أشرف الصباغ
(1)
ذلك الشبح الصغير الذي يقف في عتمة الفجر بعينين مغمضتين تقريبا، بين باب الشقة في الطابق الأرضي وبين باب البيت المغلق بالجنزير، ينتظر أن تدس الأم المفتاح في القفل وتحرر الباب. تضع يدها على كتفه بدون أي كلمات. تُحْكِم ياقة قميصه على رقبته. يشعر بأنفاسها في برد الشتاء. يريد أن يقول شيئا، أو يستمع إلى شيء. ولكن ربما البرد يجمد لسانه، أو أن الهواء يبعثر كلمات قد قيلت بالفعل.
بيت من طابقين قام صاحبه ببناء دور ثالث مخالف للقانون. الشقة مكونة من غرفتين وصالة ومَنْوَر ومطبخ ودورة مياه. الأب والأم ينامان في الغرفة الكبرى. الأخان، الصغير والأصغر، ينامان على كنبتين متقابلتين في صالة صغيرة مستطيلة تحتوي على طاولة رخامية مستديرة، ودولاب زجاجي قديم يضم بعض الأطباق والملاعق التي صممت الأم على جلبهم معها عندما أعلن الأب قراره بالرحيل من القرية والابتعاد عن الفِلاحة. احتلت الابنة الغرفة الصغرى. وحولوا المنور إلى غرفة ليوسف. بينما تحولت المساحة الصغيرة تحت السلم إلى حظيرة للدواجن. وسمح صاحب البيت للأم، بعد رفع قيمة الإيجار، ببناء برج حمام صغير فوق السطح.
يقطع الحارة وهو لم يستيقظ بعد. ينعطف يسارا نحو شارع “اسكندر مينا” المؤدي إلى سوق الوايلي، ومنه عبر المساكن الشعبية إلى شارع بورسعيد. يفتح عينيه بالكاد، وينظر بكسل وحذر يمينا ويسارا. يسرع خطواته ليقطع خط الترامواي، ويتجه إلى شارع الشركات. قدماه تعرفان الطريق جيدا إلى ورشة الكاوتش التي تتميز برائحتها نفاذة حولها، ومشهد كئيب يحيط بها على الرغم من أنها تحتل الطابق الأرضي لعمارة فخمة وضخمة من خمسة عشر طابقا يمتلكها الحاج صبحي صاحب الورشة.
وحيد هو أول من يأتي ليفتح أبواب الورشة باعتباره رئيس العمال، والمتحدث باسم الحاج، والمشرف على كل شيء. أما مصطفى عامل المكبس، فيأتي أحيانا قبل وحيد، أو في نفس التوقيت تقريبا، لأنه مكلف بتسخين المكبس وضبط درجة البخار ووضع الاسطمبات وتنظيف الطاولة المعدنية الضخمة التي تستقبل ألواح الكاوتش الساخنة بعد خروجها.
عمال مكائن “الدرافيل” يأتون متأخرين نصف ساعة على الأكثر. أما البنات، ليلى وماجدة، فيأتين في نفس التوقيت تقريبا. يتعادل مستوى الضوء في الشارع مع مستواه داخل الورشة المعتمة. تضع ليلى إبريق الشاي الأسود على سخان أسود منبعج من أطرافه. بينما تتجه ماجدة بالأكواب ناحية دورة المياه التي كانت تضم حوضا كبيرا وحماما، لتغسل الأكواب وتعود بها سريعا.
في السابعة صباحا، تدور المكائن، وتزعق كسارة الكاوتش بصوتها المرعب. تقرقع أصوات الدرافيل، ويفح المكبس بالبخار وبلعنات مصطفى التي كانت تنطلق مع صوت الراديو القديم. يضحك سعيد وهو يقلِّب عجينة الكاوتش، ويبتسم غامزا لماجدة التي كانت تبادله الابتسامة وتشير له بأنها أحضرت الفطار. تتجه ماجدة لترفع شيكارة ضخمة من مخلفات الكاوتش القديم وتدلقها في فم الكسارة. وتأخد ليلى ما تقذفه الكسارة من قطع صغيرة، لتلقمها للمفرمة الكبيرة التي تخرجها من الناحية الأخرى حبيبات صغيرة ينقلها مسعد سريعا إلى سعيد الذي يقف كالصقر فوق ماكينة الدرافيل الضخمة.
الصبيان الصغار يقومون بنفس عمل مسعد في نقل حبيبات الكاوتش وقطع “الكريب” والمواد الكيماوية اللازمة لعمال المكائن الكبيرة. بعضهم يحيط بالطاولة المعدنية أمام المكبس ليستقبلوا ألواح الكاوتش ويبدأون بوخدها بالإبر لتفريغ فقاعات الهواء منها. خليه نحل تتحرك فيها أشباح في ضوء خافت وبخار ودخان. وصوت الراديو يصدح بأغاني وأناشيد وقرآن وآذان، والعمل يسير إلى أن يأتي الحاج صبحي قرب الحادية عشرة ليجد وحيدا في مكتبه. يجلس معه قليلا ليراجع الطلبيات، وأحوال العمال، والغياب والحضور والتأخير.
على الرغم من عمره الصغير، إلا أن طوله سمح له بأن يعمل على ماكينة درافيل مثل سعيد الذي يكبره بعشر سنوات كاملة.
(2)
عندما جاء للمرة الأولى إلى الورشة بصحبة والده الذي كان يعمل سائقا على سيارة لنقل ألواح الكاوتش لورش الأحذية في باب الشعرية والعتبة والمغربلين، استقبله الحاج بترحاب ونظرات شك. فهو تلميذ في المدرسة. وقوانين العمل تمنع عمل تلاميذ المدارس في تلك الأعمال الخطرة، ناهيك عن مشاكل التأمينات. ولكن الحاج حسبها جيدا بعد أن وافق الوالد على التخلي عن التأمين، وعلى أن ينكر أمام موظفي التأمينات أن ابنه تلميذ بالمدرسة.
يومها اصطحبه وحيد من مكتب الحاج، إلى صالة واسعة معتمة مليئة بالدخان ورائحة الكاوتش والكيماويات والضجيج. لم يتبين في البداية وجوه الناس. لاحظ فقط أشباحا تتحرك وأصواتا متداخلة. أغمض عينيه وفتحهما عدة مرات. أمسكه وحيد من ذراعه وسار به ناحية المكبس. أشار مبتسما وقال بصوت عال:
-الاسطى مصطفى..
أشار مصطفى، بيده من بعيد، إشاره ترحيب. واستدار نحو المكبس ليقلِّب ألواح الكاوتش. رافقه وحيد في اتجاه سعيد الذي كان يقف خلف الماكينة الضخمة ويحيطها بذراعيه القويتين، وكأنه يروضها. يقلّب العجينة بثقة ويلقي عليها بمواد ما. نظر سعيد إليه بدون اهتمام، وقال شيئا ما ضاع بين الأصوات الكثيرة المتداخلة. رحبت ليلى وماجدة بيوسف الصغير الجديد.
بعد عدة أشهر اقترب وحيد منه وقال:
-الحاج مبسوط منك. ويرى أنك أتقنت المهنة ومن الممكن أن تقف على الماكينة الكبيرة.
كان خبرا سارا، وترقية مفاجئة نادرا ما تحدث بهذه السرعة مع التلاميذ أو الصبيان الصغار. وكانت أيضا خطوة للمستقبل وزيادة الراتب الأسبوعي من عشرة جنيها إلى خمسة وعشرين جنيها كاملة وربما وصل الأمر إلى العمل بالإنتاج. وبدلا من عمل الشاي أو شراء سجائر وأكل للأسطوات الكبار، ستتساوى الرؤوس.
كان الأب يعرف مخاطر هذا العمل. ولكنه سمع ولم يرد. أبدت الأم قلقها وسألت:
-ألا يوجد خطر على حياته؟
سكت الأب. بينما راح هو يحكي لها بفرح عن الترقية والمرتب الأسبوعي، وأنه سيوفر مصاريف الدراسة والملابس وسيساعد في مصروفات البيت. وكان في قرارة نفسه يحلم بالذهاب إلى السينما، وشراء المجلات وكتب الألغاز. كانت يرى بالفعل أنه اشترى هدية عيد الأم من حر ماله، وحذاء جديدا من باتا، وقميصا أزرق، وشورت، وبنطلون، وميدالية مفاتيح عليها صورة عبد الحليم حافظ. ويأكل ساندوتش شاورما أمام سينما ميامي يوم الأحد – العطلة الأسبوعية..
انتقل من عمل الشاي وإحضار الأكل والسجائر والوقوف مع الصبيان الصغار حول طاولة مصطفى أمام المكبس، إلى الماكينة المواجهة لماكينة سعيد مباشرة. كان يجيد الحوار مع الماكينة، ويدرك أنه الأقوى، أو على الأقل، يجب أن يعطيها انطباعا بأنه الأقوى لكي يخضعها، هكذا قال له مصطفى. بينما كان سعيد غاضبا وحانقا من ظهور منافس له. سخر منه ولم يقدم له أي نصيحة. كان، بحكم الأقدمية والسن، يطلب منه أن يحضر له شايا أو طعاما. وبعد فترة نشبت بينهما معركة كلامية ما لبثت أن تحولت إلى عراك بالأيدي. ضربه سعيد علقة ساخنة. وكان العزاء الوحيد أن الجميع كانوا في صفه هو، وانتقدوا سعيدا وأشبعوه سبابا. حتى ماجدة، غضبت من سعيد وخاصمته، وأحضرت في اليوم التالي ساندوتش وبعض الحلوى لا لسعيد وإنما ليوسف. ظل الخصام أسبوعا كاملا، حتى جاءت ماجدة تداعبه وتثني على قدرته في العمل، ثم قالت:
-سعيد يحبك، ويريد أن يعتذر لك..
لم تكمل جملتها حتى ترك سعيد الماكينة، وأقبل نحوه. احتضنه وقبَّل رأسه. وهمس:
-انتبه، وكن متيقظا ليديك. هذه الماكينة مخادعة مثل الحية..
كانت لحظات نادرة. حالة من الفرح والخفة رغم الدخان والروائح التي لم تعد لا غريبة ولا كريهة. يومها اكتشف أن هناك قصة حب بين ماجدة وسعيد. وأن ليلى ووحيد سيخطبان قريبا. عرف أشياء كثيرة في تلك الجلسة التي أعقبت المصالحة.
كان الحاج يعرف كل تفاصيل المعارك والمصالحات والمشاكل والخصامات. ولكنه لم يكن يعيرها أي اهتمام. كان وحيد يبلغه بكل شئ ويقوم بحل كل شئ. فهو الطفل الصغير الذي رباه الحاج وعلمه حتى حصل على شهادة دبلوم الصنايع. وهو الذي سيزوجه من ليلى، وسيدفع لهما إيجار شقتهما بجوار الورشة. كان وحيد كاتم الأسرار والعارف بكل تفاصيل البيع والشراء وعين الحاج الحارسة. وكان الحاج له من البنات سبع، فاتخذ وحيدا ابنا له فآمنه علي كل شئ. وكان الحاج أيضا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فكان وحيد هو المحاسب وأمين الخزينة وكاتب الفواتير ومحرر كل الطلبيات..
لم تكن الأمور تخلو من المنغصات. فسمير، الأخ الأصغر للحاج صبحي، كان متعلما تعليما عاليا. وكان يطمع في إدارة الورشة. ولكن الحاج كان يبعده دائما ويحدد مساحته داخلها. كان يكره وحيدا. وكان وحيد يخاف منه. كثيرا ما كانت الخلافات والوشايات تشعل النار بينهما. وكان الحاج يدعم وحيدا ويواصل إبعاد سمير الذي كان لا يستطيع الإقلاع عن شرب الويسكي حتى في أيام العمل العادية. بينما وحيد والحاج محسن يواظبان على أداء الصلاة.
عالم صغير مليء بالأسرار والدفء والوشايات والمعارك والمرض. مصطفى بشعره الطويل وشاربه الكث، عاريا أمام صهد المكبس والعرق يتصبب أنهارا صغيرة رفيعة على رقبته وشعر صدره الكثيف المغبر. لا يتوقف عن السباب والضحك والتنكيت. يتناول دواء الربو، أثناء العمل، وكأنه من طبائع الأمور. نسج منذ البداية علاقة طيبة مع يوسف الذي أصبح بعد عدة أشهر عازفا على ماكينة الدرافيل. دعاه إلى منزله وعرفه على أمه وأبيه وإخوته وزوجته الحامل في طفلهما الأول الذين يعيشون جميعا في شقة مكونة من غرفتين وصالة في بولاق الدكرور. كانا يذهبان معا إلى السينما يوم الأحد. وعندما جاء مسعد كصبي جديد أصبح ثالثهما. كان مسعد، ابن الأخ الأكبر للحاج صبحي، لطيفا ولكنه كسول. وجد لغة مشتركة مع مصطفى، وسرعان ما أصبح صاحبا ورفيقا للاثنين. ولكنه لم يصبح أبدا عاملا على الماكينة الثالثة التي كان تقف كعانس يأتي إليها الخُطَّاب ويفارقونها دون رجعة. وإمعانا في الضغط، صمم الحاج أن يبقى مسعد مساعدا لماجدة وليلى. كانت خفة ظله وكسله ولا مبالاته تمنحه وضعا خاصا لدى الجميع. وكان هو الممثل الأول في الورشة لقدرته على تقليد المطربين والممثلين. وعندما كان يغيب وحيد قليلا، ينتهز مسعد الفرصة في تقليده هو والحاج صبحي حتى يسقط الجميع من الضحك..
يعملون من السابعة صباحا حتى العاشرة مساء. لا عائق في فترة الصيف. العمال يعملون ويعيشون حياتهم الطبيعية، والتلاميذ والطلاب في عطلة دراسية. وفي فترة الشتاء والربيع يذهب من يذهب ويأتي غيره. أما هو، فكان يأتي مباشرة من المدرسة ليعتلي ماكينته حتى العاشرة مساء. كان وحيد يسمح له بإيقاف الماكينة قبل العاشرة بنصف ساعة. فيبدل ملابسه التي استحال لونها إلى اللون الطيني المشبع بالزيوت، ويدخل إلى الحمام الذي لم يكن له باب أصلا فيأخذ دشا باردا، ويرتدي ملابسه النظيفة ويغادر إلى البيت. ينجز واجباته بعيون تكاد تكون مغلقة، وينام.
يعمل طوال أيام الجُمَع – أيام العطلة الأسبوعية. بينما الأحد هو يوم العطلة من الورشة. يوم الجمعة هو اليوم الرئيسي. فقد أرسى الحاج محسن قاعدة ذهبية: طعام الغداء يوم الجمعة على نفقة الحاج ويتكون من لحم وأرز وشوربة. الجميع ينتظرون هذا اليوم الذي يتضمن ساعتين راحة، لا ساعة واحدة مثل الأيام الأخرى. يجلسون، يتحدثون، يحكون عن خططهم، يضحكون.. البنات يطبخن والرجال يجهزون الطاولة الكبيرة.. البنات يوزعن الطعام والرجال يغسلون المواعين.. وفي الأعياد كان الحاج يشتري لكل منهم بيجامة أو حذاء. ويعطي كل منهم علبه حلوى. وكان أسوأ ما يحدث هو أن يطالب عامل بزيادة في المرتب أو مقابل الإنتاج إذا كان يعمل بالإنتاج. لم يكن الحاج يتساهل أو يتسامح في ذلك. وسعيد الذي يعرف الجميع أنه عماد الورشة وأكثر المنتجين فيها، كان هو الوحيد الذي يطالب دائما بزيادة مقابل الإنتاج. بل وكان يتجرأ ليطالب بزجاجة اللبن الحليب التي يجب أن يتسلمها كل عامل قبل أن يبدأ العمل. وكان الحاج يتجاهل هذا الموضوع.
كثيرا ما كان سعيد يحتج بمفرده ويتغيب عمدا عن الشغل. وكان الحاج يغضب ويقسم أنه لن يعود إلى العمل. ويأتي عامل جديد لا يلبث أن يغادر، ويعود سعيد مرة أخرى.. وتتكرر المعارك. وسعيد بحاجة إلى مصاريف علاج للأم القعيدة. وبحاجة إلى مصروفات شخصية لأي شاب في مثل سنه. في كل الأحوال، كان الحاج يزيده قليلا بشرط ألا يخبر أحدا. ولكن سعيد كان يخبر الجميع. وكان كل واحد يضغط بطريقته لكي يزيده الحاج عدة جنيهات. وفي المقابل كان يطالبهم بالمجئ أيام الآحاد، أو ترك عملهم الأصلي على الماكينة، والعمل على الكسارة، أو تقطيع بالات الكريب. وهي أعمال إضافية تعطلهم عن إنتاجيتهم وعن عملهم الأصلي وتجهدهم عضليا. ولكن الحاج يوفر أجور عدة عمال مقابل غداء يوم الجمعة وأحذية الأعياد.
وكان اليوم الأصعب على الجميع.. يوم الجمعة الذي ينتظرونه ولكنه لم يكن ككل أيام الجُمَع الفائتة.. دخل الحاج في يوم صيفي قائظ، وقال:
-اليوم جمعة، مبارك..
وانصرف.
كان صهد البخار في الأنابيب يؤجج الدماء في أوردتهم، وحبات العرق لا تلبث أن تجف بمجرد خروجها، وتترك وجوههم تحت ملحها خرائطَ مشوهة. راح يوسف يتحرك أمام الماكينة كالبهلوان، يد فوقها تدفع بالعجينة – الكاوتش – بين “الدرافيل”، والأخرى تتلقاها فتعيدها. فحيح البخار يبتلع زفراتهم المحمومة، الصدور تعلو وتهبط، والمكبس يعلو فتمتد يدا مصطفى لاستخراج ألواح الكاوتش الملتهبة. تنتفخ الوجوه، أو هكذا يبدو، حين يهبط المكبس. فحيح البخار يبتلع صوت الزفرات المكتومة، وفى العتمة تلمع حبات العيون. انحنى ليسهل سير العجينة، شعر بقرصة خفيفة فى أصابعه، لم يبال. ثمة آلام حادة فى ذراعه، ألقى نظرة سريعة، لم يصدق.. إصبع بلا إظفر! والثانية متشبثة بإظفرها! والأخريان مهترئتان!
ترك الماكينة تعوى. راح بصره يترنح بين زملائه وأصابعه، تقاطعت خطوط البصر من كل الاتجاهات مع الجرح النازف، امتدت الأيدي في العتمة، بضغطة واحدة أوقفوا المكبس، وبأخرى أوقفوا الماكينات، التفوا حوله. عيونهم مركزة على الجراح الطازجة. العتمة تسحب الأنفاس ولا تردها. ضرب سعيد الماكينة بقدمه، بصق مصطفى ناحية غرفة الحاج. راحت أصوات ما تتصاعد من صدورهم مع الدخان والرائحة المتصاعدين فى العتمة. بكى مسعد وصرخت ماجدة. احتضنته ليلى وراحت تبكي هي الأخرى.
جاء الحاج مهرولا. تساءل عن سبب توقف العمل. ابتلع السكون كل الأصوات، حتى صوت الفحيح الصادر من المكبس. تفرقوا من حوله. شعر ببرودة وخدر يسريان فى مفاصله. نظر الحاج إلى إصبعه. زفر فى ضيق، وتمتم.. ما هذا اليوم المنحوس؟ ثم توجه إليهم صارخا:
-كل واحد يروح على شغله يا أولاد الـوسخة..
بعد أن لعن أمهاتهم، اقترب منه، وضع يده على كتفه.. كانت ثقيلة وباردة، ورائحة ما، ليست رائحة الكاوتش التي تعودها، تنبعث من يده أو من عينيه، لم يكن يدرى على وجه التحديد. شعر بغثيان. ولكن الحاج همس ببروده المعهود:
– اربط يدك.. وحاول تكمل الشغل.
لم تكن درجة الإصابة تسمح بمواصلة العمل. شعر الحاج بتأزم الموقف. فقد أوقف مصطفى المكبس. وتوقف سعيد عن العمل. اجتمع الحاج بأخيه سمير ووحيد في مكتبه لعدة دقائق. بعدها خرج سمير بعيون دامعة وقال:
-بنا على مستشفى باب الشعرية..
وفي الطريق طلب سمير من يوسف ألا يخبر الأطباء أنه تلميذ. وأن يقول لهم أنه هو الذي جرح نفسه بالخطأ. وأخبره أن الحاج سيعالجه على نفقته الخاصة وسيعطيه مبلغا محترما. غير أنهم عندما نظروا إلى أصابعه في المستشفى، قالوا أنه من الضروري إجراء عملية جراحية سريعة لبتر ثلاثة أصابع حتى لا تصاب اليد بالغرغرينا. ظل سمير يهدئ من روعه. وأن هذا أمر الله وعليه أن يكون مؤمنا وألا يعارض قضاء الله وقدره.
أصابه خوف مفاجئ. بدأ يتصور نفسه بدون أصابع. تساءل، كيف سيبدو في المدرسة، وماذا سيقول لأمه.. طلب الذهاب إلى الحمام قبل إجراء العملية. سمحوا له. ولكن سمير رافقه حتى دورة المياه. أثناء التبول، فكر بسرعة وحسم أمره. فتح نافذة دورة المياه. قفز منها. هبط على المواسير في هدوء تام. وجد نفسه في فناء عجيب ملئ بالقمامة وزجاجات الأدوية المهشمة والروائح الكريهة. شعر وكأنه فأر في مصيدة. راح يبحث عن مخرج، حتى وجد منفذا بدون باب. انطلق كالمجنون هاربا. قفز في الترامواي المتجه ناحية الوايلي الكبير.
صرخت الأم عندما رأته. لم يكن يشعر بأي شئ. فقد الوعي للحظات. وعندما فتح عينيه لم ير إلا عيونا جاحظة وأصوات بكاء مختلطة بعويل. وفي المساء زاره أصحابه. الجميع يخشون الذهاب إلى الطبيب أو المستشفى. وعلى الفور اتفق الأصحاب على دعوة أحد الجيران الذي كان من هواة الطب والتطبيب. وجاء بالفعل. نظر إلى الجرح. فحصه بعناية. وبدأ مرحلة العلاج التي استغرقت ثلاثة أسابيع كاملة حتى بدأت تنبت أظافر جديدة في الأصابع الأربعة.
في اليوم التالي للحادث، جاء الحاج ومعه وحيد. كان خائفا ومرعوبا. سأل الأب:
-أبلغتم الشرطة؟ ذهبتم إلى المستشفى؟
-لا. ربنا يستر.. العلاج سيكون في البيت..
ترك الحاج مائة جنيه. ووعد الأب بالمزيد، محذرا من إبلاغ الشرطة أو الذهاب إلى المستشفى.
مرت الأسابيع الثلاثة بدون عمل. ولحسن الحظ، وقعت الحادثة أثناء العطلة الصيفية. زاره الجميع، بمن فيهم ليلى وماجدة. وكان الحاج يرسل إليه براتبه الأسبوعي مع وحيد. وعندما نبتت الأظافر، عاد مرة أخرى إلى الورشة..
علاقة سعيد بماجدة تتقلب وتتعقد. هي تريد أن يذهب ليخطبها رسميا بعد سنوات من علاقة يعرفها الجميع، وهو يؤجل بسبب مرض أمه التي تعيش معه في غرفة بالمساكن الشعبية على أطراف الوايلي الكبير بالقرب من الورشة وشارع الشركات. كانت مستعدة للحياة معه في أي مكان وفي أي ظروف. ولكنه كان مترددا. ذهب ذات مرة مع وحيد والحاج صبحي بعد إلحاح، وقرأ الفاتحة، ما سمح لهما بمزيد من الحرية في اللقاءات، أو الاختلاء قليلا في ركن من أركان الورشة والإمساك بيدها أو قبلة هنا أو هناك. ومع تقدم العلاقة بين وحيد وليلى وإعلان خطبتهما وزواجهما، تعقدت العلاقة بين ماجدة وسعيد. وفجأة انقطعت ماجدة عن الورشة. وبعد فترة أعلن سعيد خطبته لإحدى قريباته. فعلمنا أن ماجدة تزوجت.
(3)
الورشة بلا نساء. سعيد تزوج. وليلى حامل. وأخبار ماجدة انقطعت على الرغم من أنها تعيش في بيت بنفس الشارع الذي تقع فيه الورشة. الحاج أعاد توزيع العمل بحيث أصبح مسعد يعمل بدلا من ليلى وماجدة. وأصبح الجميع يعمل ساعات إضافية بدون مقابل. ظهرت المشاكل بين العمال. تشاجر سعيد مع مصطفى لسبب لا يذكره أحد. تعارك مسعد مع وحيد بسبب التكليفات بأعمال إضافية. وكانت الكارثة الكبرى، عندما انفعل سعيد لسبب ما أثناء دوران الدرافيل، وراح يسب ويلعن، فاختطفت الماكينة يده. كانت صرخته كافية لخلع قلوب الجميع. كانت الدرافيل تنهش الكف ثم المرفق. قفز مصطفى كالمجنون. أوقف الماكينة التي كانت قد التهمت اليد حتى ما فوق المرفق. غاب سعيد عن الوعي. رفعوه ناقصا قطعة من جسده. نقله وحيد بسيارة الحاج إلى مستشفى منشية البكري. أمرهم الحاج بمواصلة العمل حتى الساعة الثامنة. وبمجرد أن انتهوا من العمل، توجهوا إلى المستشفى. كانوا قد أجروا له العملية وقطعوا ذراعه بالكامل. وكانت زوجته الحامل في شهرها الثالث تبكي إلى جواره. وأمه على الكرسي المتحرك لا تعرف أيا منهم. وهي التي كانت تعرفهم جميعا.
الأسنان تنبت وتتغير مرة في العمر. الأظافر تنبت أكثر من مرة. لكن الأذرع والأرجل لا تنبت. وسعيد عاد بذراع واحدة إلى الورشة. لم يعد القائد الأعلى للماكينة. ولم يعد مسيطرا عليها. كل ما حصل عليه، مبلغ من المال يعادل فترة شهرين وبعض كيلوات اللحم والحلوى لأسرته أثناء وجوده في المستشفى، وخلال عدة أسابيع بعد خروجه. أصبح سعيد عاملا عاديا لا يُعتمد عليه. ولم يعد يطالب إلا بعمل، أي عمل في الورشة، لكي يعيل الأم والزوجة، والطفل القادم. والحاج يعامله معاملة سيئة. وفي اليوم الذي لم يأت فيه سعيد، نظروا إلى بعضهم البعض دون تعليق. ظلوا حتى ما بعد الظهر صامتين. وفجأة، لمحوا وسط الدخان والعتمة زوجته وبطنها أمامها. تلاقت نظراتهم في رعب عندما رأوها تبكي وتنهنه. جاء وحيد راكضا ليتلقى كلمات مفككة تتساقط من بين شفتيها المرتعشتين:
-سعيد مات..
مات سعيد. نام كالعادة مبكرا لكي يأتي إلي الورشة في الصباح. ولكنه لم يستيقظ. قال الأطباء في مستشفى منشية البكري أنه مات ميتة طبيعية. أكملوا إجراءات خروج الجثة وتصريحات الدفن وشيعوه جميعا. تكفل الحاج بجميع المصروفات، وترك مبلغا من المال للزوجة. ولكن الأم كانت تستعيذ بالله، وتطلق دعوات الانتقام من الحاج وأمثاله.
لم تعد الورشة كما كانت طوال السنوات الماضية. اكتسبت العتمة والدخان وروائح الكاوتش والكيماويات رائحة الموت. كوب سعيد الذي كان يشرب فيه الشاي يقف وحيدا بصورة هند رستم المطبوعة عليه. حتى الصورة لم تعد لهند رستم الضاحكة. كانت على الأرجح لامرأة جميلة، حزينة ومنكسرة، في مكان غريب يكاد يكون مهجورا. وبعد أن كانوا يأكلون، يوم الجُمَع، اللحم بالخبز ويتركون الفتة والأرز للحظة الأخيرة، صاروا ينظرون إلى بعضهم البعض في وجوم ويقومون بدون أكل، إلى أن أقلع الحاج عن هذا التقليد. في البداية كانوا يجمعون من بعضهم عدة جنيهات ويذهب أحدهم بها إلى أم سعيد. وبعد فترة تباعدت المواعيد والأوقات.. لا أحد يعرف أين ذهبت زوجته بعد أن ماتت الأم.. ومسعد غاضب من عمه لاعتقاده بأنه السبب في موت سعيد. بينما وحيد أصبح أبا لفتاة تشبه ليلى وهي صغيرة.
تشده نداهة المدينة وحيدا أيام الآحاد. يدور في شوارعها…
مدينة شائخة ومشوهة. لا أحد يعترف بذلك إلا في القصص والأشعار. كلهم يفخرون بعراقتها ومجدها، ويتجاهلون عمدا تلك البثور والتجاعيد التي تغطي وجهها القبيح. يتغنون بجمالها ويتمنون العودة إلى الوراء، إلى أزهى العصور، بينما الجيوش من أطفال الشوارع يراقبون الوضع مثل القطط الجائعة من تحت الكباري والجسور ومن الحواري المظلمة، ومن مكامنهم خلف صناديق القمامة. فعن أي خبز باللحم يدور الحديث؟ وعن أي أرز يمكن أن تأكله في تلك المدينة بلا رفيق عاش بجسد ناقص، وذهب بجثة ناقصة؟ عاش ومات في المدينة وليس في القرية، وكان يحب أن يأكل اللحم بالخبز لعله يوفر حفنة أرز للأم أو الزوجة الحامل.. أو يوفر بعض المال للطفل القادم؟
يأتي مصطفى بعيون جاحظة وصوت يملأه الشر. يهمس:
-اتفقت مع مسعد ووحيد والآخرين على الإضراب. لن نأتي إلى الورشة غدا وبعد غد، إلا بعد أن يستجيب الحاج لمطالبنا…
-هل تثق بوحيد؟
-لقد وافق. هو الآخر غاضب، لأن الحاج لم يعد يدفع له إيجار الشقة..
في اليوم التالي التقوا أمام سينما ميامي. لم يأت وحيد. نظروا إلى بعضهم البعض، وإلى مصطفى. قال مصطفى:
-حتي إذا ذهب الورشة، فلن يستطيع أن يفعل شيئا..
-لكن ماذا لو باعنا للحاج؟
-هل تعتقد أننا نقوم بإضراب سري؟!
دخلوا السينما. وخرجوا. لم يعلق أحد، كالعادة، على الفيلم. ربما ناموا، وربما انشغلوا بالتفكير في ماذا سيفعلون غدا وبعد غد. وربما سرحوا بخيالهم في أحلام لا تتوافر في عتمة الورشة ودخانها وروائحها التي اعتادوها فصارت جزء منهم وعلامة على وجودهم وحضورهم الهش في تلك المدينة المسكونة، التي يري يوسف أن سكانها يخشون النظر إلى المرايا، والاختلاء بأنفسهم ولو للحظة واحدة. سكان يقسِّمون بعضهم البعض إلى قرويين وأبناء مدينة، مسلمين وكفار، يحددون درجة التحضر والمدنية بقدرتك على الإمساك بالشوكة والسكين، أو بطريقة تناولك الطعام، وهم يدركون جيدا أن الخبز والماء لا يحتاجان إلى أي أدوات سوى بطن جائع وفم مفتوح.
يومان، ولا أحد يسأل عنهم. وفي اليوم الثالث جاء الحاج صبحي ومعه وحيد. جاء غاضبا وناقما إلى يوسف في بيته:
-كنت أحبك. فلماذا تآمرت مع مصطفى على خراب بيتي؟
-لم أتآمر. لقد تعبنا. نحتاج للراحة ولزيادة المرتبات..
-لقد زدتُ لكم مرتباتكم. أكرمتكم، واشتريت لكم هدايا الأعياد، وأطعمتكم أيام الجُمَع..
-مصطفى بحاجة إلى زيادة، لأنه صار أبا..
-ليس لك شأن بالآخرين. عُد إلى الورشة
… وحيد يقف ككلب أجرب. سمير توجه ليمارس نفس اللعبة مع مصطفى والآخرين.. شعارهم: “إن عدتم، عدنا”.. ويعودون فرادى.. لتلتقي عيونهم من جديد في العتمة.. ويبقى وحيد سيد الورشة.. وتعلوا عمارة الحاج فوق المصنع، بينما تعلو الأخرى أحد جوانب شارع رمسيس لتطل على وسط القاهرة من جهة، وعلى حي الظاهر من جهة أخرى.. ويبقى حابي فاصلا بين الشرق والغرب، بين عالمين يخشى كل منهما النظر في وجه الآخر، ويخشى الاثنان النظر في المرآة. يبسملون ويحوقلون على أبواب دورات المياه. يمعنون في الإعلان عن إيمانهم بكل الطرق.. بينما المعادلة أسهل بكثير رغم كل التحريف والانحراف، رغم الإمعان في إخفاء أصل المعادلة وتحولاتها الواضحة وضوح نظرة شبح صغير بعيون مغلقة يقف بين باب الشقة وباب البيت.. شبح له قلب صغير يدق عندما يخاف وعندما يحلم، وعندما تودعه أمه في الصباح ويشعر بأنفاسها تدفئ وجهه وكلمات ما تتجمد في برد الشتاء أو تبعثرها الريح.. شبح يسير في عتمة الصباح، وهو لم يستيقظ بعد، لا يحتاج إلى شوكة وسكين ليأكل الخبز بالماء. لكنه بحاجة إلى كلمة. مجرد كلمة لا تستطيع الأم أن تقولها، أو قالتها وبعثرتها الريح، وهي تشعر بالخطر على هذا الجسد الذي ينتفض من البرد والتعب، والذي سيخرج في هذه اللحظة إلى عتمة صباح شتوي متجها إلى ورشة أكثر إعتاما. وهي لا تعرف إن كان سيعود أم لا.