الوطن في الإبداع القصصي: “أول فيصل” لأشرف الصباغ

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شوقي عبد الحميد

[يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم] سورة النساء الآية 59. تلك الآية التي تُشهَر في وجه كل من فكر في الاعتراض على أي تصرف لأحد الرؤساء، على أي مستوى، من قبل التابعين والمؤيدين، فضلا عن رجال الدين، أدت إلى الاستكانة والنظر إلى الرؤساء بأنهم ظل الله على الأرض، فأصبح الخروج عليهم، عصيان لله ذاته. وإذا كان الشعب المصري، والعربي عامة، يؤمن بالله، إيمانا مطلقا دون نقاش، فقد جُبِلت تلك الشعوب بالاستكانة، وعدم الثورة على الحكام– إلا طمعا في الجلوس، ونيل تلك القدسية- ولذا لم نجد في مصر ثورات على الحكام إلا في العام 1952، ومحاولة لم تنجح، في العام 2011 حيث عاد كل شيء إلى سابقه. وامتد ذلك – في مصر- منذ العهد الملكي، وطوال العهد (الرئاسي) منذ 1952. وهو ما تشير إليه قصة “أول فيصل” للمبدع الساخر أشرف الصياغ في {والدي ظل مدينا بحياته لمصر ولرؤساء مصر جميعا حتى توفى في عام 2020 وهو في سن السابعة والتسعين} و{ولا يقل صحة عن أخي الأكبر الذي يصل عمره الآن إلى الثمانين ولديه أحفاد أحفاده}. إلا أن الصباغ لا يكتب التاريخ، وإنما يكتب القصة القصيرة، بكل فنياتها. حيث من تراب الأرض يصنع تمثال الرموز التى صنعت الكثير من الأحداث التى أصبحت تاريخا، وعلى وقائع الأرض المعيشة، ينسج خيوط قصصه، ويستخرج جوهر الإنسان فيها.

ففي السادس عشر من يوليو 2024. ظهر على شاشة كبيرة بشارع فيصل بالقاهرة. صور وعبارات مسيئة للرئيس المصري، سارعت قوات الأمن بالقبض على مرتكبها. وقد أحدثت هذه الواقعة ردود أفعال واسعة، فلم يكن لأشرف الصباغ أن يتركها تمر، دون أن يخترق الحاجز، ويقتحم دواخل الناس ليكشف بلغته الساخرة، ما استقر في باطن الناس، وما يترسب في باطن الواقعة، ويقتحم المسكوت عنه فيها، وهو الذي طاف كل شوارع القاهرة، بحثا عن دواخل الناس، ليحولها إلى عمل إبداعي. حيث تسير القصة للكشف عن الازدواجية في طبيعة الشعب العربي عامة، في أن له حياتين، إحداهما ظاهرة، والأخرى مخفية، يبحث عن متنفس لها ليظهرها للعلن. فضلا عن أنها تكشف عما يكمن في النفس من كبت للحرية، والسكوت، الذي يقبع فيه، ويُقعده عن الحركة. فرغم امتداد الزمن الذي تتناوله القصة، إلا أنها تنحصر في الذكرى، حيث يحكي السارد عن أشياء حدثت في الماضي (كانت أمي … ). كما أننا– كمعاصرين للحدث- نعلم أن القصة لها لب واحد لا يخرج عنه، ويؤخذ من العنوان (أول فيصل) حيث تعود الذاكرة إلى تلك الواقعة.  

وإذا ما أخذنا الفقرة الأولى في القصة {كانت أمي بالذات هي التي تقذف أخي الأكبر بالحذاء عندما يبدي أي اعتراض على أداء الحكومة أو يسخر من كلام سيادة الرئيس عندما يخطب في عيد العمال أو في عيد الفلاحين أو في يوم العاشر من رمضان من كل عام}. نجد أننا أمام رغبة في البوح تتمثل في {هي التي تقذف بالحذاء عندما يبدي اعتراضا) فالابن هنا، يمثل جيل الشباب الذي يبدي الاعتراض، والقوة الأخرى {كانت أمي بالذات) فالأم هي التي تمنع الاعتراض، أو تمنع المعارضة، ولم يستخدم الكاتب كلمة (بالذات) عشوائيا، ولكنه أتى بها للدلالة، وليوقع القارئ في التساؤل، فلماذا (هي بالذات)؟ هل لأنها توارثت الخوف عن الآباء والأجداد، فالخوف والصمت والتقاعس، أصبح شيئا متوارثا {وكلهم يحبون مصر وسيادة الرئيس مثل والدهم ووالدتهم وأجدادهم لأمهم ولأبيهم. إننا نعشقها أبا عن جد}؟ حتى لو كانت الغالبية تؤمن بما لا تُظهر، وما يؤكد الرجاء أو التمني الذي تقدمه القصة {ولو صادف وكانت هناك عشر أسر مثل أسرتنا لاستطعنا أن نكون دولة وطنية محترمة تحب رئيسها وحكومتها وتضرب مثالا في الوطنية والإخلاص}. فالأمنية بأن هناك ما لا يصل لعشر أُسر- مهما كان عددها- يوحي بأن المعارضين أكثر كثيرا من المؤيدين. ثم كانت النهاية (الفانتاستيكية)، والتي تحمل التمويه أكثر مما تحمل من التصريح، حيث يتجمع الناس على من يدعى أنه الرئيس، ويُوسعونه ضربا حتى الوفاة، مفجرة ما يعتمل في النفوس، وتضغط عليها الظروف. مشيرة– ضمنيا- {فجأة وهو في ريعان شبابه، بعد أن ظل لأكثر من ثمانين عاما يخدم مصر وأبناءها في كافة المناصب التي تقلدها، وخاصة في السنوات الأربعين الأخيرة التي اعتلى فيها سدة الرئاسة}. فالإشارة إلى الأعوام الثمانين، تشمل كل الرؤساء الذي مروا خلال الفترة، ثم الإشارة إلى الأربعين عاما التي تولى فيها الرئاسة، فهي وإن كانت تشير إلى (مبارك) باعتباره ظل أطول فترة في تلك الحقبة، إلا أن الأربعين سنة، تحمل من المبالغة التي توحى بثقل تلك السنوات على نفوس البشر.

فالقصة القصيرة هنا، عبرت ما يقرب من التسعين عاما، غير أنها تحمل من التركيز المطلوب، ومن السخرية المحببة، ومن الخيال الصانع الأكبر للإبداع، فقالت الكثير، وسكتت عن الكثير، ودفعت القارئ في تأمل ذاته، والبحث عن إجابة: لماذا هو ما هو عليه؟

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم