د. نعيمة عبد الجواد
هل تعلم إن مجرد استيقاظك يوماً ما من النوم قد يسجل كحدث جلل؟ ولربما يفاجئك ظهور تلك الواقعة في شريط الأخبار، وقد تتناقلها وكالات الأخبار العالمية. فكل حدث مهما كان يبدو عديم القيمة، قد يصير بعد ردحاً ذو قيمة كبرى، ليس فقط للفرد، بل أيضاُ للبشرية بأكملها عندما تتناقله الأجيال. وعلى النقيض، قد تنزوي أحداث هامة في طي النسيان وكأنها نسياً منسياً. فالفيصل الحقيقي لتضخيم أو لتسفيه أو لطمس حدث ما هو تكرار حكي هذا الحدث، أو التوقف عن ذكره. ولكن حتى حكاية الأحداث لا تتم جميعاً بنفس الطريقة، فهناك من يحكي الحدث تقريباً مثلما وقع، وفي تلك الحالة يسمى تأريخ، أو قد ينقل سير أحداث، أوأفراد، أو شخصيات عظيمة لكن بطريقة مبالغ فيها أو مسلية وفي تلك الحالة قد يكون ما يتم حكايته إما أسطورة أو حكاية شعبية.
تقول الكاتبة الأمريكية ويلا كيذر Willa Cather (1873-1947) “حكايات البشر تدور في فلك حكايتين أو ثلاث على الأكثر، تتكرر بكل قوة وعنف وكأنها لم تحدث على الإطلاق”. ومن ثم نجد أن الأحداث والمشكلات منذ قديم الأزل متشابهة، لكن التغيير الوحيد الذي يطرأ عليها هو اختلاف الزمان والمكان، وبالطبع، الأشخاص. وعلى هذا الأساس، فإن مقولة “التاريخ يعيد نفسه” هي مقولة مبنية على شواهد حقيقية تؤكدها الملاحظة، ومعرفة تاريخ الأمم من خلال تناقل حكايات وأخبار من فرد إلى آخر، ومن زمان لآخر. ولقد تم التعبير عن هذا من خلال الأسطورة السنسكريتية “حجر الحكايات” Storytelling Stone التي تحكي حكاية شاب في مقتبل العمر، اعتاد الخروج لصيد الحيوانات البرية كل يوم. وفي مساء أحد الأيام، جلس بجانب حجر كبير، فسمع صوت لرجل يناديه ويقول له: “أريد أن أقص عليك قصة”، فبحث الشاب في كل مكان، لكنه لم يجد أحداً. ثملكنه سمع الصوت مرة أخرى يكرر عليه نفس العرض، ولما بحث عن مصدر الصوت أدرك أن مصدره هو الحجر الكبير، مما جعل الخوف يدب في أوصاله، وحدث نفسه قائلاً أنه لربما كان لذاك الحجر قوة سحرية كبرى. فتوجه للحجر وسأله عما يريد أن يخبره به، فرد الأخير قائلاً للولد أن ما سوف يخبره به يسمى “حكاية”، وأنه لسوف يقصها عليه مساء غد، لكنه يجب أن يحضر معه هدية كي يبدأ الحكي. وعندما حضر الولد في اليوم التالي ومعه هدية سأل الحجر أن يخبره بالقصة التي وعده إياها، فرد الحجر أنه لسوف يقص عليه نبأ السابقين. ولما وضع الولد على الحجر أحد الطيور التي قام بصيدها، بدأ الحجر في سرد حكايات من زمن فات. وطربت أذني الولد لما يسمعه، وأخذ يتردد على الحجر في كل مساء، ومعه الهدية ليسمع نبأ السابقين، وحكايات عن الحضارات المختلفة، إلى أن افتقده صديقه المقرب، وسأله عن سبب اختفاءه في كل مساء، فأخبره عن الحجر المسحور وحكاياته. فذهب صديقه معه حاملاً أيضاً للحجر هدية، وأخذ يستمع للحكايات، وانتشر الخبر بين الناس، واتخذوا من الاستماع لحكايات الحجر في فترة المساء وسيلة للترفيه. وذات يوم، أخبر الحجر الولد أنه لسوف ينتهي من حكاياته بعد أربع سنوات، وشدد على الولد أنه من الأحرى أن ينتبه لما يقول، حتى يقص ما يسمعه على الآخرين، شريطة أن يحضر من يستمع له هدية. فحكى الحجر للولد نبأ الأخيار والأشرار، وحكايات الأبطال، وحكايات من عالم الجان وأخرى عن عالم الوحوش، والآلهة، وحكايات عن السحر، ونبأ مخلوقات خيالية جميعها أثرت في تاريخ البشرية. وفي نهاية الأربع سنوات صمت الحجر، ولم يعد يتكلم. فتبوأ الولد مكانه، وجعل كوخه الصغير موضع سرد الحكايات على العامة الذين يحضرون له هدية مقابل استماعهم للحكاية.
تلك الحكاية السنسكريتية تعبر وبكل بساطة عن نشأة كل من الأسطورة، والقصص الشعبي، والتاريخ. فالتاريخ، بكل بساطة، هو إعادة سرد الأحداث بتسلسل منطقي، يراعي فيه الراوي التزام جانب الصدق قدر المستطاع. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن رواية كل راوي تتطابق مع روايات الآخرين، فلكل راوي شخصيته المميزة وثقافته التي يضفي بها جانب آخر معبراً عن وجهة نظره الشخصية لأي حكاية تاريخية دون قصد، ومن ثم، كان الاختلاف في سرد التاريخ؛ لأنه صار أقرب إلى وجهة نظر منه إلى سرد جامد لإطار من الأحداث لا تتغيير دقائقه. وعلى الجانب الأخر يقع القصص الشعبي والأسطورة، اللذان وإن تشابها في المغزى، يختلفان عند التطرق لإطار السرد. فكلاهما يتحدث عن نشأة أحداث وأشياء هامة في تاريخ البشرية، ويركزان على الحقائق الإنسانية المشتركة، ويلقيان الضوء على أفكار وطقوس تتناقلها الحضارات على مر العصور في كل زمان ومكان.
ويجب الأخذ في الاعتبار أن الأسطورة، التي تعرف أيضا باسم الميثولوجيا، تهتم بإلقاء الضوء على حكايات ومخلوقات خارقة للطبيعة، وتركز على مغامرات وصولات وجولات الآلهة أو أبطال ذوي قوى خارقة. أما الحكايات الشعبية، فهي تهتم بسرد حكايات لأبطال حقيقية أو من نسج الخيال، تتمتع بالقوة أو الذكاء أو الدهاء التي قد تتوافر في العديد من البشر. فكل من الأسطورة والحكاية الشعبية الغرض الرئيسي منهما هو تعليم البشر مجموعة من القيم والحقائق في شكل محبب ليستقر في أذهان البشر. فالأساطير علمت البشر الكثير عن نشأة العالم والخلق، وتطرقت للإجابة عن أسئلة جدلية مثل سبب إحساس المرء بالعذاب على وجه الأرض ولماذا يصيبه الشقاء. ولقد فسرت الأساطير العديد من الظواهر الطبيعية، وأيضاً خلق الأديان، والطقوس الدينية، والشرائع والمعتقدات، والأحداث التاريخية. مع ملاحظة أن الأساطير هي في الأساس حكايات دينية.
أما الحكايات الشعبية، فهي حكايات دنيوية وغايتها توفير عنصر التسلية للسامع لها، لقضاء الوقت في سماع شئ مبهج. علماً بأن الحكايات الشعبية لا تهتم بالجانب الديني، وإن ظهرت بها آلهة، يكون دورها ثانوي غير مؤثر في سير الأحداث. ولو كانت الحكايات الشعبية تهتم بالارتقاء بالجانب الخلقي لدى المجتمع، فإن ذلك يعبر عنه بمغزى ضمني غير مباشر. على عكس الأسطورة التي – وبكل وضوح – تعلن عن مغزاها الأخلاقي منذ اللحظة الأولى من بدء الحكي.
وبالنظر لعالمنا الحديث، الذي لا يزال يدور في فلك حكايتين أو ثلاث يتم تكرارها، نجد أن حكاية الحجر الناطق قد تم تفعيلها حرفياً على أرض الواقع من خلال شاشات التليفزيون – حجر العالم الحديث – التي تعطي بث مباشر للأخبار. وكما حدث بالنسبة للفتى الذي علمه الحجر السرد، فلقد علم التليفزيون المحلي القنوات الفضائية كيفية صياغة الخبر. وبالتالي، علمت القنوات الفضائية اليوتيوب، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومنصات البث المباشر صياغة الأخبار إلى أن صارت وسائل التواصل لاجتماعي – وحديثاً منصات البث المباشر – هي الملجأ الآمن للحصول على معلومة صحيحة لسير الأحداث داخل دولة ما أو العالم بأسره؛ فوجهة النظر التي تقدمها وسائل التواصل الاجتماعي لمجريات الأمور المحلية والعالمية يعتقد رواد وسائل التواصل الاجتماعي أنها الأقرب للصواب عند تأريخ الأحداث. لكن التأريخ نفسه مع وسائل التواصل الاجتماعي، الذي هو بالأساس وجهة نظر، وغالباً لا تعرف الحيادية، صار يتأرجح بين التأريخ والأسطورة والحكاية الشعبية، لامتزاج الواقع بالخيال، لدرجة أنه لم يعد يفرق أحد بين الأحداث. فتفسير الحدث الواحد يعتمد على عدة تأويلات، وكل فرد أو فريق يميل إلى تصديق ما يروق له. وعلى هذا، صارت بعض الأحداث العادية عديمة القيمة، أحداثاً جلل. في حين، يتم عمداً طمس أحداث هامة شديدة الخطورة قد تحدد ملامح مستقبل بني البشر.
لقد صار التشوه وضياع الحقيقة في طيٍ من الأكاذيب هو الحقيقة الأكيدة في ظل شبكات مترامية الأطراف لصناعة الأكاذيب تسمى شبكات التواصل الاجتماعي. ومن المتوقع أن يصير الأمر مشكلة كبرى بالنسبة للأجيال القادمة الذين يجهلون الكثيرعن مجريات الأمور في العالم لاكتفاءهم بقشور الأحداث، أو الميل لسماع الفضائح الصفراء. وأما المقولات المتواترة على وسائل التواصل الاجتماعي والمنسوبة لشخصيات تاريخية وأدبية لامعة بغرض السخرية والفكاهة، اختلط الأمر على الكثيرين لدرجة الاعتقاد بأنها حقيقة. في نهاية المطاف، المستقبل المجهول الوعر الخبايا في منعطفاته صار آداة لطمس ملامح المعالم المميزة ودقائق الحضارات. ومن المتوقع أن يصير عالم المستقبل عالم ذو حضارة وثقافة واحدة بعد أن يتم طمس جميع الهويات المميزة للشعوب. وحينها، لسوف يسير البشر في فلك حكاية واحدة تتكرر بكل عنف إلى أن تزلزل أرجاء الخليقة.