إبراهيم سلامة
السابعة صباحاً على محطة مترو الإنفاق، ظللت أتلفت يميناً ويساراً حتى وجدتها.
لأول مرة أراها، “فاتن” متوسطة الطول قمحية البشرة، جميلة المحيا، ذات شعر أسود خرّوبى، بعض خصلاته مسترسلة بدلال على وجهها كستارة مفتوحة على نافذة تاركة مجالاً بينها لعيونها السود لتطل منها، تلف رقبتها بإيشارب متناسق الألوان مع بلوزتها المبهجة..
تقف بشنطتها الكبيرة ككل الموظفات مثلى، المكدسة بأشياء كثيرة ململمة من أرجاء شقتها، أشياء من المطبخ مثل سندوتشات الفطار، وتلقيمة الشاى والسكر مع عبوتين من البسكويت لزوم الشاى، أشياء أخرى من ادراج تسريحتها، إصبع الروچ وفرشة الشعر والمرآة، وروافع أخرى من هنا وهناك..
ظهرها ذا انحناءة خفيفة، تحت وطأة شنطتها الكبيرة، واقفة على ساقين مشدودتين على قدمين مكسوتين بحذاء رياضى أحمر، و فى محاولة لإخفاء اكتناز أسفل خصرها ببنطلون ضيق ليصلح ويشد قليلا من ارتخاء وترهل تلك البطن التى حملت عدة مرات، واضعة بعض المساحيق على وجهها المستدير والذى قد أرهقته من كثرة نزع هذه الشعيرات الخفيفة تحت أنفها وذقنها.. تضع عطراً خفيفاً منعشاً كأجمل ما لمسته فى مظهرها..
المحطة مزدحمة بكل أطياف البشر الغادين إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم..
بعد أن استطعت أن أجد مكاناً داخل المترو بجوار فاتن، بدأنا التعارف عندما تقدمت كل منا للأخرى كعادة السيدات بشكوى من متاعب الحياة فى العمل والبيت والشارع، قطعنا أكثر من نصف الطريق فى أحاديث الساعة والغلاء وغيرها من أحاديث تشغل بال الناس.. بادرتها أنا بالسؤال،
– خلصنا نص الطريق، اتكلمنا ف كل حاجة وما عرفتش اسمك..
ردت كمن يُملى بياناته على موظف السجل المدني :
– فاتن، أخصائية اجتماعية فى مدرسة الزيتون الخاصة
– وأنا رانيا، موظفة ببنك مصر، انتى متجوّزة ؟
– أيوه، وعندى “آلاء” و”دينا” و “سالمة”، وسالمة بقى هى بنتى الكبيرة 9 سنين ولكنها زى أمى شايلة المسئولية، وانتى؟
قلت لها، وكنت لا اريد أن أخبر احداً بحالى :
– ربنا يخلّيلك بناتك، أنا مُطَلقة وعندى “عز ” ثلاث سنين..
– الموضوع بقى مشَوّق ومحتاج شلتة هههه، احنا لازم نتقابل تانى
– انتى بتكونى على المحطة فى نفس الميعاد كل يوم ؟
قالت فاتن وهى تضحك :
– طبعاً ماعدا أيّام الاجازات هههه..
لمست خفة دم فاتن وروحها، وسرعة بديهتها، كما لاحظت أنها شخصية اجتماعية..
أخذت طريقى سريعاً إلى البنك فى وسط المدينة، عندما اتصل بى طارق قائلاً انه منتظرنى عند كافيه الأمريكين ناصية شارع سليمان باشا، وكنت على بعد خطوات منه فى ذلك الحين
– انا قرٌبت منك خلاص، بس أنا متأخرة على الشغل..
جاءنى صوته من الجهة الأخرى مؤكداً لى أنه لن يعطلنى بل سيرافقني سيراً حتى البنك..
تعارفنا أنا و طارق منذ ثلاثة شهور أو أكثر وكانت البداية عندما حضر للبنك للسؤال عن كيفية فتح حساب وعمل فيزا كارت، على مشارف الأربعينات من عمره، طويل القامة نسبياً أسمر اللون يذكرنى بأحمد ذكى الممثل المشهور، يلبس الجينز، لديه شنب يذكّرنى بالفنان أحمد مظهر ولكن لا يشبهه، ربما ما شدنى اليه هذه التفاصيل، يعمل محاسبا فى إدارة أحد المولات بوسط المدينة، وكان يتردد على البنك كثيراً، ومن هنا تعارفنا، بعدها تقابلنا فى احد المطاعم القريبة من البنك بالصدفة أول الأمر ثم أصبحنا نتقابل وكأننا نتواعد فكل منا يخرج من عمله فى نفس الميعاد لتناول الغداء..
تعودنا على رؤية بعضنا، ثم أصبحنا نتكلم فى أمورنا الشخصية، أو قل هو الذى تقدم أولاً بحكاياته عن أسرته عندما عرف أننى طُلقت بعد أن شب بينى وبين زوجى خلاف حول معاملة أمه لى وتدخلها الدائم فى حياتنا الزوجية، ما أدى إلى أن يفضل أمه على حياته وأسرته..
كانت حكايات طارق تدور حول زوجته النكدية ذات الطلبات الكثيرة التى لا تهتم ببيتها ولا حتى بنفسها، دائماً منكوشة الشعر، ردودها مستفزة دائماً.. دائمة المشاجرة والخلاف حول مصاريف البيت، دائماً ما تفوح رائحة البصل والثوم منها ومن ملابسها.. وأشياء أخرى تافهة، ودائمة الغضب عند أهلها وشكواها لهم لأتفه الأمور، ما جعله لا يحتمل العيشة واللى عايشينها..
مقابلاتنا كانت فى إطار من الاحترام والجدية.. وان كان فى بعض الأوقات تضفى على جلساتنا بعض الرومانسية وكان هو المبادر دائماً بالحديث الرومانسي..
قابلت طارق عند كافيه الأمريكين.. وأثناء سيرنا فى طريقنا لأشغالنا..
– صباح الخير يا طارق، فيه حاجة؟
– صباح الخير يا رانيا.. هو لازم يكون فيه حاجة؟ إحنا بقالنا يومين أجازة ما شوفناش بعض.. واحشانى يا قلبى..
حركت الكلمة خلجات قلبى وخفق بشدة خاصة أنها المرة الأولى التى أسمعها من طارق، أو أسمعها من رجل.. سنة مضت بى لم يلمسنى أحد أثنائها منذ تركنى حاتم، حرك المياه الراكدة، والحياة الرتيبة، توترت قليلاً قبل أن اجيب
– وايه الحاجة اللى عشانها مش قادر تنتظر لغاية مانتقابل فى ساعة الراحة ؟
– أنا عايز أقابل بابا النهاردة عشان اتقدملك
توقفت عن السير.. و التفت له قائلة
– النهاردة؟ ازاى؟
– ايه المشكلة
– لازم أرتب الموضوع و أمهد له مع بابا، أنا مش بنت لسة اول مرة، أنا مطلقة وده لازم أمهد له كويس
– اوكيه.. شوفى ميعاد، بس قريب..
– ماشى.. هاشوف..
ثم مضى كل منا فى طريقه..
طلبه لم يكن مفاجئاً لى ولكن التوقيت هو الذي فاجأنى.. لو أن هذه هى المرة الأولى التى يتقدم فيها إنسان لى ربما نظرتى للأمر قد تختلف، ولكنى منحت نفسى مساحة ووقت للتفكير حتى لا يتكرر سيناريو الزواج.. أميل لطارق عاطفياً، ولكنى عقلانية أكثر بعد أن دخلت تجربة الطلاق، فقد أصبحت بعض علاقاتى الأن تجعل صورة الماضي من حياتى اوضح وأظهرت ما كان بها من مواطن الخطأ والصواب..
فلأترك موضوع طارق جانباً الآن، فربما صداقتى بفاتن التى مضى على معرفتى بها حوالى الشهرين توحى لى بالقرار، أنا مستمتعة بهذه الصداقة فهى نموذح خاص بالمرأة البسيطة التى تمضى فى طريقها وتأخذ قرارها وتفكر على سجيتها..
وكأغلب ستات مصر عندما تنشأ بينهن صداقة فكل الأسرار والعلاقات تصبح فى العلن بدون خطوط حمراء.. كانت تحكى عن حياتها الخاصة ببساطة وخفة دم مبتسمة دائماً.. تحب زوجها، سعيدة بوظيفتها وحياتها الزوجية، هناك أوقات مرهقة كثيرة ممزوج بعضها بالسعادة وبعضها بالغضب او الحزن، كل خلافاتها مع زوجها أغلبها حول توافه الأمور التى تعانى منها كل البيوت، ولكنى استشفيت من كلامها أن زوجها لديه بعض التحفظات عل إنجاب البنات، وهذا ما عبرت عنه فاتن عندما كان زوجها يقول لها إن البنات نعمة، ولكنها تؤكد أنه كان فى حاجة إلى وَلَد و لا يظهر لها رغبته هذه، رغم أنه فى إحدى المرّات ألمحت حماتها برغبتها فى الولد حتى تحافظ على سلسال العيلة، ولم يكن زوجها يعلق على كلام أمه بالاعتراض أو الموافقة، متغاضياً عن كلامها، مراعياً لمشاعرها كما تعتقد، لذلك كانت تحبه..
كنت أقارن بين علاقة فاتن بزوجها من جهة، وكيف تحكى عنه باحترام، رغم كل شىء، وعلاقة زوجى حاتم بى من جهة اخرى، وكيف أنه دائماً ما يعطينى إحساساً بالنقص والدونية، يهيننى عندما أعترض أو أشكو من تصرفات والدته حيالى، فكثيراً ما تفرض عليَّ وصاية والتحكم فى تصرفاتى ونزع حريتى كإنسانة وزوجة، فى أكثر من مرة كانت تفرض عليَّ ملابس معينة اعتقاداً منها أنها تعجب زوجى، وترفض غيرها أكون قد اشترتها على ذوقى، وهكذا أشياء اخرى مثيلة كثيرة، حتى ظننت أنها من تزوجتنى..
ترك حديث فاتن فى قلبى بعض الراحة، جعلنى لا اندم كثيراً على طلاقى.. وإن كنت لم أتمن يوماً أن احمل لقب مطلقة.. ولكن..!
الآن وبعد ان اقتربْتُ من فاتن الجميلة الجدعة، أصبح زواجى من طارق مستحيلاً..
فقد كان هو ذاته زوجها المحترم الكداب.