النيل يجرى شعرا: النيل عند شاعر النيل (الحلقة الرابعة)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 52
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.مصطفى الضبع

ليست مناسبة هذه السطور كونها تقارب تجربة النيل عند الشاعر محمد حافظ إبراهيم فهمى (1874- 1932) ، والمعروف باسم ” حافظ إبراهيم” ، و الملقب بـ “شاعر النيل” وإنما تترصد مناسبة أخرى بوصفها نوعا من الاحتفاء بالشاعر فى ذكرى وفاته الثمانين (21 يولية 1932) .

لم يفرد حافظ إبراهيم قصيدة للنيل وإنما جاء النيل أيقونة تتواشج مع بقية من أيقونات ساحرة عمل الشاعر على إنتاجها ، وتوشيح قصائده بها رابطا إياها فى معظم الصور بالإنسان ، فقد جاءت القصائد منطلقة إلى التعبير عن غرض محدد يكون الوصول إليه منتجا ما يمكن تسميته بالمجال الحيوى للقصيدة ، وهو مجال يتشكل وفق شبكة من العلاقات النصية التى يربط فيها الشاعر بين الشخصية الهدف ، والنيل بوصفه العنصر الأساس فى تشكيل هذا المجال الحيوى مما جعل للنيل شخصيته النصية الفاعلة ، تلك الشخصية التى تخرج إلى صورة كلية ذات طاقة دلالية .

وتكتمل صورة النيل وحضوره فى شعر حافظ إبراهيم عبر مقاربتها من ثلاث زوايا تكمل بعضها بعضا :

  • الصيغة والتركيب : نيلنا (مرة واحدة ) – نيلكم (مرتان) – نيلها ( ثلاث مرات ) – نيل ( خمس مرات ) – النيل (76 مرة ) ، وهى صيغ دلالية تكشف عن صوت الشاعر فى القصيدة تعبيرا عن رؤيته وانتمائه لوطنه وقوميته حيث التآزر بين النيل بوصفه علامة لها طابعها الاستراتيجى فى رؤية العالم ، وبين الشخصيات المختلفة التى ترتبط به أو تلك التى يربط الشاعر بينهما ، وتقدم نسبة النيل معرفا تطرح المعرفة النابعة من شهرة النيل فى مرجعيتها التاريخية ، أو مرجعيتها المعرفية فالشاعر فى تشكيله صورة النيل معتمدا هذه الصيغة يراهن على معرفة تمثل وثيقة تعاهد بين الشاعر ومتلقيه ، فالنيل بما له من مرجعية معرفية لدى المتلقى ليس مجهولا وإنما هو يمثل تجربة إنسانية لكل مصرى خاصة وعربى عامة ، يمثل ماضيا مدركا يؤكد الشاعر عليه عبر صوره المتعددة التى لا تقف عند الماضى وإنما تتجاوزه إلى طرح تصور لمستقبل لبلاده ممررا عبر النيل من خلال صورة جاءت فى سياق واحدة من أروع قصائد الشاعر ، تلك التى ينعى فيها مجد العرب والترك شاكيا وناعيا ورابطا بين ماهو خاص ، ذاتى به ، وعام ينتمى لبلاده وقوميته ، ينطلق فيها من منطقة ذاتية يخاطب فيها نفسه:

ماذا أَصَبتَ مِنَ الأَسفارِ وَالنَصَبِ       وَطَيِّكَ العُمرَ بَينَ الوَخدِ وَالخَبَبِ

نَراكَ تَطـــــــلُبُ لا هَوناً وَلا كَثَباً       وَلا نَرى لَكَ مِن مالٍ وَلا نَشَبِ

ويروح يعدد أشكال ما يلاقيه وما حاق بوطنه على مساحة أربعة عشر بيتا من القصيدة ( 22 بيتا ) قبل أن يطرح سؤاله المفصلى الذى يتجاوز فيه الماضى مما يجعل السؤال يأتى بوصفه منطقة هدوءو تأمل فى سياق عاصف :

مَتى أَرى النيلَ لا تَحلو مَوارِدُهُ       لِغَيرِ مُرتَهِبٍ لِلَّهِ مُرتَقِبِ ( [1] ).

والنيل بوصفه مفردة تنتج عددا من التراكيب الكاشفة عن سبائك لها أبعادها الفنية والجمالية التى تتشكل من عنصرين يتغير الأول ليبقى الثانى عنصرا تنتمى إليه الأشياء :

سراة النيل- شباب النيل- عرش النيل – سبيل النيل – تاج النيل – ربوع النيل – ابن النيل – بلاد النيل – صب النيل – سلوة النيل – وادى النيل .

فإذا كان العنصر الأول ممثلا لتفاصيل الوطن ورامزا إلى تاريخه وشخوصه وأحواله فإن هذه جميعها تنتمى للنيل الذى يقف بمفرده يسعى العالم بكل مافيه للانتماء إليه .

  • العنصر الإنسانى : حيث القصائد تتمحور حول شخصيات معاصرة للشاعر ، تتوحد فى انتمائها للإنسانية وتتنوع فى بنائها الفكرى ، احتضن النيل هذه الشخصيات خارج القصيدة لتحتضنه فى داخلها ، وللاقتران بين النيل وهذه الرموز الإنسانية والوطنية علائقه كما له دلالاته على رؤية الشاعر لعالمه أولا وللنيل ثانيا .

ويطرح العنصر نفسه على مدار ديوان الشاعر كاشفا عن مساحة كبرى وسمة أساسية للنيل كما يراه حافظ إبراهيم ويكفى أن نتوقف عند عدد منها للتدليل لا الحصر فالمساحة أكبر من أن تحيط هذه السطور بها:

  • فى رثائه سعد زغلول تأتى مطولته (90 بيتا من بحر الخفيف) نموذجا كاشفا:

واعتراف التايمز ياسعد مقيا               س لما نال نيلنا وأصابا ([2])

  • فى رثاء محمد فريد (1867- 1919) يكتب الشاعر قصيدته الدالية من بحرالرمل مطلعها:

من ليوم نحن فيه من لغد     مات ذو العزمة والرأى الأسد؟ ([3])

وفور مبادرة الشاعر الحديث عن الفقيد وذكر صفاته يطلب الدعم المعنوى من النيل ممثلا فى المدد من  مياه  النيل ، مستشرفا نفاد دموعه ، والتماسه المزيد من النيل ففى البيت الرابع من القصيدة :

أيها النيل لقد جل الأسى      كن مدادا لى إذا الدمع نفد

والصورة لها مرجعيتها فى شعر البارودى:

ومازاد ماء النيل إلا لأننى    وقفت به أبكى فراق الحبائب

وفى الأبيات الحادى عشر، والثالث عشر، والسابع عشر، والسابع والعشرين يطرح الشاعر صورا أخرى للنيل:

  • ياغريب الدار والقبر ويا سلوة النيل إذا ما الخطب جد
  • قل لصب النيل إن لاقيته   فى جوار الدائم الفرد الصمد

       – آثر النيل على أمواله     وقواه وهواه والولد

– لم يكد يمتعها الدهر به        فى ربوع النيل حيا لم يكد

  • وفى تكريم سعد زغلول بعد محاولة اغتياله فى القصيدة التى مطلعها :

الشعب يدعو الله يا زغلول             أن يستقل علي يديك النيل

  • وفى استقباله الطيار العثمانى فتحى بك التى مطلعها ( [4] ) :

أهلا بأول مسلم              فى المشرقين علا وطار

النيل والبسفور فيـــــــــــــــــــــك تجاذبا ذيل الفخار

  • وفى قصيدته مهنئا شوقى عند تكريمه بالأوبرا (29 أبريل 1927) :

بَلابِلَ وادي النيلِ بِالمَشرِقِ اِسجَعي       بِشِعرِ أَميرِ الدَولَتَينِ وَرَجِّعي

ويقول فى البيت الثالث والعشرين منها :

بَلَغتَ بِوَصفِ النيلِ مِن وَصفِكَ المَدى       وَأَيّامَ فِرعَونٍ وَمَعبودِهِ رَعِ

  • وفى القصيدة التى نظمها لاستقبال شوقى عند عودته من منفاه بالأندلس يقول فى مطلعها ( [5] ):

ورد الكنانة عبقرى زمانه    فتنظرى يامصر سحر بيانه

يقول فى البيت الرابع :

النيل قد الأقى إليه بسمعه   والماء أمسك فيه عن جريانه

وفى البيت السابع :

فاصدح  وغن  النيل واهزز عطفه     يكفيه    ما    عناه    من   أحزانه

  • وفى القصيدة التى كتبها تهنئة للملك فؤاد بعيد جلوسه ، ومطلعها :

أَرَأَيتَ رَبَّ التاجِ في       عيدِ الجُلوسِ وَقَد تَبَدّى

وعلى الرغم من أن القصيدة فى ظاهرها إفراد للملك بالسلطان فإنه يشير إلى سلطان آخر يكشف عنه باطن القصيدة ، ذلك النيل الذى يصوره فاعلا فى أرض مصر ، مؤثرا فى طبيعتها ، فهو يجرى تحت الملك ولكنه له فعله الأخطر من فعل الملك نفسه مما يهدد سلطان الملك، ويتجاوز تفرد سلطان الملك إلى سلطان النيل الذى يمنح الناس والطبيعة مالم يمنحه الملك :

النيلُ يَجري تَحتَهُ       فَيَخُدُّ وَجهَ الأَرضِ خَدّا

يَهَبُ النُضارَ كَأَنَّهُ       مِن فَيضِ جَدواهُ اِستَمَدّا

وَكَأَنَّما هُوَ عالِمٌ       بِالكيمِياءِ أَصـــــــــابَ جدّا

يَدَعُ الثَرى تِبراً فَهَل       شَهِدَ الوَرى لِلنيلِ نِدّا ( [6] )

والقصيدة على طولها (55 بيتا ) تتنازع مساحة التفرد فيها قوتان (سلطان الملك عبر مساحة أكبر منها ) و( سلطان النيل عبر المساحة الأقل) فإن المساحة الأقل تكشف عن القوة الأعظم تأثيرا فالشاعر لا يكتفى بالاستفهام الدال على نفى الندية للنيل وإنما يجعل للنيل تاجا :

لَم يَرتَفِع في الشَرقِ تا       جٌ فَوقَ تاجِ النيلِ مَجدا

مما يجعل المتلقى يشعر أن سلطان النيل قد نسف سلطان الملك (فأى سلطان لملك ارتفع فوق تاجه تاج ، وتصاغر تاجه إزاء تاج النيل ومجده؟ ) . 

  • العنصر الشعرى : ويتمثل فى الغرض المختلف باختلاف الشخصية وما يرتبط بها من حدث ، فالقصائد تجمع بين الرثاء والتهنئة والمديح والوصف والإخوانيات والاجتماعيات ، يضاف إلى ذلك كله الوظيفة / الوظائف الشعرية التى كاشفناها فيما سبق ، ولا يصعب على القارئ مكاشفة القصائد وصولا إلى عدد من الصور المؤسسة على مفردة النيل فى تكراراتها عبر ديوان الشاعر ، فإذا تجاوزنا المناسبات والأغراض العامة فى ارتباطها بمعاصريه فللنيل حضوره فى مناسبات الشاعر الخاصة ، وفى سياق التجربة الشعرية للشاعر على مالها من خصوصية ففى احتفال أقيم له بالجامعة الأمريكية ببيروت (77 بيتا من بحر البسيط ) يقول فى مطلعها :

حَيّا بَكورُ الحَيا أَرباعَ لُبنانِ       وَطالَعَ اليُمنُ مَن بِالشَأمِ حَيّاني

وبعد تقديم الشكر لمن دعاه للمكان يبادر بالعودة إلى ذكر موطنه محددا نقطة انطلاق جديدة تمنح القصيدة حيويتها إذ يحرك معه ذهن متلقيه خارج مكان القول :

لي مَوطِنٌ في رُبوعِ النيلِ أُعظِمُهُ       وَلي هُنا في حِماكُم مَوطِنٌ ثاني( [7] )

وعبر القصيدة يظل النيل نقطة ارتكاز يتجدد منها انطلاق الشاعر المتجدد مرتين : فى البيت الثانى والخمسين :

كَم في نَواحي رُبوعِ النيلِ مِن طُرَفٍ       لِليازِجِيِّ وَصَرّوفٍ وَزَيدانِ

وفى البيت الثالث والستين:

النيلُ وَهوَ إِلى الأُردُنَّ في شَغَفٍ       يُهدي إِلى بَرَدى أَشواقَ وَلهانِ .

وفى رحلته إلى إيطاليا يقوم النيل بالوظيفة نفسها ، وظيفة منصة الانطلاق الحضارى، حيث يرسم الشاعر صورة تقارن بين حياة عاينها بالغرب ( إيطاليا ) وصورة لحياة عايشها بالشرق ( مصر) ، طارحا مجالا خصبا للمقارنة بين عالمين (متحضر ومتخلف ) :

قد وقفنا عند القديم وساروا         حيث تسرى إلى الكمال البدور

والجواري فى النيل من عهد (نوح)   لم يقـــــــــدر لصنعها تغيير

وَلِعَ القَومُ بِالنَظافَةِ حَتّى       جُنَّ فيها غَنِيُّهُم وَالفَقيرُ ([8]  )

والشاعر إذ ينعى على الأمة تخلفها لا يكون طموحه مجرد التوقف عند حالة الانتقاد ، وإنما هى طموح الشاعر للكمال الإنسانى الذى يتمناه فى وطنه .

…………

هوامش وإشارات

[1] – ديوان حافظ إبراهيم – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2007– جـ 2، ص 118.

[2] – ديوان حافظ إبراهيم – ص 221.

[3] – ديوان حافظ إبراهيم  جـ 2، ص 197.

[4] – ديوان حافظ إبراهيم ، جـ 2، ص 76.

[5] – ديوان حافظ إبراهيم ، جـ 1، ص 98.

[6] – ديوان حافظ إبراهيم ، جـ 1، ص 144.

[7] –  ديوان حافظ إبراهيم ، جـ 1، ص 133 ومابعدها .

[8] – ديوان حافظ إبراهيم ، جـ 1، ص 230.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (23)

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)