عالَمٌ ينتمي إلى نفسِه ولا يشبه شيئًا آخَر، بمكوناتٍ واقعيةٍ جدًا من جدران وشوارع ومحطات قطارات وكباري ينشئ عبد العاطي مدينةً خيالية يغلفُها بضبابٍ من الخيال وفضاءٍ من الهيولي الذي يكادُ يطابقُ رحِمًا يلتفّ على جنين.
في مجموعةٍ من سبعة عشر قصةً نقفُ مع أبطالِها على الحافة، الأنبياءُ يقفون على حافة النبوة لا تكتملُ معجزاتُهم ولا تتأكد هويتُهم لكنهم يغوصون مثلَنا في النسيان الأكيد، والعقلاءُ يقفون على حافة الجنون لا يلجونه فيستريحون ولا يخلفونه وراءَهم ويكتفون بما هم فيه، والقتلة حتى القتلة نقفُ على حافةِ إدانتِهم حتى وهم معروفون كالشمس في وضح النهار، كل شيءٍ في عالَم عبد العاطي غير مكتمل، سعادةٌ وقتية وحبٌ جارح وحياةٌ محقونةٌ بالموت ومعرفة ناقصة وبطولة مرتعشة وحقائق ضبابية حتى الخيال مقيَّدٌ باضطرابات خالقيه.
تبدأ المجموعةُ بسجنٍ جماعيّ وتنتهي بحبسٍ انفراديّ،
في قصة “العمى” نكتشفُ مع البطل أن زملاءَه في السجن عميان مثله لكنهم لا يكفون عن وصفِه بالعمى ولا يسعون إلى معرفة اسمه ولا التفاعل معه إلا في نطاق الظلمة التي تسكنهم ويسكنونها، “وهُيئ لي في تلك اللحظة أن العمى هو أجَلّ الأحداث، وقدرتُ حينها أنه يحيل ارتعاشة الجفون إلى دقات ساعة رتيبة، ويتيح للمرء اختبار الموت والحياة في جسد واحد” عميان يبحثون عن لمسة ضوءٍ فوق وجوهِهم ويتشاجرون معًا على حياةٍ كالموت بينما يقفُ السجانُ على بعدٍ لا يعنينا فربما كان واحدًا منهم يتلمسُ الضوءَ مثلهم، وكل ما يميزه أنه يقفُ في الناحيةِ الأخرى من الباب.
هكذا دخل بنا الكاتبُ الشابّ إلى عالَمِه القصصيّ، ليلطمنا اللطمةَ الثانية في “عصا موسى” حيث نبيٌ بلا معجزة يقفُ على كوبري يدعو أتباعَه لعبور النهر فتصحبُه جماعةٌ لا نشُكُ في غرقهم إلا حين يقدسُ الواقفون على الكوبري رحلتَهم وينسجون حولها الأساطير التي تجعلُ من عصا الرجل مزارًا يُعبَد، وفي عالَمٍ كهذا ترتدي الخرافةُ فيه رداءَ المعجزة يبقى العقلُ والمنطقُ طفلًا صغيرًا يصرخ في الفراغ فلا يلقى إلا العقاب ممن يرجو إنقاذَهم، “تراجع الناس إلى الوراء، يترقبون فناء ذلك الصغير الذي أطلقوا عليه أصواتهم بالنفير:
–اقتلوا الكافر، اقتلوا الكافر! ”
ربما كانت القصةُ قاسيةً في الحكم على طبيعة الإيمان وأهميته! ربما لكننا نمضي في صفحات المجموعة ليقفزَ تساؤلُنا المُلِحّ: وما ضيرُ التقديس؟ فتجيبُنا “بروج مشيدة” إجابتَها الأيقونية عن القتلةِ الذين يختبئون من جرائمهم في بروج المقدَّس فيستحيلُ وضعُهم موضعَ المحاكمة أو المساءلة حتى، لأنهم ينطقون اللغةَ الإلهية.
ثم يتوالد الفن والجمال في”روثيكا والمندولين” ليتحول الصديق الخيالي عازف المندولين إلى قطعة من الذات تفنى وتتجددُ انتقالًا بين الأحلام والرؤى لتحارب القبح والشر مهما كانت قوتهما وتنفث في روع العالَم سكينةً وسلاما، ليبقى الإبداع والحرية هما الفرصة الوحيدة للنجاة من السجن الكبير الذي نعيشه في”صفائح الطين” وبتناصٍ رقيقٍ مع أسطورة بجماليون، تصنعُ البنتُ السجينةُ ملائكةً من الطين تؤنسُ وحدتَها وتحميها من قدَرِها الغاشم الذي جرَّه عليها التساؤلُ ورغبة المعرفة، ليتحول السجنُ العقابُ إلى سماءٍ واسعة تحملُ أجنحةَ زينب وتبهرُ الأمَّ التي “تتساءل: من أين لتلك التي لم تر النور، كل هذه القوة والتحمل؟ وذلك النحت الدقيق لأجساد رجولية مثيرة“.
“حين يهادن الموت” ويُبعثُ الموتى ليعيدوا ترتيب الحياة خلفَهم وحين يحدث ” انشطار الطير” لكن المعجزة لا تكتمل وحين يتحولُ المشفى إلى سجنٍ في” شمس بعيدة.. وقبلة”، فنحنُ أمام قلمٍ ذي رؤيةٍ فريدة وكاتبٍ التجريبَ والخيال لتبقى هذه المجموعة مليئةً بالتساؤلات والمعالجاتِ الأدبية التي تستحقّ الوقوفَ عليها ومناقشتَها بجديةٍ تليقُ بما تطرحه وما تفجرُه في عالَمِها الثريّ ولغتِها الأخاذة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري