أسماء جزائري
صنع الإنسان أجهزةً عملاقة(الصّحون اللاّقطة) radio telescope ليتنصَّت بها على موسيقى الكون، لكنّه لن يستطيع سماع كلّ الذّبذبات إلاّ على نحو ضيّق من مساحتها.
يصرّ أوسكار وايلد على أنّنا نُحبّ الأشخاص لأنّ ثمّة موسيقى تصدرُ منهم دون أن يسمعهَا أحد غيرنا، فإن كنّا قد تفرَّقنا إلى أشكالٍ مختلفة في الكون ، فالموسيقى هي اللّغة التيّ يتحاور العالم فيما بينه دون أن يقوُل شيئاً، هو علم المحسوس والأمكنة التّي لا تُترجم، إنّه الوعي العبثيّ والنسبيّ، شعور الإنسان الدّائم بتفوّق اللّحن على صراحتِه، إنّه شبيهٌ بتلك المنطقة البعيدة في الظّهر التّي تحتاج منكَ إلى حكٍّ بأصابع يدكَ القصيرة، ذلك المكان بالذّات هو ما تتموضع عليه الموسيقى، فالمناطق الأشدّ براءة هي تلك التّي استعصي استحواذها على المادة، تلك الأماكن المقدّسة التّي خصّها الكون بيد فريدة تشبهها في القداسة “الموسيقى”، ولهذا لا نفهم ما هو ذلك السّر الذّي تفردُه هذه الطّاقة، إن الغرابة لا تكمن في تمكُّنها من لمسنا بتلك الطَّريقة التّي نعجز نحن ذاتنا عن لمسنا بها، بل في تلك المقدرة الهائِلة التّي تردّ فيها على الكثير من الأسئلة التّي وجهناها كأحجام في فضاءٍ كبير مُبهم التفاصيل، فالأمر لا يتعلّق بالكلمات والأشعار المرافقة لها، فالكثير منّا ينجذب إلى أغاني لا يفهم لغتها، حتى أنّه يبكي داخل معاني لا يعرفُ مغزاها، في هذه اللّحظة نكون قد وضعنا كلماتنا الخاصّة، فأنتَ تعرف هذه الموسيقى منذ القِدم والآن تنقصُها مفرداتك الخاصّة، وهنا تحديداً يأتي بناء الذّات اعتباراً من اللّحن وتكوين طاقتك الفرديّة، فلهذا حين ذهبَ بيتهوفن ليقدّم العزاء لأحد صديقاته قال لها:اليوم سنتحدّث بالموسيقى “واتّجه نحو آلة البيانو وظلّ يعزف لمدّة طويلة ثم نهض واقفاً، وترك المنزل دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة، لقد واسى المرأة الحزينة بما هو أجلّ من كلمات العزاء.
فما هي الموسيقى؟
إنّها طنين الكون، لغة الطّبيعة الحيّة، الطّاقة التّي تُعبر عن ذاتها، ويتجسّد هذا في تلك الألحان التّي نبتكرها من خلال ذلك الإمعان الكبير في الألغاز الفنية التّي يطرحها الكون، لهذا عنونت ليفين المختصّة في علم الكون النّظري كتابها بـ”موسيقى الثقّوب السوداء وأغان أخرى من الفضاء الخارجي”تحكي فيه قصّة مرصد “ليجو”إثر اكتشاف موجات الجاذبيّة لأول مرة سنة 2015 حين رصدوا إشارات تصادم ثقبين أسودين على بعد 400 فرسخ نجمي، ويعنون المؤلف البريطاني من أصل بولوني جاكوب برونوفسكي أحد فصول كتابه “الإنسان في معارج الرقيّthe ascent of man ” بـ”موسيقى الكواكب”يشرح فيه الإنجاز العظيم للعربي في قصر الحمراء بغرناطة شارحا الأهمية التي أضافها الموريكسي للتكوينات القاشانية، إن الكون عبارة عن تغريدات منبعثة من موجات جاذبية شاحبة بالكاد يمكن رصده لكنها موسيقى لطالما رافقت نظرتنا للسّماء.
فما الذي يربطنا هنالك؟
ارتباطنا أسريّ من نوع آخر إن تمعنّا فيها فيزيائيا، ذلك أنّه في داخل كلّ منّا جسيمات دقيقة لأغنية بجعة نجميّة، لقد احترقت نجوُم في الكون لنحصل نحن على عناصرنا الكيماوية، ونظرتنا إليها بتلك الطريقة نابعة من المعلومات التّي تحملها الذّرات فينا كلحن، فالعالم كلّه مرتبط بنغمة موسيقية، والنوطة ما هي إلاّ نجمة تموت داخل سحب سديميّة مع الزمن لتترك المكان لنجمة أخرى، ما يفعله اللحّن هو ذاته ما تفعله الطبيعة، ولهذا صرّح أنشتاين بأنّه لو لم يكن فيزيائياً من المُحتمل أن كان موسيقياً، وأنّ أجمل أوقات حياته هي تلكَ التّي يقضيها بالعزف على الكمان، وقد ملئ استبياناً ينتقد فيه مؤلّفي الموسيقى بطريقة تعكس آرائه العلمية، شيء من الضّحالة عن هندال، يعوزه البناء المعماري الذّي اعتبره انحطاطا عن فانجر، موهوب لكنّه بدون صدق روحاني عن شتراوس، أما عن باخ وموزارت فوصف موسيقاهما بحتمية كالقدر، وقارن بين باخ وبيتهوفن، وبين موزارت وبيتهوفن، وأعطى وجهة نظره في بشوبيرت، أمّا نتشيه فتوجه إلى الفلسفة حين عجز من أن يكون موسيقياً، ورشا حبال الفيزيائية السورية رافقت التشيلو لتضبط الفلك.
نتساءل أيضاً أين تذهبُ كلّ تلكَ الأصوات حين نقولها؟ هل تعُود إلينا كموسيقى تمنحُها الميوزات على شكل إلهام كما هو مذكُور في الأساطير الإغريقية؟ أم أنّ الموسيقى هي الميوزات وأبلو مجتمعين إن وظّفنا ما عبّر عنه موزارت حين قال: المُوسيقى أكثر إلهاماً من جميع الحكِم والفلسفة؟
ربّما سنجيبُ دائماً بنعم إذا تعلَّق الأمر بالموسيقى، حتّى وإن طُرحت أسئلة نقيضة، والسبّب سيكون دائماً المصدر المعبّر عنها، إنّها الكائن الوحيد والطّاقة الفريدة التّي تحمل كلُّ المفاهيم وتطرح نفسها كلغزٍ لا يستوجب حلّه.
فإن كان لابدّ لها أن تحيا، فالسّبب هو تواجد أذن أسطوريّة تحتفظ بكلّ الدّلالات، والعالم هو النقّطة التّي تدُور حولها هذه المُختفيَات الباقيات إن أردنا تحويل مفهوم أوشو عن سرّ صوت الأصوات، أو الصّوت الذّي لا صوت له، ذلك المغزى الذّي سيستردّه الإنسان من الطبيعة على شكل ألحان عجز عن تحويلها إلى وسيط منطقي، لقد اعتقد فيثاغورت دائماً أن الكون ما هو إلاّ اهتزاز نغمات توافقيّة بديعة وإلهيّة لم تكُ في متناول سمع البشر حيث نظر إلى المسافات بين المدارات المُتتابعة للكواكب على أنّها نغمة أو نصف نغمة ليمنح هذا التّوافق النّغمات السّبع للسّلم الموسيقي الطبيعي، ففيثاغورت الذي قال”الكون في مجمله عدد ونغم “كان يُريد ضبط المحسوس رياضياً، جامعاً بين الموسيقى والرّياضيات فعندما تشدّ وتراً ليهتزّ فإنّه يُنتج نغمة تتوافق مع طوله الماديّ، وهكذا الحال حين يكون نسب الطّول بين وترين نسبة كسريّة بسيطة (½ أو⅔ ..)فتبدو النغّمتان متناسقتان للسّامع وبهذا وضع فيثاغورت قواعده.
لكن هل يمكن حصر كلّ المحسوس عن طريق البرهنة؟ بالطّبع لا.
الرّياضياّت غلّفت النَّغمة بالمعادلات، لكن مهما اتّسعت الرياضيات فإنّها عجزت عن الإحاطة بالكون، يمكن القول أنّها تمكّنت من الذّبذبة والموجة لكن لم تُحط بالموسيقى، هي أقرب إلى ذبذبات قد تبدأ في الذّرة لكنّها لا تنتهي في المجرّة، إنّها طاقة مُتحرِّرة تُعبّر عن ذاتها بأنساقٍ مختلفة، فمن دون وجود هذه الطّاقة التّي تُترجم ذاتها في ذبذبة خليّه ما تكوّن مفهوم الحياة، لهذا ظّلت كائناً طاقويّا يعبّرُ على سطح مجرّد لكن يستحيل علينا أسرها فعلاقتنا بها دائماً ستحتاج إلى وسيط ما بين المؤلف والآلة.
لكن هل يمنعُ هذا نشوء أصوات من حيث لا نعلم لتُحاول الإحاطة بذراّت الموسيقى كما فعل فيثاغورت في معادلاته؟
بالطبع لا.
ففي واحد من أشهر البرامج العالميّة الغنائي “the voice يقوم الحكَّام بالاختيار عن طريق الصّوت فحسب، ويظهر ذلكَ في الكراسي المُلتفتة للجمهور، وهذا التّجريب الرّائع والذّي يدفعه الحسّ الدّاخلي دون التّطرق لما تُمارس العين المُجرّدة أحياناً من تدخّل في خرق ما ينبعثُ من العمق حين توظّف الشّكل وجمالياتّه، هو انتصارٌ للغيبيّات الجميلة، الصّوت الذّي هو موسيقى بحدّ ذاته ففي فرنسا مثلا تركت باتيستا آكوافيفا battista acquaviva آدءها يلمس أكثر الأماكن خطراً في الطّاقة الكامنة، لقد انحنى “ميكا” كأنّما قطار لم يستطع تفادي اصطدامه، أما “فلورو بانييه”فحركة فمه كان تعبر عن أنّ أحدهم يعبثُ بقفلِ أعماقه، أما “جينيفر”تكوّرت كطفل صغير أعاده هذا الصّوت إلى الرحم، بينما “زازي” و بصورة لا إرادية رفعت ذقنها قليلا تعبيراً عن فخر ما ربّما للمرأة تحديدا، كذلك الأمر مع لوك آربوغاست luc arbogastذلك الامتداد في صوته يُشبه تماما اللّحظة التّي تنطلي عليك فيها خدعة لاعب الخفة، أمّا الرّوسية داريا التّي أدّت أغنية زومبي فقد لقّنت اللّجنة درساً جاداً في كسر البروتوكول المكتسب لدرجة أنّ أحد الحكّام تكوّر داخل الكرسيّ بعد أن كان يصيح وفضل الثاني التّعبير عن إعجابه فور التفاته بالصّراخ العميق بطريقة تدفعه يَخرُج من كبته ثم يسألها:هل أنتِ حيّة هنالك، ثمّ يُضيف:منذ متى وأنتِ في هذا الجُنون؟ فتجيب: من عشر سنوات ثم فيردّ في استعجابٍ وإعجاب:لعشر سنوات كنت تستعملين قلبكِ بلا رحمة؟
في الأخير يقول توماس كارليل:إذا كانت للملائكة لغة تتحدث بها، فإنها بلا شك الموسيقى، أما أنا فأتساءل هل في إمكاننا تحويل كل تلك الأعمال الأدبية الخالدة إلى أبطال موسيقيّة؟