اليوم جمعة

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

قال الحاج:
– اليوم جمعة، مبارك..
وانصرف.
كان صهد البخار في الأنابيب يؤجج الدماء في أوردتنا، وحبات العرق لا تلبث أن تجف بمجرد خروجها، وتترك وجوهنا تحت ملحها خرائطَ مشوهة. رحتُ أتحرك أمام الماكينة كالبهلوان، يد فوقها تدفع بالعجينة-الكاوتش-بين “الدرافيل”، والأخرى تتلقاها فتعيدها.
فحيح البخار يبتلع زفراتنا المحمومة، الصدور تعلو وتهبط، والمكبس يعلو فتمتد الأيدى لاستخراج ألواح الكاوتش الملتهبة. تنتفخ الأوداج حين يهبط المكبس، وفحيح البخار يبتلع صوت الزفرات المكتومة، وفي العتمة تلمع حبات العيون. انحنيتُ لأسهل سير العجينة، شعرتُ بقرصة خفيفة في أصابعي، لم أبال. ثمة آلام حادة في ذراعي، ألقيتُ نظرة سريعة، لم أصدق.. إصبع بلا إظفر! والثانية متشبثة بإظفرها! والأخريان مهترئتان!
تركتُ الماكينة تعوي. بصري يترنح بين زملائي وبين أصابعي. تقاطعت خطوط البصر من كل الاتجاهات مع الجرح النازف. امتدت الأيدي في العتمة، بضغطة واحدة أوقفوا المكبس، وبأخرى أوقفوا الماكينات. التفوا حولي، عيونهم مركزة على الجراح الطازجة. العتمة تسحب الأنفاس ولا تردها. ضرب أحدهم الماكينة بقدمه، بصق الآخر ناحية غرفة الحاج. راحت أصوات ما تتصاعد من صدورهم مع الدخان والرائحة المتصاعدين في العتمة.
جاء الحاج مهرولا. تسائل عن سبب توقف العمل. ابتلع السكون كل الأصوات، حتى صوت الفحيح الصادر من المكبس. تفرقوا من حولي. أحسستُ ببرودة وخدر يسريان في مفاصلي. نَظَرَ إلى إصبعى، زفر فى ضيق. تمتم: “ما هذا اليوم المنحوس؟”، ثم توجه إليهم صارخا:
– كل واحد يروح على شغله يا أولاد الـ..
بعد أن لعن أمهاتهم، اقترب مني. وضع يده على كتفي: كانت ثقيلة وباردة، ورائحة ما، ليست رائحة الكاوتش التي تعودناها، تنبعث من يده أو من عينيه، لا أدرى على وجه التحديد. شعرتُ بغثيان. همس ببروده المعهود:
– اربط إيدك.. وحاول تكمل الشغل.
…………………….
*(من مجموعة “خرابيش”)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور