حسن رحيم
أحدى رحلاتي الى عالم المعرفة التي لم تكن كأيّة رحلة، كانت أشبه ما تكون برحلة الحياة كُلها منذُ الولادة شرعتُ ونفسي الهائجة وشعوري العبثيّ وحب التمرّد والفكر المتسرّع كدقات قلبي أن أبحر في الكتب الفلسفيّة وغموضها، وعوالم المنطق وجماله، وأن اتصفح ما فيها من عناء فكري ومشقةٌ ذهنيةٌ على الرغم من أني ما أزال في بداية مسيرتي الأكاديمية محبًا للّغة والأدب وشغوفًا بالنقد ، بيد أنني على يقينٍ تامٍ سوف تتاح لي الفرصة على سبر أغواره ولو بعد حين وإن كانت سوف بعيدة المدى … في خضمّ هذه الرحلة استهواني وأدهشني أحد الكتب المثيرة للاهتمام؛ كتابٌ فكريٌ بعنوان ( الذاكرة والمتخيّل نظرية التأويل عند غاستون باشلار) للبروفيسور الدكتور (أحمد عويّز) وكلمة حقٌ تُقال فقد أجبَرَنا على حُبِ ما صَنع وأبدع، بلا ريب إن هذا الكتاب يُعد منهجًا من مناهج البحث العلميّ إذ كانت فحواه عبارة عن ردودٍ معرفيّة وانطولوجيّة على ما جاء به فيلسوف عصره (غاستون باشلار) الذي يُعد واحداً من أهم الفلاسفة الفرنسيين، وهناك من يقول إنه أعظم فيلسوف علم، وربما أكثرهم عصرية أيضًا، فقد كرّس جزءاً كبيرًا من حياته وعمله لفلسفة العلوم، وقدّمَ أفكارًا متميزة في مجال الابستمولوجيا والتي تتمثل بالعقبة المعرفية، والقطيعة المعرفية والجدلية والتاريخ التراجعي.
شرع الدكتور في بداية كتابه بمهادٍ نظريٍ موضحًا فيه طبيعة الذاكرة والمتخيل، والتشابه والأختلاف بينهما من خلال مصطلحاتهما الفلسفية والنفسية عن طريق ربطها بالظاهراتية التي كوّنت لدينا صورة ذهنية عن طبيعة الأثنين، ومن ثم انتقل بنا للفصل الأول الذي كان بعنوان (تكوين الخيال الإنساني وانطولوجيا الصور الحلمية) رأينا فيه اشتغالاً معرفيًا حول (الكوجيتو الديكارتي) الذي اشتهر به ديكارت (أنا أفكر إذاً أنا موجود) وربطه بالمتخيّل والذاكرة ووضع انطلوجيا مغايرة عن المفهوم السائد ففي قول باشلار ورؤيته أنا أحلم أنا أتخيل إذاً أنا موجود ومن ثم انتقل بنا إلى الفصل الثاني الذي كان بعنوان (تأويل أكوان الذاكرة المكانية المتخيلة) ووضح فيه طبيعة التأثير والتأثر في المكان وكيف يكون الإنفعال الفكري والعاطفي عند الشاعر وعند غيره في تكوين الصورة، ومن ثم الدخول إلى الفصل الثالث (الأكوان المتخيلة وتكوين الصور والمواقف) الذي قدّم لنا فيه بحثاً عن طبيعة الأكوان المتخيّلة وفسرها بصورة تأملية تأويلية من خلال استعراض عدة أعمال أدبية سردية وشعرية وصور لنا طبيعة الرجل ثماذج من المواقف كصاحب المكنسة الذي يتخيّل أنه يحصد حقلاً مليء بالسنابل عبر حلم يقظة متخيل في أثناء عمله منظفاً في السارع ومن ثمّ ويعود للتأمل في السماء عندما تكون الإشارة حمراء، وكمثال السجين الذي غادر من سجنه عن طريق قطار الخلاص رسمه على جدران سجنه، فخرج في حلم يقظته من عالم السجن وانتقل إلى الحرية؛ ثم ينتقل بنا الدكتور في كتابه في الفصل الرابع إلى بحث أعمق ب(تاويل العناصر الضديّة وهما النار والماء) الى فلسفة الظاهراتية إذ تناول فيها طبيعة الماء والهواء والنار وقدم لنا طبيعة تركيبنا السايكلوجي والاجتماعية عبر السلطة الأبوية التي بنت في فكرنا طبيعة التعامل مع النار حتى من خلال حجمها وعرض أساطير موجودة في الأدب وتحليلها ساكلوجيًا مثل أسطورة ( برومثيوس مقيدًا ) واصّل وجود النار عبر عرض عدة قصص وجدت في المثلوجيا القديمة وعودة استعمال (الكوجيتو )هذه المرة عن طريق التأمل في صورة الماء، وتناول قصة نرسيس ومحنته في حلّ ذاته عبر التأمل صورته على صفحات الماء، أنا أتأمل إذا أنا موجود، وكيفية كون الماء مصدراً للحياة والهلاك في آن واحد. وجمع التضاد بينهما.
وختمها بالفصل الاخير (تأويلات نفسية من التأويل الظاهراتي إلى التاويل النفسي المتخيل وتأنيث الأشياء والكلمات والأشياء). ومنه تطرق الى تأنيث اللغة ونقد فكرة (السوبر مان) التي عُرف بها (نيتشه) وقال باشلار بأنها خرجت من انفعال وطابع خنثي ليعود الدكتور أحمد عويّز ويعرض طبيعة حكم باشلار على نفسه عبر إطلاق حكمه نتيجة طابع سيكولوجي خنثي، والحقيقة لو قرأنا لغة باشلار الأصلية سنجدها مقاربة جدًا لما قدمهً الدكتور أحمد عويّز الذي انتقل ما بين قدم (هوسيرل ) ومنظور تلميذه (هايدغر) لفهمه، وعرض رؤى الفيلسوف الألماني (دلتاي) وفكرة مبدأ تأويل (شلايرماخر) التي تنص على أن وجود الولادة لا يعني أننا نضع إلى جنبها الموت والعدمية، ما دامت الكينونة الطفولية موجودة فينا، ومادام الشعراء يثورونها فينا من جديد عبر نصوصهم ، عبر التخيّل فأنهم يسهمون في إيجاد كينونتنا، ومن هنا يقول باشلار: ((نطلب من الكُتّاب الكبار أن ينقلوا إلينا تأملاتهم، وأن يؤكدوا على حسن تأملاتنا، وأن يسمحوا لنا أن نعيش ماضينا المعاد تخيله) من هنا نلخّص أهم ماخرج إليه الدكتور عويّز في رحلته المعرفيّة والشاقة التي جمع فيها كل ما ذهب إليه باشلار بآرائه حول الذاكرة والمتخيّل ذلك بأنه يرى أن انطلوجيا الصور الخيالية محكومة بترابط سببي بين علّتين مادية وصورية خيالية ، ويرى الصور المتمثلة بحلم اليقظة لا يمكن أن تكون جمالية إلا بربطها بين الحاضر والذاكرة القديمة ، فضلا عن جمالية الصور، وأنها لا تكون إلا بإشراك جملة من الأبعاد ومن أهمها اعتقادات القلب والعقل والرؤية، وقد لخص التحليل السايكلوجي للذات ومرجعيتها (المثلث الفرويدي) في انشطار قوى الأنا والهو والأنا الأعلى يولّد الإبداع… والانشطار الذي أشار إليه(كارل يونغ )الذي تناول ازدواجية الذات الأنسانية “بين شعور ذكوري وأنوثي …
والخلاصة فأنه يرى أن بداية الانبثاق الظاهراتي وجدلية طبيعة المعرفة الظاهراتية من أساس كوجيتو ديكارتي (أنا أتأمل إذاً أنا موجود) وكذلك بيّن اقتراب باشلار من فلاسفة التأويل وأصحاب نظريات القراءة أمثال (سارتر) في تفسير المعرفة الظاهراتية .. . ورأى أن ارتباط الوعي بنشأة الكينونة بعلاقة الجدلية بين الذات الحالمة والموضوع وجميع هذهِ الأشياء تحتاج إلى الكوجيتو لإدراكها خصوصا إذا كانت متعددة، فضلاً عن ارتباط الإنسان بالمكان الأول أو المنزل الأول، وتمتع هذا المنزل بالمركزية والسيادة في ذهنه وتفكيره ويُعد النواة الأولى لمشاعر الألفة … وكذلك تأويل باشلار للخوف من النار وأن هذهِ الظاهرة هي ظاهرة اجتماعية وهذا الرأي حاول فيه إضعاف حق النار الطبيعي وربط الشعور الأبوي في تفسير الخوف … ومن هذهِ النقطة تبتدئ حكايتي مع التأمل إذ أنني أرى التأمل أجمل وأعظم ما مارسه العقل البشرى فهو حالة من السمو بالنظر للأشياء من دون أن تسبقها مفاهيم مسبقة متصلّبة متشنجة.. التأمل حالة من الرؤية الحرة لاستنطاق جوهر الأفكار وادراك الاشياء من دون مشاعر تسبقها لتتشكل رؤى عميقة تخوض فى ذواتنا ووجودنا عبر حرية التقييم بغض النظر عن كون تأملاتنا صائبة أم خائبة فهي فكرنا المتحرر من الإنفعالات الفكرية المبرمجة المتقولبة، وهذه التأملات الفكرية تخوض فى أعماق وسراديب الإنسان التى لا يبوح بها على الرغم من مضمونها ومحتواها ، شكراً كثيراً للدكتور أحمد عويّز لجميل عطائه الدائم.. تعجز حروفي أن تفي حقك كل ما حاولت ذلك، ولا أجد في قلبي ما أحمله لك إلا الحب والعرفان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب عراقي