د. أحمد فرحات
تحاول رواية جلاديولس للروائي د. طارق الزيات أن تنقل الواقع بحذافيره إلى القارئ والمتلقي. وذلك عن طريق ذكر التفاصيل وتفاصيل التفاصيل في مجريات الأحداث من خلال نسق سردي متميز في دقائقه وتفاصيله. يقدم الراوي نمطا سرديا منسابا وبطيئا معا، في سردية حوارية سينماتوغرافية لأنها كانت صحيحة وقريبة من الناحية الزمنية.
فكان الروائي وهو يكتب حواره بين شخصين يتجاذبان أطراف الحديث وهما يقطعان المسافة الفاصلة بين الرواق والمطعم كان يكتب والتصميم أمام عينه، فامتلاك الأشياء سابق على وجود الكلمات وهو عكس ما يحدث في الشعر حيث امتلاك الكلمات سابق على امتلاك الأشياء. كما ينص على ذلك أمبرتو إيكو[1]
يشعل أمبرتو إيكو أذهاننا عندما يقول إن المؤلف يشتغل تحت تأثير إلهام ما إذ لا يشكل الإلهام سوى 20% فقط، في حين يشكل المجهود المجهود 80%.. إن الحديث عن كيفية الكتابة لا يعني البرهنة على أن ما كتب هو شيء جيد، .. لذلك فقد يحدث أن يكتب مؤلفون مغمورون لا تأثير لأعمالهم أجمل الصفحات حول السيرورة التقنية إنهم يجيدون التفكير في سيرورتهم فقط. والسيرورة هي بناء سبك الأفكار والربط بينها من أجل الوصول إلى حكم عن موضوع معين[2].
تعد رواية جلاديولس اجتماعية واقعية بامتياز، تنهض على أسرة صغيرة، تعيش في حي الزمالك بقلب القاهرة، توفي الأب وترك لابنته الوحيدة ثروة طيبة، تغنيها عن سؤال الأعمام والعمات، وينشأ صراع الطمع والشر في البطلة داليا، وينجح الروائي في خلق صراع بين الخير والشر، حيث طمع الأقارب في ثروة ابنة أخيهم التي لم ينجب غيرها الأب.
وعبر سياقات سردية ينقل إلينا الراوي حوارات بين أفراد الأسرة الصغيرة، تتجلى فيه ملامح الشخصيات وأثر الأوصاف التي رسمها الراوي وحدد تخومها.
لم يكن لدى باهر القدرة على الرفض، ليس فقط لأنه مسلوب الإرادة أمامها، لكن أيضا لأنه يحب دائما أن يراها ، لم يكن يتصور أن يكون الفارق البسيط بينهما في العمر يعمي عينيها عن تعلقه بها، إنها لم تكن أخته، ولا يريدها أن تكون أخته، كم أسيء استخدام هذه الكلمة لوأد الحب في قلوب الكثير من المحبين، كحجة لتجاهل هؤلاء البائسين الذين لا يلقى حبهم قبولا عند الطرف الآخر، وهاهو ذا عليه أن يتعايش مع هذه الأخوة المفروضة عليه قسرا ولا يملك لها دفعا.
نلاحظ تدخل الراوي العليم ليصف المشاعر والأحاسيس للشخصيات وصفا مباشرا، أما في حوار باهر نفسه مع والدته فقد وظف الراوي ضمير المتكلم مباشرة،فقال:
من منا لا يتألم؟ الألم مصدره أسباب عديدة، كل الناس تتألم، أنت تتألمين، داليا تألمت بما فيه الكفاية، البيوت مقفلة على آلام كبيرة، الألم ليس هو المشكلة الكبرى، هل تعرفين ما هي أكبر المشاكل؟ أن تشعري بألمك ولا تشعري بألم الآخرين. هنا فقط يفقد المرء إنسانيته وتتمحور حياته حول نفسه، ويتحول إلى وحش قاس يعاقب الناس على آلامه بمحاولة إيلامهم وأحيانا بالسخرية من آلامهم ..
نلحظ هنا اختفاء الراوي العليم، وتحول الخطاب منه إلى الرؤية المصاحبة، لتعبر الشخصية عن مكنونها بحرية وطلاقة. وهنا يظهر الفارق بين الضمير الغائب وضمير المتكلم في الرؤية السردية.
يحاول الراوي أن يزرع قضاياه المؤسسة للرواية والمكونة لعناصرها من خلال ذكر التفاصيل الدقيقة لكل شخصية من شخصيات الرواية أو لكل مكان من أمكنة العمل المسرود.
تغدو التفصيلة حتمية في بناء الصورة الكلية للرواية وضروريّة، ولا يمكن تجاوزها أو حذفها أو القفز عليها؛ لأنّ غيابها يخلّ بناء الحكاية، وتتفكّك الأحداث، وينفرط عقدها، ولا تكون ثمّة مبرّرات قويّة لوجودها. فهي ممّا يمنح الحكاية التماسك ويسبغ عليها المعقوليّة. فإذا كانت التفاصيل الموظّفة للإخبار عن العالم المرويّ والإيهام بالواقع من التفاصيل الثانويّة (المتمّمات والمبلّغات بلغة رولان بارت)، فإنّنا يمكن أن ندرج التفاصيل التي توظّف توظيفا سرديّا في التفاصيل الأساسيّة في الرواية.
تأمل مشهد داليا وهي تقدم استقالتها للدكتور زاهر، أو مشهد داليا وأحمد وهما يستخرجان التوكيل من نادي الجزيرة. ففي كلا المشهدين كأنك تطالع صورا متحركة في فيلم سينمائي على شكل السينماتوغرفيا وهي تغطي ما في الفيلم من أمور تتعلق بوسائل التعبير الخاصة الصورة المتحركة، كما تغطي من جهة أخرى ما يتأتى للجانب الاجتماعي أو التقني أو الصناعي[3]، ويمكن وصفها بأنها عملية تجسيد المحسوس أو المجرد للمادة المصورة فيلمًا، وهي الصورة المتحركة المشتملة على مجموعةٍ من المكونات البصرية والسمعية للفيلم وتكون غالبًا في حالة مستمرة من الحركة مما يولّد تأثيرًا أكبر في المتلقي[4] .
وهذا مشهد أحمد وداليا في ناي الجزيرة:
أحضر أحمد القهوة ووضعها على الطاولة، وجلس في مواجهة داليا، التي شكرته ورشفت رشفة من القهوة، وعندما وضعت الكوب الورقي أمامها، لمحت بقعة من الروج الأحمر على الكوب من محل ارتشافها. قليلا فارتبكت…
فالمشهد كما ترى هو مشهد سينماتوغرافيا متحرك، كأنه مشهد من فيلم سينمائي. لعبت التفاصيل فيه دورا مهما في خلق المشهد برمته.
والملاحظ أنّ الراوي في تفصيله فإنّه غالبا ما يجعل من المشهد التفصيليّ قائما على بؤرة مركزيّة تتشكّل من تفصيلة صغرى تنتهي إليها العمليّة التفصيليّة برمّتها وتقف عندها.
ومن خلال تدفق التفاصيل الصغرى نشعر بل ندرك أهمية العنوان الذي يتردد ذكره في ثنايا العمل برمته، فعلى الرغم من كونه دالا على السعادة والبشر والحبور وانشراح الصدر فإنه كان يجيء محملا بدلالات نفسية قاسية دالة على ضيق الصدر والألم ، وأحيانا كان الجلاديولس يمرض كمرض الإنسان ويتألم لألمه..
ظل (أحمد) يمشي ببطء وذهب إلى فازة الورد، وقال لداليا:
لقد ذبلت الزهور، سوف أمر غدا وأشتري زهورا أخرى.
لم تذبل، بل نسيت أن أبدل الماء سوف أبدل لها الماء وسوف تعود إليها نضرتها..
كما حذر فكري عارف ناصر ألا يشتري باقة ورد جلاديولس مرة أخرى؛ لأنها تحمل معنى الذكرى لحب داليا، فلربما يكون في ضميره شيء من ذكرى حبه لها. وهي قد أصبحت زوجة. وغير ذلك من المواقف التي تحمل دلالات الحنين والذكرى لداليا. فلم يشأ الراوي أن ينقل إلينا الحدث مجملا بل رأى أن يفصل فيه ويدقق في رصد التفاصيل الصغرى التي يتشكل منها السرد مركزا على ما يطلق عليه رولان بارت “الوظائف الثانوية” مما يمكن أن تنهض به أبطال الرواية فبدا المشهد خاليا من الفراغات الزمنية مشبعا بالتفاصيل[5].
وهناك العديد من المواقف التي فصل فيها الراوي الحدث تفصيلا دقيقا خاصة فيما يخص داليا وعمتها وهي تعدد لها أطقم السرير والأكواب وما تحتاجة إليه العروس قبل زفافها. أو ما يفرده الراوي من تفاصيل الأطعمة والمأكولات والمشروبات والعصائر في الأماكن العامة أو داخل البيوت. ولذا تنوعت الأطعمة والسلطات وأطباق المعكرونة والكباب والكفتة والفول والطعمية.. داخل النسيج الروائي.
كما عالجت الرواية علاقات أسرية عامة وخاصة فيما يتعلق بثنائية الانفصال والاتصال أو القرب والبعد بين أفراد الأسرة وشملت علاقة التقارب علاقات الحب والزواج والصداقة، حيث تزوجت أميرة وباهر وناصر ومنال . وازدات أواصر الصداقة بين ناصر وفكري عارف وشلة المثقفين المفلسين ..
أما علاقة الانفصال فقد تمثلت في علاقة العم بابنة أخيه، أو علاقة الخصام والقلق بين الأزواج، أو طلاق عشيقة أحد المثقفين المفلسين أو موت والد داليا ومن قبل والدتها..وما عساه أن يتسبب من مشاكل جوهرية أو سطحية إيجابا أو سلبا على حياة الشخصيات ومراحلها وأطوارها . وقد تجسد هذا من خلال نموذج أسري انتقاه الراوي وشكله بالسرد وجعل محوره البطلة (داليا).
وثمة تصريح واضح من الراوي بأن اختيار الأسماء فيه دلالة على المسمى، فكانت أميرة مثلا اسما على مسمى”خرجت أميرة من غرفتها، كان لها حظ من اسمها، أميرة حقا..” وهناك فكري عارف المثقف اسم على مسمى، فهو عارف ومفكر، وهناك سم منير، اسم على مسمى أيضا. وهذا يدل على أن المؤلف انتقى الأسماء انتقاء محترف.
اختتم الراوي أحداث سرده بنهاية سعيدة عكس ما ابتدأت به، فإذا كانت بداية الأحداث بداية حزينة: موت وعزاء وجرح في وجه البطلة وطمع الأهل في ثروة البطلة دون شفقة أو رحمة فإن النهاية جاءت خلوا من علاج الطمع والجشع والحقد الذي تملك قلوب بعض الأهل سوى بعض التقريع والنصح إليهم من قبل شخصيات تتعايش معهم، وهذا يشي بأن الطمع والشر لا ينتهيان فهما قرينا الخير دائما. ويدل على انفتاح النهاية على احتمالات متعددة فهل ينجح البطل في تقليد منصب مرموق في المحاماة؟ أما البطلة فقد استقالت من وظيفتها وتفرغت لرعاية أسرتها الصغيرة، دون أن ينوه الراوي على قدرة المرأة العاملة على الجمع بين العمل ورعاية الأسرة. فربما مال الراوي إلى ذا الرأي!
يبقى أن أشير إلى أن اللعبة السردية في الرواية بموضوعها الاجتماعي هي إحالة على الواقع المعيش بكل تمفصلاته وتموضوعاته الراهنة، فهي استعراض فني في المقام الأول، وأن اللعبة السردية تأتي في المقام الثاني، ولذا فقد احتجبت الذات الساردة عن المشهد الروائي وبدا بعيدا عن سير الأحداث وليس مشاركا في شيء من القرارات التي اتخذتها الشخصيات. ومن ثم فقد أبانت الشخصيات عن أفكارها بحرية تامة، حتى ليبدو لنا أن الرواية متعددة الأصوات، كل صوت يعبر عن ثقافته وفهمه للحياة.
………………………..
[1] أمبرتو إيكو، آليات الكتبابة السردية، ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، ط1، 2009م، ص 34.
[2] أمبرتو إيكو، آليات الكتابة السردية، ص 26-27.
[3] بتصرف: من معجم المصطلحات السينمائية، ماري تيزيز جورنو، تر: ميشيل ماري، ص19.
[4] انظر: عصر الصورة السلبيات والإيجابيات، ، د. شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة، الكويت، 2005م. ص273
[5] التفاصيل في الرواية الواقعية، أحمد الناوي بدري، مركز نقد وتنوير.مقاربات نقدية في التربية والمجتمع.