الولد الذي استحال ديكًا
عاطف عبد العزيز
في بيتِ العائِلَةِ القدِيم، حبَا الطِّفلُ علَى أرضِيَّةِ الشُّرفَةِ، وذاقَ للمَرَّةِ الأُولَى ملُوحةَ البَلاطِ البارِد، بينما كانُوا يرفعُونَ فوقَ الأكتافِ سَيَّارةَ الزَّعيمِ، فَي السَّاحةِ الدِّمشقيَّةِ البَعِيدة.
تقولُ أمُّهُ إنَّها شَهِدتْ سَاعتَها الإلَهَ رَعّْ(15) وهو يتمطَّى فِي فضَاءِ الصَّالةِ طارِدًا بَقايَا النَّوم، تقولُ إنَّها تَوقَّفَتْ عَن خَرْطِ الملُوخيَّةِ الخَضْراء، ثُمَّ قامَتْ مِن أجلِ تَعلِيقِ مِنشفةٍ نظِيفةٍ جنبَ المغسَلة، أمَّا أبُوه فقد أشَاحَ بوجهِهِ وهو يُشعِلُ سِيجارتَهُ، ثُمَّ قالَ: «امرأةٌ مجنُونة».
طفولتُهُ إذن يا أصدِقاءُ، لم تكُن سَهْلةً بوصفِهِ شمَّاسًا نذرتْهُ أمُّهُ لمعبدِ إلَهٍ نَزِقٍ، مِثل رَعّْ، لا تعدُو معجزتُهُ القُصْوى أن تكُونَ التَّكرارَ المَحْض، ولم تَزِدْ عطايَاهُ فِي أيِّ وقتٍ عن هذا التَّأرجُحِ السَّاذجِ بينَ الحُضورِ والغِياب، رغمَ ذلك، فالدُّنيا ظلَّتْ حُلْوةً فِي عَيْنِه، ربَّما لأنَّها كانتْ ما تَزالُ فِي عُهْدةِ نادية لطفي وعبد الحليم، وقتَ كانَ العاشِقانِ الغافِلانِ في الفِيلمِ، يعدُوانِ عبرَ حقلٍ من الوَرْد، قبلَ اكتشافِهما أن بَطَلَ الرُّوَايةِ .. ابنٌ للحَرَام.
مِن هُنا تقريبًا بَدَأَ الشِّعْرُ، بَدَأَ الكَلامُ الذِي يَنمُو فِي قَلْبِ الكَلام، ثُمَّ راحَ يُراكمُ نَفسَهُ كحائِطٍ قُدَّ مِن فَرَاغ، أو لِنَقُلْ: حَائِط قُدَّ مِن كَثافَةِ اللّغْوِ، حيثُ لم يكُن لَهُ مِن دَوْرٍ في أيِّ وقتٍ، سُوى أن يَسنِدَ الحًنِينَ فِي رِحْلتِهِ الطَّويلَة.
كانَ عَلَى الفتى إذ ذَاك، أن يَحمِلَ قَصَائِدَهُ فِي خُرْجٍ، ويَدُورَ بِها مِن مَيْدَانِ الحِلمِيَّةِ، حَتَّى مَيْدَانِ النَّعامِ، وصُولًا إلَى صَعْب صالِح. وكانَ عَلَيهِ أن يَبْحَثَ عَن حَيِّزٍ يكفِي الكَائِنَ الذِي تَحَوَّرَ فَجْأةً بينَ أعطَافِهِ، فنَبَتَ لَهُ فِي اللّيلِ مِنْقارٌ، وتَفَتَّقَ جَنْبَاهُ عَن جَناحَيْنِ، ليصِيرَ -وَفْقَ المَجْرَيَاتِ- دَيْدَبانًا علَى بَوَّابَةٍ يَمُرُّ مِنها النَّهارُ قبلَما يَنشَغلُ ويُبَدِّلُ عاداتِهِ، كَذلكَ قبلَما تَنفَرِطُ الأيَّامُ كعِقْدٍ مِن الخَرَزِ المُلوَّن، وتُوزِّعُ نفسَها علَى الوُجُوهِ والأمْكِنَة.
يقولُونَ: فِي بَيْتِ العَائِلَةِ الآنَ، حائِطٌ تَهَدَّمَ مِن تلقاءِ نَفسِه، بينَما الحَقِيقةُ أنَّ الحائِطَ لم يَقْوَ علَى الصُّمودِ طَوِيلًا، بعدَ أن تخفَّفَ اللَّغوُ مِن كثَافَتِهِ. يقولُونَ أيضًا، إنَّ صِوَرًا ما تزالُ معلَّقةً هناكَ فِي الصَّــــــــــالةِ الكابِيَةِ لَم يطمِسْها الغُبارُ بعدُ: الزَّعِيمُ الذِي راحَ، الأمُّ التِي كـــانتْ تُكلِّمُ المَــــــوْتَى مِن وراءِ حِجَاب، الولَدُ الذِي باتَ يرفَعُ اسمَه بصُعُوبةٍ، وكأنَّهُ لافتةٌ تَتَدلَّى فَوْقَ سِدْرَةٍ ناشِفَة، ثُمَّ علَى مسَافَةٍ، صُورةٌ لِدِمَشقَ فِي رَيعَانِها، وهِيَ تَسْتلقِي بقَمِيصٍ شَفَّافٍ فَوْقَ الخَضَارِ المُشْمِس، قبلَ أن تُصبحَ صَحْنًا تَتَغوَّطُ فِيهِ الآلِهَة.
فِي بَيْتِ العَائِلةِ الآنَ يا أصدِقاءُ، تَتَطَوَّحُ رِيشَةٌ علَى بَلاطِ الشُّرفة، وتَبِينُ لَنا مِن بَعِيدٍ، مِثْلَ بُرهَانٍ علَى .. لا شَيْء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري
من ديوانه ـ برهان على لاشيءـ الصادر مؤخرًا عن روافد للنشر