كان جميع الأولاد في العمارة, حتى الأمهات يخافون الحاجَّة “مريم”، وحَزْمِها في التعامل مع الجميع، هى وحيدة أغلب الوقت، فزوجها يعمل فى مكان بعيد ربما، أو يضطره عمل للسفر، ولا يقضى معها غير أيام قليلة على فترات متباعدة.
نَسَجَ الجميع حولها الحكايات والقصص الخياليَّة, وحصلَتْ على ألقاب كثيرة، من بينها ” دراكيولا”، أطلقه عليها صديقنا “رضا”، الصبىّ الأكبر فى مجموعتنا الثلاثيَّة, وكان يسكن بالطابق الأول فوق شقتها تمامًا. اخترع “رضا” حولها قصصًا مرعبة, وأكَّد لنا أنها حقيقية، فهو يضع أذنه على أرضيَّة منزله ليتصنَّتَ عليها، وكثيرًا ما سمِعَ صراخ أولاد تُعذِّبهم، أو تأكلهم أحيانًا. تنخلعُ منّى روحي وأسأله: “تأكلهم؟”، فيؤكِّد لى بعينَين مرعوبتين: “نعم تأكلهم، أسمع صراخهم بنفسى، وأسنانها وهى تُقطِّع لحمهم”.
كنا نصدِّقه، أنا البنت، التى لم تتجاوز الثانية عشرة، وتحب القراءة، ويمكنها بسهولة أن تتخيَّل منظر الحاجَّة “مريم” وهى تأكل الأولاد، ومعي الولد الثانى، “عبد الله”، ابن الثالثة عشرة، الذى يُرحِّبُ بتصديق كل القصص الخياليَّة عن السيدة المتجهِّمَة، التي تطردنا بعيدًا عن ساحة اللعب، بنظرتها، وكلمتها الوحيدة: “معقول!”.
لكن أكثر ما كان يثير دهشتنا أنَّ الحاجَّة “مريم” لديها قطة فارسية جميلة جدًا، ورقيقة, فكيف تستطيع تلك القطة الرقيقة أن تعيش مع هذه “الدراكيولا”؟ الأغرب من ذلك، أنَّ “الدراكيولا” كانت تُدلِّلها, رأيناها من خلف باب البلكونة شبه المفتوح أغلب الوقت، وهى، لا أصدق عينيّ، نعم، تُدَلِّل قطتها.
حاول “رضا” أن يُغرينا بمحاولة التسلُّل إلى شقة الحاجة “مريم” من البلكونة, الأمر سهل، فهى تسكن الطابق الأرضى، يمكننا الوصول إليه، لا نحتاج غير أن يكون باب البلكونة مفتوحًا، وعندها يمكننا التعرُّف على أسرار “وحش العمارة” كما أسماها “عبدالله”، الولد الثاني في المجموعة الثلاثيَّة، لكن أنا، وبالمناسبة، اسمى “سوسن”، لم أُطْلِق عليها أىّ اسم، حتى الآن على الأقل.
اتفقنا على مراقبة الحاجَّة “مريم” وباب بلكونتها، وزَّعْنا أوقات المراقبة بيننا، وعندما تحين الفرصة، يُطلِقُ صاحب نوبة المراقبة صافرة معينَّة، نستخدمها فى استدعاء بعضنا بعضًا، ونتسلَّلُ إلى مخبأ “الوحش” مثلما يقول صديقىّ عنها.
وفى أحد الأيام سمِعْتُ الصافرة من نافذة شقتى بالطابق الثالث, ورأيتُ “رضا” و”عبد الله” يشيران إلىّ بالنزول، نزلْتُ على الفور، وفى الساحة الخلفيَّة للعمارة، عند الطابق الأرضى، شقة الحاجَّة “مريم”، أخبرنى “رضا” أنهما يراقبان الشقة منذ ساعتين، ولم يريا أثرًا للوحش، كما أن باب البلكونة مفتوح، والقطة المُدَلَّلَة لم تظهر، حتى أنهما اقتربا من سور البلكونة، ورأيا تلك الغرفة، التى ربما تكون غرفة نومها، مظلمة، والآن، هذه فرصتنا للتسلُّل, الحاجَّة “مريم” غير موجودة في الشقة.
اقتربَ الثلاثة من سور البلكونة، وساعدوا بعضهم بعضًا في تسلُّقه, حتى صاروا داخل البلكونة, لكن الخوف جعلهم ينتظرون قليلاً بمكانهم، ثم تسلَّلَ “رضا” إلى الشقة، وتَبِعَه “عبدالله”، و”سوسن”، وجدوا أنفسهم في صالة كبيرة تحتوي على مكتبة ضخمة تحتل ثلاثة جدران من الصالة, وهناك تماثيل أفريقية وهندية لأشخاص، وحيوانات وطيور مختلفة الأحجام والألوان، منتشرة في كل أركان القاعة على حوامل وطاولات, لوحات رائعة عجيبة، كبيرة، وصغيرة, نباتات وزهور صناعية متناثرة هنا وهناك، أحسَّ الأولاد بالذهول، كأنهم دخلوا عوالم ألف ليلة وليلة، التى قرأوا بعضها.
استلقَتْ “سوسن” على إحدى الأرائك الوثيرة, وأخذَتْ تتأمَّل المكتبة الضخمة بأرففها التي تحتضن كل أنواع الكتب, وأحسَّتْ كأنها في الجنة, فهذا ما كانت تحلم به كل الوقت, أن تعيش قرب مكتبة وتماثيل ولوحات بهذا الجمال, القراءة كانت حبها الكبير, اعتقدَتْ وهي تنظر بعينين حالمتَين أنها لن تحتاج لأىّ مكان آخر في العالم.
لكنى استيقظْتُ من أحلامى سريعًا على صوت أعرفه جيدًا, صوت الحاجة “مريم”، كانت تُمسِكُ بى، وفى اللحظة نفسها كان “رضا”، و”عبد الله” يهربان من البلكونة.
“كيف تجرأتم على التسلُّل إلى بيتي؟ وما الذي كنتم تُخطِّطون له أيها الأشقياء؟ لقد غدَرَ بكِ أصدقاؤك أيتها الشقيَّة, وهربوا”، قالت لى “الحاجة “مريم”، تعلثَمْتُ أنا وبدأتُ بالبكاء, تأسفَّتُ لها، و…، لا أعرف، فلم أتوقَّع ذلك، على الأقلّ ليس بهذه السرعة، تغيَّرتْ ملامح الحاجة “مريم”، صارت طيِّبَة، قالت لى بصوت به وعد وتحذير: “كُفّى عن البكاء، وأخبريني فقط ماذا كنتم تريدون, وسوف أسامحك وأدعكِ تذهبين, هذا وعد”، لم أتخلَّص من خوفى كله بعد، غالَبْتُ دموعها وبدأتُ أُتمتمُ بصوت باك: “كنا.. كنا نريد أن نعرف كيف يكون شكل البيت الذي تسكنينه, لأنك لوحدك أغلب الوقت, ولم يدخل أىّ شخص من العمارة أبدًا إلى منزلك ولو مرة واحدة، أنا آسفة، هذا ليس من حقِّنا, لكن الفضول قتلنا لنعرف عنك كل شيء, خصوصًا أننا نخاف منك كثيرًا”، مسَحْتُ حفنة كبيرة من دموعى وقلت: “أنا قلت الحقيقة، لأنكِ وعدتني أن تسامحيني وتتركينى أذهب”، وفاجأتنى الحاجة “مريم” مرة أخرى وهى تقول لى بصوت حنون: “لا تخافي يا صغيرة, سأدعكِ تذهبين, ولكن يجب أن أُكرمك أولاً بسبب صراحتك الكبيرة معي, ولسببٍ آخر أيضًا”، صدَّقتُها، واطمأنَنْتُ لها، قلت: “ما هو حاجة مريم؟ في الحقيقة أحسُّ وكأني أتكلم مع شخص آخر, لأنني أول مرة أسمع صوتكِ بهذه الرقة والجمال”، قالت الحاجة “مريم”: “رأيتك كيف كنت تنظرين إلى الكتب بحب وطريقة لم أرها في طفل، أو حتى شخص أعرفه، كما أنني لاحظتُك أغلب الأوقات وأنت جالسة فى ركن من الساحة وبيدك كتاب تقرأين فيه، أنتِ فتاة مميزة”، قالتها الحاجة “مريم” وابتسمَتْ، وكانت ابتسامتها جميلة، لماذا تُخبِّئ كل هذا الجمال، فرِحْتُ وابتسمْتُ لها، قلت: “هذا صحيح، أنا أعشق القراءة, لكني لا أجد كتبًا لأقرأها مثلما أتمنى”، قالت الحاجة “مريم”: “سأعطيكِ كتاب كل إسبوع لتقرأيه، وعندما تُعيدينه إلىّ نتناقش فيه معًا، وفى نهاية كل شهر أعطيك كتابًا هدية منى، اتفقنا؟”، ردَدْتُ بسعادة: “اتفقنا”، قالت الحاجة “مريم”: “والآن، قبل أن تذهبى، سنبدأ صداقتنا بتناول الحلوى التي أعدَدْتُها اليوم بنفسى, وفي كل إسبوع سوف أُعدُّ لك حلوى جديدة وأختار كتابًا جديدًا لتقرأيه”، مسَحَتْ الحاجة “مريم” على رأسى، وابتسَمَتْ ابتسامتها الجميلة وقالت: “سوف نصبح صديقتين، يا سوسن”، ابتسَمْتُ وقلت: “أنتِ تعرفين اسمى أيضًا”، قالت: “طبعًا، وسأعرف عنك وتعرفين عنى أشياء أخرى فى المرات القادمة”، نظرْتُ فى عينيها بعمق وقلت: “غير معقول! أنتِ امرأة مذهلة حاجة “مريم”، أكاد لا أصدِّق أنك أنتِ نفسك مَنْ كنا نهرب منك عندما تقولين لنا كلمتك الوحيدة: معقول!”.
ضحكَتْ الحاجة “مريم”، وقالت كلمتها الأثيرة من جديد، لكن بطريقة مختلفة هذه المرة: “معقول!”.