أشرف الصباغ
(1)
الرجل الذي كان يقطع حارتنا، في خطوات هادئة، بملابسه الداكنة والطاقية السوداء تغطي جبهته وحاجبيه وأذنيه وتحجب عمره، بينما يتكفل الشارب الكث والذقن النابتة بإخفاء بقية ملامحه، يخرج في غبشة الصبح، ويعود بنفس الخطوات والملابس القديمة والطاقية السوداء الداكنة في ظلمة الليل. ظللتُ أرقبه سنوات طويلة من خلف شيش النافذة، حتى أنني كنت أسمع صوت أنفاسه الذي لم يكن يتغير لا صيفا ولا شتاء. لم أكن أخافه، لكنني كنتُ متشوقا لشيء ما، أو متوقعا أو منتظرا..
(2)
الصبي الصغير، كان يرقبني بعينين مندهشتين من خلف شيش النافذة، وأنا أسير بخطوات متئدة، متلفعا بكوفية بنية اللون، يتدلى طرفاها على جاكت أسود يخفي تحته قميصا أخضر. كنتُ أسمع أنفاسه وهو يفكر على إيقاع خطواتي. وعندما سعلتُ مرة في صباح شتوي مظلم، دمعت عيناه من وراء شيش النافذة، وكادت أحلامه وتوقعاته تسقط محدثة دويا هائلا فتستيقظ أمه في الداخل. وفي ليلة صيفية مظلمة، بكى خلف شيش النافذة عندما تعثَّرت قدمي في حجر.
(3)
في اليوم الذي حملوني فيه على خشبة طويلة، عَبْرَ حارتنا الضيقة إلى الضفة الأخرى، أدرتُ وجهي نحو النافذة، فرأيتُ صبيا جديدا يستعد لمراقبة رجل كان، في يوم من الأيام، يرقبني في صباه.
(4)
على مشارف الضفة الأخرى، استقبلني جدي، الذي ولد قبل التاريخ بقليل، وربما بكثير، بنفس ثيابه التي كان يرتديها عندما يقطع حارتنا الضيقة في خطوات هادئة، في كل الصباحات والمساءات الشتوية والصيفية، بملابسه الداكنة والطاقية السوداء تغطي جبهته وحاجبيه وأذنيه وتحجب عمره، بينما يتولى شاربه الكث وذقنه النابتة إخفاء بقية ملامحه. كانت جدتنا الكبرى، أمه، التي ولدت قبله بآدم أو بآدمين، تطهي لي في نفس هذه اللحظة نفس تلك العصيدة التي كنت ألتهمها خلف شيش النافذة وأنا أراقب ذلك الرجل الذي كان يقطع حارتنا، في خطوات هادئة، بملابسه الداكنة والطاقية السوداء تغطي جبهته وحاجبيه وأذنيه وتحجب عمره، بينما يتكفل الشارب الكث والذقن النابتة بإخفاء بقية ملامحه.
(5)
جدنا الأكبر، جد جدي، الذي ولد قبل الزمن والجغرافيا والفكرة، والذي كان من الممكن أن أراه لولا أن ولدتني أمي بعد يومين أو ثلاثة من ذلك اليوم الذي حملوه فيه على خشبة طويلة عبْرَ حارتنا الضيقة إلى الضفة الأخرى، وهو ينظر إلى إحدى النوافذ غامزا في خبث وراحة واطمئنان لأخي الأكبر الذي كان يراقبه من خلف شيش النافذة، كان في تلك اللحظة التي وصلتُ فيها إلى الضفة الأخرى، يفرد يديه على قرص الشمس ويتدفَّأ، مداعبا إياي: رأيتك في بطن أمك، وكنت أريد أن تراقبني من خلف شيش النافذة.
(6)
التفوا حولي بملابسهم الداكنة والطواقي السوداء تغطي جباههم وحواجبهم وآذانهم وتحجب أعمارهم، بينما تَوَلَّتْ شواربهم الكثة وذقونهم البيضاء بلون الحليب إخفاء بقية ملامحهم، ثم سألوني: وماذا عن بقية الأحفاد الآخرين الآن هناك؟! قلت لهم بصوت يشبه صوتهم وصوت آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم، إنهم هناك خلف شيش النوافذ يرقبون آباءهم وأجدادهم، والمحمولين على خشبات طويلة عبر حارتنا الضيقة إلى الضفة الأخرى، يرافقونهم بعيون مندهشة ومتوقعة ومنتظرة، وينتظرون المدد من أشجار النبق والجَزْوَرِين والكافور وعفاريت الليل وما وراء الحُجُب، ومن جُزُرِنا الضائعة التي كانت تزين أطراف الوطن، واستعضنا عنها بقلادات تُزيِّن صدور حفيداتنا ومعاصمهن وأحلامهن وخيبة أملهن. فبصقوا في وجهي وانصرفوا..