عبد اللطيف النيلة
هو الآن في أمس الحاجة إلى فنجان قهوة سوداء ومُرة. وجّه إليها الكلام بنبرة استعلاء:
– أعدي لي قهوة!
لم تتزحزح عن مكانها على الأريكة، فقط بقيت تسدد إليه نظرة عذبة حانية دون أن ترمش عيناها. قام متأففا، وقذفها بسؤال موبّخ:
– ومتى لبّيت لي طلبا؟
لم تغادر صمتها، فيما سار في طريقه إلى المطبخ مواصلا شكواه:
– كل صباح أستيقظ فلا أقطع استمتاعك بدفء الفراش، وأعوّل على نفسي في إعداد فطوري، بل إني أفطر وحدي. وحين أصعد الدرج، عائدا من الشغل، لا تتسلل إلى خياشيمي رائحة الطبيخ، ولا تهرولين إلى الباب لاستقبالي. أجدني دائما مضطرا إلى تلفيق وجبة أخرس بها جوعي. لم تسعفيني قط حتى بشربة ماء…
راح مسحوق البن ينضج في ماء الركوة شيئا فشيئا، بينما كان هو يحدق بشرود في ألسنة النار المتوهجة بالأزرق والأصفر والأحمر.. اختطف الركوة في آخر لحظة قبل أن تفيض القهوة.. وحمل فنجانه راجعا إلى الأريكة، بالقرب منها. قال لها ساخرا:
– عفوا إن لم أصنع لك فنجانا، أعرف أنك لا تستسيغين القهوة!
ولما لم تتلفظ بكلمة، عقب:
– تستكثرين عليّ حتى الرد!
كان وجهها ما يزال مشرقا بتلك النظرة العذبة الحانية. فجأة سألها كأنما لينتقم لكبريائه:
– كيف تودين أن تموتي؟
لم يسمع جوابا، فهزها من كتفيها مكررا سؤاله. إلا أنها لم تمل من رشقه بنظرتها تلك. صرخ:
– توقفي عن النظر إليّ على هذا النحو!
خيّل إليه أنها رمشت بعينيها وتوشك أن تفتح شفتيها للرد عليه، إلا أن أمله خاب؛ واصلت تحديها له بتينك العينين الساحرتين الصارختين عذوبة وحنوا. هز رأسه متوعدا:
– طيب! سنرى ما سينتهي إليه تحديك هذا، سأختار لك الطريقة الأفضل!
على رشفات القهوة أخذ يفكر بصوت عال: هل أطعن قلبك بخنجر، أم أدس لك سما في عصير برتقال؟ أريد أن أذيقك مرارة الموت، أن تتجرعي أكبر قدر من العذاب. هل أشنقك إذن؟ مُذ صحبتك معي إلى البيت شرعت حياتي تنقلب رأسا على عقب.. انخفضت وتيرة ارتيادي للمقهى، وتباعدت زياراتي لأهلي، وأصبحت أمضي وقتا أطول في البيت. رويدا رويدا أخذت أنشد إليك حتى لم أعد أحتمل إهدار دقيقة واحدة خارج البيت، أوقات العمل نفسها صارت تثقل كاهلي!.. كيف بلغت فتنتك هذا الحد؟ كيف تسنى لك أن تحوليني إلى مهووس لا يشبع من قربك؟
لم تعبأ بالرد عليه، فانفجر غضبا وصاح في وجهها:
– معك أتحدث، هل سمعت؟ لا تدعيني أتكلم مع نفسي مثل أحمق! ابصقي في وجهي ولو شتيمة!
كانت تصوب إليه نفس النظرة العذبة الحانية، فبدت كما لو أنها تسخر منه، غير أنها لا تسخر بطريقة عادية يمكن احتمالها، بل كانت تصوب إليه طلقات سخرية قاتلة. لم يتمالك أعصابه فصفعها صفعا قويا حتى ترنحت، لكنها لم تغير نظرتها، وإن انطبعت أصابع يديه على بشرة خديها الناعمة.حدق إليها بعينين زائغتين واجتاحته نوبة ضحك…
وعندما التقط أنفاسه، رأى بعين ذاكرته المرة الأولى التي أحضر فيها ميساء إلى البيت وهو يتعرق خجلا. لقد جاء بها ليلا في سيارته الصغيرة المتقادمة.. بعد منتصف الليل بقليل.. لم يكن يرغب في أن تقع عليها عيون الجيران، خصوصا ذلك البقال الذي لا تفلت منه كبيرة ولا صغيرة، ولحسن حظه أن العمارة كانت من غير حارس.. ولم يتنفس الصعداء إلا عندما أوصد باب الشقة.. أزال عنها اللحاف، وسحبها خلفه إلى غرفة نومه.. فوق سريره نظر إليها بعينين تلتمعان بالرغبة.. بدأ بوجهها الذي كان نسخة طبق الأصل من وجه تلك الممثلة، النجمة التي تعلق بها قلبه طويلا، وراسلها عبر البريد الإلكتروني، فكانت تبعث إليه عبارات المجاملة مثله مثل آلاف المعجبين بها.. صاح في زهو وهو يحملق في عينيها الساحرتين بالرموش الطويلة: الآن مضى عهد الحرمان!.. ثم مرر نظرات شبقة على الجسد باكتنازاته واستداراته النابضة إغراء.. أسعده أنها طوع يمينه، لا تجابهه باعتراض ولا صد ولا تمنع.. صاح مرة أخرى: بشبهك الكبير بنجمتي، وبشرتك الناعمة، وطيبتك المثالية.. ألست بسائر هذه المزايا أفضل منها؟
عاد من الذكرى، وقال في حنق:
– حسبتك بسذاجة ميساء قلبي العصية على الوصال فخذلتني!
هب واقفا وقد احتقن صدره حنقا، وانقض على عنقها بيديه معا. انثالت على رأسه صور من الماضي، فيما هو يضغط، بقوة، على العنق الغض: هو يفتح خزانة الثياب، ينتقي كل يوم فستانا، يُلبسها إياه، ويترك نفسه تلتذ بمظهرها الأنيق.. هو يشاهد صحبتها أفلاما وبرامج، يراقصها، ويقاسمها متع السرير!.. هو يحدثها عن أحلامه، يشكو إليها همومه، ويبوح لها بأسراره.. هي تشذو له بصوت نجمته الأثيرة ميساء.. هو يسجل، في كل مرة، تفصيلا مختلَقا من تفاصيل حياتها، ثم يضغط على زر بظهرها، فتحرك شفتيها المكتنزتين مكررة على مسمعه، بصوت شهي الأنوثة، ما فرغ من تسجيله.. هو يضجر من شحن بطاريتها، وهي تستلقي على السرير جثة من لدائن.. وبينما راح يضغط على عنقها أعنف فأعنف، كانت تصوب نحوه تلك النظرة الحانية العذبة…