النملة

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

أنا نملة، لكنني لا أحب النمل كثيرا. فنحن أيضا مثل كل الكائنات الكبيرة، مثل الناس والتيوس والحمير، لا نحب بعضنا البعض، ولدينا مشاكل كثيرة وخلافات مع بعضنا البعض ومع الآخرين. وكثيرا ما نعلن عن عدم حبنا لفصائل وكائنات أخرى لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بكينونتنا، ومنها ما يتعلق بكينونات وتراكيب هذه الكائنات وطموحاتها وأطماعها وتصرفاتها المبنية على أفكارها. نحن طبيعيون للغاية، في حدود المعقول طبعا، مثل كل الكائنات الأخرى بصرف النظر عن الحجم والشكل اللذين أوجدتنا عليهما الطبيعة. كما أننا لا نأبه إطلاقا بما يقال عنا، سواء بالسلب أو بالإيجاب، لأنه ببساطة ليس لدينا ما يمكن أن نخاف عليه. فحياتنا لا تساوي خردلة، ولا قيمة لها ولا لنا إلا فقط عندما يريد الناس أن يضربوا بنا الأمثال ليخدعوا أنفسهم، ويخدعوا بعضهم البعض، ويخدعوا الأطفال في المدارس. عدا ذلك فأول ما يفعله أي كائن حي هو فعصنا أو دهسنا أو رشنا بالمبيدات الحشرية.

من الممكن أن أسطو على ويكيبيديا وأكتب ما لم يكتبه أحد عن النمل. ويمكنني أن أستعير فقرات دينية وأحاديث شريفة ومقتطفات من الكتب المقدسة عن النمل، لكي أكتب نصا “نمليا” مقدسا، لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من قُدَّامه، لا يكتبه إلا الفقهاء والمفكرون والفلاسفة وعظماء عصورهم وكل العصور. ومن الممكن أيضا أن أتجول في الشبكة الزرقاء أو في المكتبات الضخمة وأسطو على أي نص، رواية أو قصة أو بحث أو دراسة عن النمل وخصاله وعجائبه وتركيبته الجسمانية ومعجزاته وأصدِّع بها رؤوس الحيوانات قبل رؤوس البشر. ولكن لماذا أستعير ما كتبه الآخرون لكي أكتب عن النمل، إذا كنتُ أنا نفسي نملة حقيرة ترتبط حياتها حصرا بنعل حذاء أي كائن أو حوافره أو حتى بالشقوق الموجودة في كعبه أو في باطن قدمه أو بين أصابع هذه القدم؟! لماذا لا أكتب أنا عن نفسي؟!

أنا أحب الأرصفة المستقيمة والمتعرجة والعريضة والرفيعة، وتلك التي فيها حفر وشروخ وشقوق وجحور. لا أعترض على أي شيء، ولا يعوق منها أي شيء حركتي. كل ما في الأمر هو أن رحلتي قد تمتد قليلا أو كثيرا عن المعتاد والمقدر لها إذا اختلفت الطرق والدروب والحواري والأرصفة. أعشق الشقوق بين قوالب الطوب وبين الصخور، تروق لي شروخ الحوائط والجدران وشقوقها والفواصل بين أي شيئين. ومع ذلك لا أحب النمل، ولا حياته ولا نمط تفكيره العبودي الملتزم المحافظ، ولا نظامه ولا دأبه، ولا كل ما يقال عنه من أوهام وخزعبلات، وحِكَم يستخدمها الفقراء لخداع أنفسهم وإغراقها في السكينة والهدوء والرضا والفلسفات الفارغة عن القدر والمصير والحياة، ويستخدمها الأغنياء لخداع الفقراء وخداع أنفسهم أيضا والظهور بمظهر الفلاسفة البسطاء العارفين بمقالب الأقدار والمصائر، وتستخدمها الحكومات اللعينة للتسلية ولتربية الفقراء والأغنياء على حد سواء، وزجرهم، وعقابهم لو اقتضت الضرورة، على الرغم من أن العقابَ جارٍ، كأمر طبيعي من باب الاحتياط، ومن قبيل استباق وقوع المصائب التي يمكن أن تسببها تلك المخلوقات الحقيرة. والمخلوقات الحقيرة هنا هي البشر من وجهة النظر الحقيقية لحكوماتهم. ولكن تلك الحكومات قادرة دوما على تنميق كلامها حتى أن البشر لا يدركون كم تحتقرهم تلك الحكومات وتدق الأسافين دوما بينهم وبين بعضهم البعض، وتسرقهم وتنهبهم وتضربهم بالحذاء.

أنا نملة تراقب كل الكائنات الأكبر منها جسدا وعقلا وطموحا وذكاء. لا أرى كل ما هو، ومن هو، أصغر مني، ليس عجرفة أو تكبرا، لكن لأسباب بيولوجية تخص تركيبة جسدي ووظائفه وبقية حواسي، وربما لأنه لا توجد كائنات حية أصغر مني إلا تلك الكائنات التي تتصرف على نحو له علاقة بالميكروبات والفيروسات والبيولوجيا والطب والميكروسكوبات. وبالتالي، فأنا لا أكذب إذا قلت إنني أصغر وحدة حية من الكائنات التي يمكنها أن تعي وتفكر وتتعامل بمنطق ما يتناسب ووعيها وحجم مخها وهيكلها وقدراتها الذهنية والعضلية ووظائف جسدها. لا يمكن أن نأخذ كلمة “تفكر” هذه على محمل المزاح أو السخرية. ومن الخطأ أن نتعامل معها باستهتار أو نقلل من شأنها. نعم، أنا أصغر وحدة حية قادرة على المراقبة والرصد والتفكير، بل والتأمل، إذا جاز التعبير. كما يجب أيضا ألا نأخذ كلمة “تفكر” على محمل الجد والإنذار بالخطر، لأننا لا نمثل كل هذه الخطورة التي يعتقد البشر أننا عليها فعلا. فنحن لسنا إطلاقا بتلك القوة والعبقرية والإصرار لكي نفكر بتدمير البيوت والغيطان أو الزرع والممتلكات الحكومية والعامة والخاصة، أو نتسبب في أمراض وأوجاع ما عندما نقرص هذا الشخص أو ذاك. نحن فقط نريد أن نعيش وأن نجد لنا أقل من ربع ملليمتر مربع يتسع لأجسادنا الصغيرة. إننا لا نطالب بأكثر من ذلك، بعد أن استولى الإنسان على كل شيء، وراح البشر يقتلون بعضهم البعض على الأراضي والأملاك والعقارات، بل وبدأوا يتوجهون إلى الكواكب والمجرات الأخرى لكي يكرروا فيها نفس تلك الكوارث والجرائم التي يرتكبونها على الأرض. هذا على الرغم من أن الأرض لا يزال فيها متسع للجميع لملايين السنين المقبلة. ولكن البشر وضعوا لأنفسهم ولبعضهم البعض أنظمة وترتيبات معقدة تحرم البعض مما يستحقون أو يحتاجون، وتغدق على البعض بما لا يستحقون أو يحتاجون، وما يستتبع ذلك من تفاصيل أخرى يندى لها جبين أي كائن حي، حتى نحن النمل الحقير.

نحن “النمل” قومية منضبطة للغاية، سواء في الشرق أو في الغرب، في دول متقدمة أو في دول متخلفة، بين شعوب متحضرة أو في وسط شعوب ومجتمعات أكل الدهر عليها وشرب وتقيَّأ. أنا لا أشبه مثلا الولد “شرشر” الذي راقبته منذ الصغر إلى أن اعتلى منصبا كبيرا في إحدى السفارات الأجنبية، كموظف محلي، وراح يرطن بلغتهم ويرتدي ملابس فخمة ويتقاضى راتبه بالعملة الأجنبية، ويتزوج بكل من يقابلها، ويستبدلها مع أخريات وهو في غاية الهدوء والاستمتاع والثقة، ويسرق الأموال التي من المقرر أن ينقلها من أجل أغراض معينة، أو ينبغي أن يصرفها وفق لوائح صارمة.

شرشر لم يكمل دراسته ولكنهم ينادونه بـ “الدكتور”. هو وسيم، فارع الطول، مبتسم على الدوام، لسانه يُنَقِّط عسلا، يجيد لملمة الناس واختراع المصالح، وابتكار الأسباب والفاعليات، ونقل الكلام وتأويله وترويجه. موهوب منذ صغره، وكبرت معه مواهبه حتى صارت أكبر من مؤخرته الكبيرة التي تتناسب مع جسده الذي يبدو قويا ويحوز على رضا النساء، وحسد الرجال. فهو الذي كان يحمل البطاطين إلى ميدان التحرير ويوزعها على الخيم المتناثرة أثناء الأيام الأولى من الاحتجاجات الضخمة التي عمت مصر. وهو الذي كان يفاخر بأنه أول من تنبأ بالثورة وبأن الشعب سيحدد مصيره وستعم الديمقراطية والرخاء والتنمية والعدل، وأول من قذف حجرا في موقعة الجمل، مع أنني كنتُ واقفة في ذلك اليوم على عامود الكهرباء أمام مجمع التحرير، ورأيته يختبئ هناك خلف سور متهدم بشارع الشيخ ريحان. وهو نفسه الذي يجلس يوميا مع ضباط الأمن الوطني في بارات وسط البلد يقرع كؤوس النبيذ ويحتسي البيرة ويحكي النكات وأخبار عمله في تلك السفارة وأخبار زملائه العاملين هناك، ويغازل الكتاب والشعراء والمترجمين والنساء والكاتبات المبتدئات والشاعرات سيئات النَظْم والسلوك والأفكار والألفاظ..

شرشر لطيف، ولكنه بخيل نسبيا. كل النساء اللاتي تعرفن إليه أو نمن معه أو تقاطعت مصالحهن مع مصالحه، أكدن أنه أنتن من صرصار وأحط من فأر، ولكنه وسيم ويجيد التعامل في الفراش، ويرطن بلغتين أجنبيتين، ويعاكس زوجات رؤسائه ويتحرش بالموظفات. وعندما يرى الكاميرات والصحفيين تنبت له ضحكة لزجة ويأخذ نفسا عميقا يبدو خلاله أنه أكبر حجما مما هو عليه بالفعل، وتتحرك قدماه تلقائيا لتحمل جسده الفارع إلى الصفوف الأولى في مواجهة الكاميرات والإعلاميين، إلى جانب زوجة رئيسه أو ابن رئيسه أو ابنة رئيسته، أو خلف رئيسه مباشرة لكي يظهر في الصورة من جهة، ويؤكد لسيادته أنه دائما خلفه وفي ظهره من جهة أخرى. يعشق الإدلاء بالتصريحات، وعندما يقولون له “يا دكتور” لا يمانع، وينشغل في شيء ما غير واضح في ملابسه أو تحت مقعده إلى أن يسمع الجميع كلمة “دكتور” وتلتصق بذاكرتهم، وتتحول هي نفسها إلى شخص يشبهه له ابتسامة لزجة ناتئة مثل الخراء…

شرشر لا يشبه النمل. هو أقرب إلى الصرصار أو الفأر. أما “دودو” فهي جميلة ورائعة ولديها طموحات أعلى من طموحات ماري أنطوانيت، وأرفع من طموحات كونداليزا رايس وهيلاري كلينتون مجتمعتين. عندما رأيتها في الصف الأول بالمدرسة الابتدائية، تنبأتُ لها بمستقبل باهر ليس أقل من مستقبل نادية الجندي وسما المصري وكل نساء مصر الوطنيات اللاتي يضحين بكل غالي ونفيس من أجل الوطن.

دودو صارت امرأة حلوة رغم فشلها في الدراسة: في كل أنواع الدراسة. لا أحد يعرف ما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك الفشل، بالضبط مثلما لا يعرف أحد كيف أتقنت ثلاث لغات أجنبية، وتعرفت على سائقي الميكروباص في السيدة عيشة والبساتين، وعلى كل الرجال العاملين في صالونات التجميل في المهندسين والدقي والزمالك وجاردن سيتي والمقطم، وصار لديها حسابات بنكية وسيارتان وشقتان وشاليه في العين السخنة وآخر في الساحل الشمالي بالقرب من مرسى مطروح، وشقة محندقة في شرم الشيخ، وابنة صغيرة جميلة تشبهها في صباها… لا أحد يعرف ماذا تعمل دودو بالضبط، فهم يستبقون اسمها دوما بألقاب مختلفة، من بينها المثقفة والكاتبة والصحفية وصاحبة صالونات التجميل، ومديرة صالونات قَرْضِ الشِعر واستضافة الكتاب والمفكرين، والمهتمة بحقوق المرأة وحقوق الطفل. هي تقول إنها لا تحب السياسة ولا تفهم فيها، ولا تهوى النقاشات السياسية ولا الألاعيب والمناورات، تعشق الفقراء والمهمشين وتتحدث عنهم كثيرا، ولكنها تفضل أن تجلس بعيدا عنهم حتى تستطيع أن تفكر من أجلهم، ومن أجل أن تنتشلهم من بين الحجارة وقوالب الطوب، ومن تحت الأرصفة، ومن وسط شروخ الحوائط وشقوق الجدران…

بالأمس كنت أمارس حياتي “النملية” الطبيعية. كان من المقرر أن أنطلق من الدقي إلى الأباجية، عبر ميدان التحرير وعابدين والسيدة عيشة لزيارة جيران كبار السن كانوا يسكنون بجوار والدي ووالدتي في مسقط رأسنا، وبالمرة أدّرِّب أحفادهم على مواجهة بعض التصرفات والسلوكيات الجديدة التي ظهرت مؤخرا لدى البشر، لكي نتفادى شرهم الدائم وحركتهم العشوائية هم وحيواناتهم وسياراتهم وأولادهم وأحذيتهم. كان الطقس خانقا والشوارع مزدحمة والسيارات تسير في عشوائية لا تقل عشوائية عن حركة الناس وأفكارهم، وحركة البورصة والشركات والمؤسسات والمقاهي والبارات والمطارات، وحركة البنوك والمخابز والأسواق، وحركة العقل نفسه. غير أننا نحن “النمل” لا نبالي كثيرا بمثل هذه التفاصيل. فنحن أبناء الأرصفة والشقوق والحيطان، نولد وننشأ ونتربى ونعيش في عالم هادئ مهما داسوا علينا وأبادونا، وأمعنوا في القضاء على أولادنا وأحفادنا، نعرف طرقنا وأزقتنا وحوارينا، ونحفظ السكك أبا عن جد. إننا نحفظ ملامح البشر من أمثال شرشر ودودو، فهل يصعب علينا أن نحفظ الطرق والشوارع والدروب، ونتفادى حقارات البشر الذين نعرفهم ونراقبهم ونحفظهم بكل تفاصليهم حتى تلك التي يخفونها عن بعضهم البعض؟!

والأباجية لمن لا يعرفها، هي مهد الحضارة النملية وإحدى مراكز النور بالنسبة لنا ولأجيال كثيرة قبلنا. أزورها في مواسمنا وأعيادنا النملية، وفي المناسبات النملية المفرحة والمحزنة. فيها بيتنا الكبير على يمين المزلقان، عند السوق القديم الذي يتجمع فيه البشر كالنمل أسبوعيا ليصدعونا بمشاكلهم ولصوصيتهم وتلصصهم، يشترون ويبيعون ويسبون بعضهم البعض، لكنهم يتعاركون أكثر ويدمون وجوه بعضهم البعض أكثر وأكثر. الأباجية، هي منشأنا وفيها جباناتنا القديمة التي تمتد إلى البساتين إلى جانب جبانات البشر التي تمتد من الدراسة وتنتهي هناك بالقرب من الجبل الكبير. نحن هنا أبا عن جد منذ ما قبل ظهور المعادي وحلوان ومنطقة السيدة عيشة. منطقتنا هي الوحيدة التي كانت يابسة منذ كان يمر هنا الخليج المصري، وتمر من أمامنا السفن في اتجاه باب الشعرية والوايلي والسواح والأميرية ومسطرد.. نحن أبناء أصول، ونحن ملح هذه الأرض. لسنا مثل هؤلاء البشر الذين يتجمعون كل أسبوع ويأتون إلينا هنا مثل النمل ليقرفونا ويدوسون علينا وعلى عيالنا…

نعم، نحن نعرف ما لا يعرفه أحد عن البشر، وما لا يعرفه بشر عن بشر، وما يخفيه كل واحد وواحدة عن الآخرين. لا نستغل ذلك، ولا نسخر، ولا نسجل لهم سيديهات، ولا نعرض صورهم على الشاشات، ولا نتناول تفاصيلهم أيضا. ولكنهم هم الذين يفعلون ذلك مع بعضهم البعض. وهذا تحديدا ما يضحكنا أحيانا، ويحزننا في أحيان أخرى. بل وأحيانا تدهشنا وقاحتهم وإصرارهم على أن يصبحوا صراصير وأوغاد، وفي الوقت نفسه يرتدون ثيابا فاخرة وغالية الثمن، ويستخدمون بارفانات فخمة، ويبتسمون في وجوه بعضهم البعض، ويقتنون أفخر السيارات والبيوت، ويتباهون بأنفسهم وبأولاهم وبثرواتهم. أما أكثر ما أثارني عندما كنتُ في طريقي من الدقي إلى الأباجية، وعلى الرغم من أن هذا الطريق يستغرق أياما وأسابيع، إلا أنني فوجئت بشرشر محمولا على الأكتاف وهو يهتف باسم دودو ويدعو الناس لانتخابها في البرلمان. في هذه اللحظة توقفت تماما عن السير، واعتليتُ عامود كهرباء في شارع الفلكي، وظللتُ أنظر إلى دودو التي كانت تجلس في سيارة حمراء مكشوفة، بينما أركبت ابنتها في حنطور بثلاثة أحصنة، وشرشر ابن الملعونة جاء بقطيع من الكتاب والشعراء والمترجمين ومعهم سيدات من المناصرة وباب الشعرية، وراحوا يهتفون باسم السيدة الدكتورة دودو رمز مصر ورمز أولادها وبناتها وأجيالها الجديدة والقادمة، وعلامة الجودة والضمير والإنسانية، داعين المواطنين لانتخابها في البرلمان من أجل سعادة المرأة والطفل، ومن أجل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل حرية مصر وأمنها والحفاظ على حدودها ووحدة أراضيها.

جلستُ فوق العامود، ورحت أتذكر كيف تعرف الدكتور شرشر على الدكتورة دودو. وقررتُ أن أسأل أبناء قبيلتنا الذين يسكنون في الشقوق والجحور القريبة من سكنهما والأماكن التي يتواجدون فيها… وفي الحقيقة، كان مشهدهما في شارع الفلكي رائعا، يليق بسيد وبسيدة ومعهما فتاة وكأنها ابنتهما تركب حنطورا والشعب يغني من أجلها ومن أجل أمها نائبة البرلمان ورمز مصر ونور عينها، ومن أجل وكيل أعمالها وحافظ أسرارها الدكتور شرشر..

ظللتُ فوق العامود حتى تحرك الموكب الحاشد ناحية باب اللوق. كنت أخشى النزول لكي لا أقع في كل الأفخاخ التي وقع فيها آبائي وأجدادي منذ قديم الأزل. فالإنسان في سرائه وضرائه يدوس علينا ويدهسنا. وعندما يهدأ قليلا أو يستكين، لا يلبث أن ينهض كالشيطان ويتجه إلى أقرب صيدلية ليشتري مساحيق وسوائل وغازات ما أنزال الله بها من سلطان ويتفنن في القضاء علينا. الوقت لا يهم كثيرا، فنحن نسير مع الزمن أو بالأحرى نسير وكأننا نسير مع الزمن العادي الخاص بالناس، لكن في الحقيقة، نحن لدينا زمننا النملي الذي لا علاقة له إطلاقا بالزمن البشري. وبالتالي، علمنا آباؤنا وأجدادنا أننا حتما سنصل إلى هدفنا، مهما طال الطريق وامتد الزمن، وحذرونا من العجلة والتعجل والتزاحم والاحتكاكات والمعارك التي يمكن أن تستنفذ طاقتنا ومواردنا الشحيحة.

بقيت فوق العامود إلى أن لمحت آخر مجموعة من أنصار شرشر ودودو تنعطف إلى شارع التحرير، في اتجاه عابدين، وبدأتُ النزول في هدوء، على الرغم من أنه كان من الممكن أن أسير على الأسلاك بعيدا عن حركة البشر العشوائية وكوارثهم المتواصلة، سواء ضد بعضهم البعض أو ضد المخلوقات الأخرى، أو ضد الطبيعة نفسها. فهم لا يدوسون علينا ويقتلوننا نحن فقط، بل يفعلون ذلك مع بعضهم البعض بسياراتهم وبأجسادهم الضخمة، ويفرون وكأنهم لم يفعلوا شيئا، ثم يرتادون دور العبادة ويتحدثون عن الفضيلة والأخلاق، ويظهرون على شاشات التلفزيون لينصحوا بعضهم البعض بالمحبة والإيمان والتسامح، ويتحدثون بعيون دامعة وأصوات مرتجفة يملأها الورع والخشوع.

سأصل حتما إلى الأباجية. وسأحكي لأحفاد الجيران عن المخلوقات الضخمة التي كانت تعيش في زمن ما قبل أن يظهر الإنسان نفسه. وعندما ظهر، راح يتفاداها لكي لا تدهسه وتدوسه وتقتله. لكنها مع الوقت راحت تنقرض تباعا، لأنها كانت تتضخم من جهة، وتتزايد مطالبها من جهة أخرى، وتتضاعف مشاكلها مع بعضها البعض من جهة ثالثة.. راحت أجسادها تتعطل تدريجيا، وتتوقف حركة عقلها، فصغرت رؤوسها وضمرت أطرافها، وراحت تتلاشى، وبدأ الإنسان يشم نَفَسَهُ ويشعر بوجوده على سطح الأرض وفي البحر وفي الفضاء، وامتلك الأرض بما عليها وبمن عليها. لكنني في الفترات الأخيرة بدأت ألاحظ أن رؤوس البشر بدأت تصغر قليلا، وتتضاءل أطرافهم. لاحظتُ ذلك اليوم أيضا عندما دققتُ النظر في رأس دودو وشرشر والقرود الذين كانوا يتراقصون حولهما. أما الفتاة الصغيرة التي ألبسوها ثيابا مثل الدمية باربي، والتي بدت فيها وكأنها ابنة دودو وشرشر، فكانت تتلاشى تدريجيا مثل ديناصور صغير يشبه ذلك الرجل وتلك المرأة اللذين يبدوان كأبويها…
………………
*(من مجموعة “حبيبتي طبيبة العيون السريالية”)

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور