلان، خرجنا من الباب الذي كانا يخرجان منه، ولا يُسمح إلا للموظفين الآن بالمرور منه، أما طالبو الخدمات فعليهم اجتياز باب آخر. سرنا في شارع سيد درويش وقد قلت له «أنا إبراهيم أصلان» فبدأ شعبان يسترسل في ذكرياته:
حينما أعود بالذاكرة حوالي أربعين سنة بالظبط، وكنت أبدأ بالكاد النشر في الصحف والمجلات، يعني أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، كان إبراهيم أصلان اسماً كبيراً جداً على مستوى التجديد في القصة القصيرة والأدب عموماً، وأيضاً كان هدفاً للأدباء الشباب الذين قصدوه للنشر لهم في مجلة «البيان» الكويتية في هذا التوقيت، وكان الصديق الجميل الراحل يوسف أبو رية، هو أحد الجسور المهمة التي كانت تربط بيني وآخرين، وبين كتّاب جيل الستينيات، فقال لي إن إبراهيم أصلان يجلس على قهوة فينيكس في شارع عماد الدين.
كان شعبان يتحدث عن المرة الأولي التي ذهب فيها إلى المقهى، لكنهما بعد أن صارا صديقين كانا يتحركان معاً من الهيئة. وصلنا إلى ميدان عرابي، ومنه بدأنا التحرك في شارع عرابي. يقول شعبان:
كنت أعرف في هذا التوقيت مترجماً وناشراً اسمه سعد صموئيل، وكنت قد نشرت في جريدة المساء بفضل يوسف أبورية أيضاً، كنا حركة شعرية شابة وقوية وملفتة للنظر، فأجرى أبورية معي حواراً للصفحة الأدبية التي يشرف عليها الكاتب الكبير عبد الفتاح الجمل، وشجعتني هذه الخلفية على الذهاب إلى قهوة فينيكس، وبالفعل ذهبت ذات يوم، معتمداً على معرفتي بسعد صمويل، وباعتبار أني نشرت في جريدة المساء، وهناك وجدت سعد صمويل، وأتذكر من الجالسين عبد الفتاح الجمل ويحيى الطاهر عبد الله وطبعاً إبراهيم أصلان، وشعرت بأنه كان مميزاً جداً، وصاحب حضور دافئ وقوي، ولم يكن مسهباً في الكلام، بقدر ما كان يرسل تعليقات سريعة وحادة علي هيئة (قفشات)، ولاحظت أن قعدة فينيكس، أكثر ألفة من ريش، التي كان يجلس فيها نجيب محفوظ يوم الجمعة، وأكثر شعبية من جلسة (علي بابا) التي كان يجمعنا فيها إبراهيم فتحي كل يوم أحد.
انعطفنا إلى شارع سليمان الحلبي، وبدت الحيرة على شعبان، قلت له إنني لا أعرف مكان المقهى، نظر في أكثر من اتجاه، وسألنا بواباً عن المقهي فأشار بدون اكتراث بما يعني أنه علينا أن نكمل طريقنا، وعاد شعبان إلى الحديث:
تجرأت وقلت لإبراهيم أصلان إنني أريد النشر في مجلة البيان من خلاله، رغم أني كنت قد نشرت قصيدة سلفاً عن طريق البريد، وبكل أريحية قال لي «خلاص، تعالى لي هيئة المواصلات»، وحدد لي موعداً، وذهبت، وهذه كانت أول مرة أنفرد فيها بإبراهيم أصلان في غرفته، لم أجد أي صعوبة في الوصول إليه، ويبدو أن مكتب الأمن كان يستقبل زواراً كثيرين له، فبمجرد أن ذكرت اسمه أشاروا إلى مكتبه، وصعدت في العمارة القديمة التي كان أصلان يمارس فيها عمله، غرفة ضيقة، ولكنك تشعر بأنها غرفة مثقف وكاتب فعلاً، وربما حضور أصلان الدافئ والطاغي، هو الذي أضفى ذلك، وأعطيته قصيدة، ودار بيني وبينه حوار ليس طويلاً، ولكنني أدركت منه أنه على دراية بأسماء شعراء السبعينات، ويرى أنهم «عاملين غاغة». قال لي: ربنا يستر، فضحكت وقلت: يستر على إيه بالضبط؟!، قال لي: يا أخي فكرة إنك تقعد تكتب وتعمل تمثالاً للغة، وتملأ الشعر زخارف وزركشات، ده ممكن يستهلك التجربة، ويحدفها في حتة تانية خالص، وبالطبع كنت أوافقه قليلاً. كان صديقاً عظيماً لأمل دنقل، واندهشت فيما بعد لما كنت أشاهدهما يلعبان الطاولة على (زهرة البستان)، رغم أن المكان الأمثل لأمل دنقل كان قهوة ريش.
تهنا في وسط البلد
كان شعبان يوسف يتحدث بدون توقف، وشعرت أننا ندور حول أنفسنا، وقلت له يجب أن نسأل شخصاً آخر عن المقهي لكنه اعتبر أنني فراغ، وأكمل حديثه بشكل عادي جداً:
في ذلك اليوم منحني إبراهيم أصلان رقم تليفون المنزل، وتليفون العمل، وهذا كان مبهجاً جداً بالنسبة لي، وتركت المكان وأنا أكاد أطير، ليس لأنني سأنشر في مجلة البيان فقد نشرت فيها فعلاً من قبل، ولم يكن النشر فيها يشكل عائقا، لكن البهجة التي يضفيها إبراهيم أصلان كانت مختلفة، وشعرت بأننا سنصير صديقين، رغم أنه كان هدفاً لكثيرين، يذهبون إليه، وكنت في ذلك الوقت أتخبط في أعمال اجتماعية متعددة، ولم أستقر على عمل، وكذلك كنت منخرطاً في العمل السياسي السرّي حتى شوشتي.
وتابع:
تمر الأيام، بعد أن نشر لي القصيدة، ولم أذهب إليه في (المصلحة) كما كان يسمّي الهيئة، إلا قليلاً، لأنني اعتدت أن أراه على قهوة فينيكس، أو زهرة البستان من بعيد، حتى قررت أن ألتحق بعمل «حكومي» بعد انهيار أحلامي السياسية، وسقوط الحزب الذي كنت أنتمي إليه وتفككه، وتشرذم قادته، وخروج خليل كلفت الذي كان صديقاً لإبراهيم أصلان، وتقدمت بالفعل إلى مجموعة وظائف، واخترت العمل في الهيئة المصرية للاتصالات السلكية واللاسلكية التي يعمل فيها إبراهيم أصلان، وهذا كان فألاً حسن بالنسبة لي، وكان أول مهامي في الوظيفة أن ألتقي بإبراهيم أصلان، كان ذلك في عام 1983.
جاء عمل شعبان في مكتب التحويلات بالتلغراف المحلي، وأدرك أن المكان ينقسم إلى ثلاث بنايات ضخمة، البناية الأولى تحمل اسم «الديوان» وفيها قيادات الهيئة، بداية من رئيس مجلس الإدارة، المهندس محمد وجدي عبد الحميد، حتى رؤساء القطاعات ومديري العموم، وهي البناية التي تتصدر واجهة الهيئة، ثم البناية التي يعمل فيها إبراهيم أصلان واسمها «عمارة الأوتو»، وفيها الترنك، وإدارة التلغراف الدولي وقطاع الماليات وهكذا، ثم البناية التي عمل فيها شعبان يوسف، وهي العمارة الأحدث، وتضم قطاع حركة التلغراف المحلي.
عندما زار إبراهيم أصلان بعد التحاقه بالوظيفة بأيام قليلة، شعر بسعادة بالغة حينما علم أن ثمة مشتركات بين قطاع التلغراف المحلي الذي يعمل فيه، والتلغراف الدولي الذي يعمل فيه إبراهيم أصلان، وكانت هناك تليفونات داخلية يسمونها «البي بي إكس»، وكان يهاتف أصلان من خلالها دوماً، وتم ترقية شعبان إلى «ريس وردية» بعد التحاقه بالعمل بشهرين، وهذا أتاح له الحركة بشكل أوسع، فصار يذهب بنفسه لاستلام أسطوانتي التلغرافات من إبراهيم أصلان، حث كان يعفي العامل من الذهاب إلى «العمارة الثانية» لكي يأتي بالوارد، وكان العامل يسعد بذلك جداً، وهذه الزيارات المتواترة هي التي ربطته بإبراهيم أكثر، هي الحاضنة الأولى لصداقتهما الحقيقية، وأيضاً لمزيد من التعرّف عليه وعلى عالمه وعلى علاقاته بالناس.
«طلعت وليلى»
ليلى هاشم المصرية
سجن مكة العمومي. جناح النساء
مكة.
السعودية.
أعرفك يا ليلى أنا كويس.
وينقصني رؤياك الجميلة.
وأرجو من الله. من رب الكعبة.
أن يعفي عنك. وعن كل مسجون.
ويشفي كل مريض.
ويرجع كل غريب إلى وطنه.
ومن ضمنهم ليلى.
يا ليلى أنا من غيرك لم يهنى لي نوم.
ولا مرتاح لي بال.
إلا لما تحضري واشوفك أمامي.
وأنا من غيرك يا ليلى دموعي على الخدود وحيران، وناقصاني حاجة كبيرة.
…..
وسلامي للأخت اللي بتاكل عيش وملح معاكي
الأخت إيمان. اللي بتكتب الخطابات
الراسل – طلعت السيد جلاب
(جزء من صورة طبق الأصل لبرقية أرسلت من مكتب تلغراف رمسيس في منتصف السبعينات).
من «وردية ليل»
كان أصلان يجهّز لشعبان الأسطوانتين، واحدة للبرقيات التي تخص القاهرة، والأخرى للمحافظات، وكلها برقيات واردة من خارج مصر، وفي كل زيارة، كان أصلان يستبقي بعض البرقيات ليطلعه على اكتشافاته الفريدة، ويشرح له «بلاغة العاديين» في صياغة أحزانهم وأفراحهم وأوضاعهم وشكاواهم ومواضيعهم، ولأن الكلام بـ«فلوس»، يقول له: «شوف الاقتصاد في الكتابة والتكثيف والاختصار غير المخل»، كان إبراهيم مفتوناً ببلاغة الناس العادية، ويرى أن هذه البلاغة هي الأصل الأول في الكتابة، ومن هذا الحديث كان يعرّج على الحديث عن الكتابة القصصية، ويقول له إنه يتعلم كل يوم من هذه البرقيات، آلاف البرقيات التي كانت ترد على إبراهيم أصلان، وكثيراً ما كانت تستوقفه صياغات عبقرية، تخلو من أي تقعرات، وتدخل إلى الهدف مباشرة، وتكتسب جماليات خاصة بها، بعيداً عن الرغي والرطرطة التي سادت في ذلك الوقت.
يحكي شعبان:
كان إبراهيم يحدثني دوماً عن اثنين كان يعمل معهما في (المصلحة)، أحبهما وتأثر بواحد منهما جداً على مستوى الكتابة والقراءة، الأول هو الناقد محيي الدين محمد، وعندما ذهب أصلان إلى الهيئة تعرّف بمحيي الدين محمد، وكان آنذاك مراسلاً لمجلة (الآداب) اللبنانية، وكان يرشد إبراهيم إلى قراءات عديدة، وهو الذي أشار إليه بكتابات هيمنجواي وجان بول سارتر وألبير كامي وغيرهم، بالإضافة إلى كتابات سلامة موسى، وأُعجب إبراهيم خاصة بكتاب «عقلي وعقلك»، وكان يحدثني دوماً عن ثقافة محيي الدين محمد، العميقة والموسوعية، وكان قد صدر له كتاب ضخم (ثورة على الفكر العربي المعاصر) عن المكتبة العصرية ببيروت، وضم دراسات عميقة عن بدر شاكر السياب وعبد المعطي حجازي وأزمة الأديب في المجتمع وهكذا، وأشار إليه إبراهيم أكثر من مرة في مقالاته التي كان يكتبها أسبوعياً في جريدة (الرياض) السعودية ولم يضمها في كتاب.
أما الشخص الآخر، كما يقول شعبان، فهو النقابي أحمد طه، وكان يعمل معه في الهيئة، وكان نقابياً كبيراً، ثم صار عضواً في مجلس الشعب عن دائرة شبرا فيما بعد، وهو شقيق الضابط الشهيد الذي قتله «الحرس الحديدي» قبيل قيام ثورة 23 يوليو مباشرة، وكتب عنه يوسف إدريس قصته الشهيرة «5 ساعات»، وألحقها بمجموعته القصصية الأولى «أرخص ليالي» التي صدرت في أغسطس عام 1954، ويوسف إدريس كان حاضراً وقائع موت عبد القادر طه في مستشفي قصر العيني.
لم يكن إعجاب ابراهيم أصلان بزميله أحمد طه ينطلق من كون أحمد طه عضو برلمان، أو عضو نقابة الهيئة، أو توليه لسكرتارية نقابة شركة ماركوني وسكرتارية اللجنة التحضيرية لاتحاد النقابات وهكذا، ولكن إعجاب أصلان كان منطلقاً من أن أحمد طه لديه ثقافة واسعة وعميقة، وكان يقرأ الأدب، وهذا كان مثيراً جداً بالنسبة له، حيث أن كل المنشغلين بالعمل النقابي والسياسي العام، كانت علاقاتهم بالأدب «خربانة» حسب تعبير أصلان، وكان إبراهيم يشيد بأحمد طه لأنه دخل باب التأليف، وأصدر كتاباً كان يراه مهماً عن المرأة وكفاحها وعملها.
كانت الزيارات المتواترة التي حظي بها شعبان في غرفة أصلان بالدور الرابع من «عمارة الأوتو» على مدى شهور طويلة، قبل أن يغادر المكان إلى آخر، وقبل أن يدخل في سلسلة غيابات وانتدابات، قد تركت الأثر العميق الذي لا يُنسى، «ذلك الأثر ظل يمدني بالمحبة العامرة، حتى الساعات الأخيرة في حياته».
وهنا فوجئنا بسيدتين أمامنا من زمن قديم، ووجه شعبان يوسف سؤاله إلى إحداهما: «تعرفي فين قهوة فينيكس؟»، فأشارت إلى تقاطع شارعي سليمان الحلبي مع عماد الدين، وقالت: «في وش سينما كوزموس، بس دي قفلوها دلوقتي»، شكرناها لكنها استوقفتنا: «مش دي بتاعة الممثلين والأدباتية؟!».
لم نقض وقتاً طويلاً أمام أبواب فينيكس المهجورة، سرعان ما استأنفنا الطريق، طريق العودة، وعند سنترال رمسيس افترقنا، وفي رأسي صور تسطع بارقة بملامح من وجه سعيد عامر، ومن بشاشة مصطفى سليمان، ومن الممرات والطرقات المليئة بأنفاس الماضي، وفي أذنيّ وشيش من كل شيء: كان كريماً لا عن غنى، بل عن كبرياء. ليكن دائماً أصيلاً وصادقاً. يفر من الكاميرا كأن فيها عفريتاً. كالزجاج الرقيق قد يخدشه أي شيء. كان دقيقاً للغاية، أعرف أن دقته تحمينا جميعاً. وأميز وسط كل ذلك صوتا أعرفه: يا ناثانيل، أوصيك بالدقة لا بالوضوح.
وأتمتم: أنا أيضا أعرف هذا، أعرف أن دقته كانت تحمينا جميعاً، ولم تزل.
مقهى فينيكس مغلقاً.. هنا كان يجلس إبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبدالله وشعبان يوسف وآخرون