النقد الثقافي والنسق الاجتماعي.. قراءة في رواية “اليهود الحالي” لعلي المقري

ali almaqri
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أ.د. مصطفى عطية جمعة

     أحدث النقد الثقافي Cultural Criticism تغيرات كبرى في الدراسات الأدبية خاصة، وفي العلوم الإنسانية عامة، فقد كان بمثابة رأس الهرم الذي يعتلي جملة من المعارف والعلوم، بدءا من التحليل الأدبي، ومرورا بالفلسفة والتاريخ، وانتهاء بعلم النفس والاجتماع، وغيرها من المعارف الإنسانية؛ التي تساعدنا في فهم أدق وأعمق للنص الأدبي، وما فيه من إشارات ثقافية ودينية وتاريخية ولغوية؛ في تقاطعها مع البنية النصية، وجماليات الأسلوب. وبذلك، بات النص الأدبي وثيقة أو مدونة، تنفتح على المجتمع المعبرة عنه من خلال ما يبثه المتن من أفكار ومعارف واتجاهات، إلى القارئ متلقي النص، بوصفه المستهدف من فعل الكتابة.

   فالنقد الثقافي –وفق مفهوم ليتش- هو استراتيجية في التحليل يستخدم المعطيات النظرية والسوسيولوجية والتاريخية والسياسية والمؤسساتية، دون التخلي عن منهجية التحليل الأدبي، ويتسع مجال البحث فيه، ليشمل مختلف النصوص والخطابات، مستفيدا من مناهج التحليل العرفية مثل تأويل النصوص، ودراسة الخلفية التاريخية، على نحو ما نجده في تفكيكية دريدا، وتحليل الخطاب عند فوكو، وما بعد البنيوية عند رولان بارت، حيث تكشف الممارسة الفعلية للتحليل الوظيفي كما يقول ليتش عن أنظمة عقلية ولا عقلية في الخطاب، بعيدا عن التحليلات الإيديولوجية، مع الأخذ في الحسبان أن هذه الأنظمة دائمة التغير والتشكل([1]).

  وما الأنظمة العقلية إلا معبرة عن وعي متعمد من منشئ النص، ويبدو في طريقة صياغته للجمل والعبارات وما تحمله من فكر ومقاصد، أما المقصود بالأنظمة اللاعقلية فهي التحيزات والأنساق المضمرة، التي تكمن في طيات التعبيرات، وفي مواقف الشخصيات وسلوكها، وفي آرائها التي تصدر بعفوية غير مقصودة.

   وكل هذا يستلزم تبحرا بحثيا، يغوص في مكامن النص، لكشف مثل هذه الأنظمة، وهو ما يلزم الناقد الثقافي بأن يكون واسع المعرفة، عميق الثقافة، ، كي يفك شفرات النص، ويعرف مراميه في التاريخ والسياسة والأديان، وأيضا الأبعاد النفسية والسوسيولوجية، فالنقد الثقافي هو حصيلة تفاعل معرفي وعلمي هائل؛ هيمن على الساحة الفكرية الغربية- كما يشير عبد الله إبراهيم- في زمن كانت فيه العناية بالأبعاد الثقافية للظواهر الأدبية والاجتماعية والدينية والسياسية والإعلامية هي السمة الأساسية والمشتركة في أهم اتجاهات الثقافة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الجدل الذي انتقل إلى الولايات المتحدة، وتجسد في العناية بالنقد الثقافي والتفكيك([2])؛ ولم يعد النص الأدبي مجرد مدونة حافلة باللغة والفكر والجماليات، وإنما أصبح بمثابة ميدان تتصارع فيه حقول معرفية عديدة، لكشف المخبوء والمستتر من فكر الفرد المؤلف، وما يتوجه به من خطاب نحو المجتمع، وفكرة المخبوء من أبرز المفاهيم التي طرحها النقد الثقافي -كما يذكر عبد الله الغذامي- وعبر عنها اصطلاحا بمفهوم “المضمرات النسقية”، وهي تعبيرات وكوامن ومضمرات في النص، لا يمكن فهمها ولا تحليلها بالمصطلحات البلاغية أو النقدية الأدبية، وإن كان هناك مصطلح يشابهها من البلاغة التقليدية وهو مصطلح التورية، الذي يعني دلالة قريبة ظاهرة للسامع أو المتلقي، ودلالة بعيدة يقصدها المتكلم، أي ازدواج دلالي بين البعيد والقريب، وهو ما يمكن أن تؤسس عليه حركة الأنساق الثقافية في بعديها المعلن والمضمر، مع أهمية النظر إلى أن الشق المعلن من الخطاب قد خُدِم نقديا بشكل كبير، وجرت الغفلة عن الأنساق المضمرة، مع جليل أثرها، وعظم خطرها، خاصة أن المضمر النسقي فيه منه مضمر لاشعوري، يكون في لاوعي المؤلف وأيضا في لاوعي القارئ، وقد تواجد عبر عملية من التراكم والتواتر حتى صار عنصرا نسقيا، يتلبس الخطاب، من مؤلفين وقراء([3])، ويقابله النسق المعلن الظاهر في الصياغة الأسلوبية وبنية النص والمفردات والأخيلة.

    فالنسق محور مركزي في النقد الثقافي، ويتحدد مفهومه حسب وظيفته، حيث تتم الوظيفة النسقية في وضع محدد ومقيّد، عندما يتعارض نسقان من أنساق الخطاب: المضمر مع الظاهر، وقد يكون المضمر ناسخا وناقضا للظاهر في النص الواحد، ويشترط أن يكون جماليا، على أن تقرأ هذه النصوص قراءة تشريحية ثقافية، وليست جمالية فحسب، لتخضع مختلف الدلالات للكشف والتحليل والتأويل، مع الأخذ في الحسبان أن الدلالة النسقية ليست من صنع المؤلف، ولكنها مكتوبة بفعل ثقافي شامل يضخ محمولاته في ثنايا الخطاب([4])، والفعل الثقافي يعني التصورات والمفاهيم والقناعات والتحيزات السائدة في المجتمع، والتي تنعكس بشكل تلقائي في النص، وكأنها ميثاق في اللاوعي، بين الكاتب وبين قرائه في مجتمعه.

  هذا، ويلتقي مفهوم النسق عامة، والمعلن والمضمر منه خاصة مع ما يطرحه ميشيل فوكو، فأيُّ خطاب فيه ما أسماه “القبليات الصورية” التي تشمل سلطتها كل شيء، وهي العبارات والألفاظ والمفاهيم التي يتفق عليها منشئو الخطاب، سواء كانوا جماعة إنسانية صغيرة، أو مجتمع كبير، أو علماء في علم بعينه. وهذه القبليات الصورية، يمكن إرجاع نشأتها إلى الأبعاد السيكولوجية  أو الثقافية، أو التاريخية، والنظر إلى مواضع الاندماج والانبثاق والاقتحام، ويتخذ أشكالا مختلفة من الوضعية([5])، وما القبليات الصورية إلا مختلف صور الأشكال والملفوظات التي تحتويها النصوص في مفهومها الشامل، سواء كانت مسموعة أو منطوقة، وتظهر أيضا في الصور والمنحوتات وطرز الملابس وغيرها، لتعبر عن أبعاد نفسية وثقافية، ناهيك عن البعد التاريخي، وكل هذا يتحقق في النقد الثقافي الذي يجعل من النص موضوعا له، ولكن المقصود هو النص بدلالته الواسعة التي يشرحها صلاح قنصوه بأنها ليس هو مكتوب فقط، وإنما يشمل أية ممارسة إنسانية، مادية أو فكرية، لها دلالة، وهو ما يشمل الواقعة اليومية والحادثة التاريخية، ويختص النقد الثقافي بكشف حدود وإمكانيات النص، من حيث منتجيه ومستقبليه([6])، وبذلك يتسع مفهوم النقد الثقافي ليشمل مختلف الممارسات وأشكال الخطابات المنتجة، مثلما يتسع اشتغاله ليكون معنيا بالتفسير والشرح، لما تتضمنه هذه الممارسات من أفكار ومعان.

النسق التاريخي الظاهر والنسق الثقافي الضمني:

    تمثل رواية “اليهودي الحالي” لعلي المقري، نموذجا يمكن تطبيق منهجية الأنساق عليها، بالنظر إلى طبيعة مضمونها الذي يتناول قضية العلاقة بين اليهود والمسلمين في مجتمع اليمن في القرن السابع عشر، مثيرة إشكالية التعايش بين أقلية دينية متمثلة في اليهود، والذين هم منغلقون بطبيعتهم على أنفسهم، ومتمسكون بديانتهم، بوصفهم شعب الله المختار، في مجتمع مثل اليمن، تدين غالبيته بالإسلام.

    ويمكن قراءة الرواية في ضوء تعدد الأنساق، بمعنى أن هناك النسق الظاهر الذي نرصده في المتن السردي من مقولات وتعبيرات ومواقف، وهناك النسق المضمر، الذي يبدو فيما وراء المنطوق، وما تخبئه الأسطر، وما تحمله سلوك الشخصيات ومواقفهم، وأيضا آرائهم التي تخالف النسق المعلن المتداول.

   وهناك أيضا النسق التاريخي، والذي يعني قراءة الرواية في ضوء سياقها التاريخي، من أجل الكشف عن العلاقة بين اليهود والمجتمع اليمني في حقبة تاريخية بعينها، ويلتقي معه النسق الضمني، والذي نفسره هنا بأنه الغايات المرادة من قبل المؤلف في هذه الرواية، وكما يقول وين ووث فإن العمل الأكثر وضوحا هو إخبار القارئ عن الحقائق التي لا يستطيع أن يتعلمها بسهولة، فللمؤلف يختار أن يقدم حقائقه وملخصاته كما لو أنها تأتي من عقل واحد من شخصياته ([7])،أو ضمن بنية السرد ولكنها الحقيقة التي يريد المؤلف تعريفها للقارئ، وهي -بالطبع- قد تخالف الحقائق الأصلية الكائنة في الواقع، أو بالأدق هي الآراء التي يرومها المؤلف، وتعبر عن قناعاته، ويبثها في ثنايا المتن السردي، ويشرحها ووث بأنها تطفلات من القيم والمعتقدات التي تمثل إغراء خاصا للروائي كي يضمّنها سرده، وتعتمد على نوعية عقل المؤلف وتوجهاته؛ شريطة أن تُقَدَّم بطريقة مقنعة([8])، وإلا جاءت مباشرة جافة منفِّرة. ولاشك أن الاعتراض ليس على ما يقدمه المؤلف، فهذا حق له، وإنما على التناغم بين الفكرة والشيء المُمَسرَح (المسرود)، فعدم التناغم بينهما سيفسد العمل، مع أهمية أن يعطي الروائي الفرصة للمتلقي بالحكم على شخوصهم بدقة([9]).

 وبعبارة أخرى، فإن كل عمل إبداعي يحمل وجهة نظر وآراء من قبل مؤلفه، وتكون البراعة الإبداعية في إقناع القارئ بها، ضمن بنية العمل ومتنه. وهذا في رأينا يستلزم الوقوف برؤية كلية على العمل كله، وليس فقط مقولات الشخصيات التي حملت وجهة نظر المؤلف، وإنما ننظر في  مجمل الإشارات النصية والسردية، ونبحث في مدى التناغم والاتساق بين الرؤية والبنية والأسلوب والإشارات اللغوية.

  وفي رواية اليهودي الحالي، اختار المؤلف القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري)، بوصفه نسقا تاريخيا -وأيضا زمنا للسرد- الذي جرت فيه أحداث الرواية، فقد استهل روايته، بفقرة تنقلنا مباشرة إلى اليمن قبل ثلاثة قرون، وبلغة مشابهة لأسلوب كتب المؤرخين قديما، حيث يقول في مستهل الرواية على لسان البطل اليهودي سالم: “ودخلت سنة أربع وخمسين وألف (يوافق 1644م) فيما يؤرخ به المسلمون للزمن، وفيها بعد أن عصفت بي رياح الدهر، ونكبني الموت، قررت أن أدون هذه الأخبار عن أيام فاطمة، وزمنها، حتى هذه السنة التي تزوّجت فيها حُلما، لننجب فيها توأمين: ألما وفجيعة”([10])، وكأنه يعود بنا إلى حقبة سابقة للمجتمع اليمني، كنموذج للمجتمعات الإسلامية، التي حوت أقليات دينية ومذهبية عديدة، في دلالة على أن النسق التاريخي يوحي بأن التعايش المجتمعي كان عنوانا لهذه الحقبة، بل هو عنوان للتاريخ الإسلامي كله، وقلّما قرأنا أن هناك مشكلة مع الأقليات اليهودية أو المسيحية، أو حتى صراعات حربية معها، ربما تكون هناك فورات غضب أو احتجاج، ولكن الثابت في التاريخ الإسلامي الممتد لما يقارب من أربعة عشر قرنا؛ أن أتباع الأقليات الدينية (المسيحية، واليهودية، وغيرهم) تمتعوا بمكانة طيبة، حيث تم تأمينهم على معابدهم، واحترام شعائرهم وشريعتهم، ونالوا مناصب رفيعة في دولة الخلافة وفي الممالك الإسلامية، حافظوا بها على كينونتهم الدينية، التي منعتهم من الذوبان التام في المجتمع المسلم. كما حفظت الدولة المسلمة كيان أهل الذمة بشكل عام، فلا يجوز -مثلا- للمسيحي أن يتهود، ولا لليهودي أن يتنصر، ولا يوجد تغيير في الدين إلا بالدخول في الإسلام، وأن حياة الذمي هي نفس حياة المسلم، وأن ديته هي نفس دية المسلم، ولم يُجبَر اليهود على العيش في أحياء مغلقة (كانتونات) على نحو ما كانوا يعيشون في أوروبا في القرون الوسطى، وإنما لهم أن يعيشوا –إن رغبوا- وسط أحياء ومدن المسلمين وقراهم، ولهم أن يمتهنوا من المهن ما يشاءون، بجانب إجادتهم لعدد من الصنائع والحرف التي ربحوا منها المال الوفير، وتوارثوها فيما بينهم، مثل التجارة والصرافة وصياغة الذهب، والزخارف، كما كان لهم قضاء خاص بهم، حيث كانت مشكلاتهم ينظر فيها قضاة من اليهود، ووفق شريعتهم([11])، وقد آثر اليهود أن تكون لهم أحياؤهم الخاصة بهم، فيما يسمى عادة حارة اليهود، التي تتفرع منها حوارٍ أصغر، ويعيش فيها غالبية اليهود في المدينة، وقد استخدم السارد -في رواية اليهودي الحالي- تعبير الحي اليهودي مرات، حينما وفدت ثلاث نساء يهوديات إلى الحي اليهودي، هربا من تهديد فقهاء إسلاميون لهن بالقتل، واتهموهن بإفساد أولاد المسلمين وبناتهم([12])، في تلميح إلى امتهان بعض اليهوديات للغناء والرقص، وجذبهن شباب المسلمين للتسلية والمتعة، وهي مهنة عُرِف بها اليهود قديما. ومصطلح “الحي اليهودي” لم يكن بمعزل عن بقية أحياء المدينة، بل هو جزء منها، وقد سُمّي بذلك لأن أغلبية سكانه من اليهود، ولكن عاش بينهم مسلمون. فمن لوازم الاجتماع والعمران، أن الناس تختار السكنى بجانب من يقاربونهم في الدين أو الأصل أو العرق أو الثقافة، لوجود كثير من المشتركات بينهم، مما يعمق التواصل الاجتماعي والحياتي، وهذا لاشيء فيه، ماداموا غير منعزلين قسرا من قبل المجتمع، أو هم قد عزلوا أنفسهم ترفعا أو تكبرا.

  على جانب آخر، فإن بعض اليهود في الرواية آثروا السكن بعيدا عن حارتهم، وعاشوا وسط المسلمين، مثل شخصية المغني حاييم الذي رفض تغيير سكنه، المجاور للمسجد، تولّهًا (عشقا) بصوت المؤذن، فلا ينام حاييم إلا بعد أن يسمعه يردد تسابيح ما قبل صلاة الفجر([13]). فحاييم يعشق صوت المؤذن الجميل، خاصة في الآذان أو عند التسابيح، ولنا أن نتخيل أن هذا في زمن لم تكن فيه مكبرات الصوت أو الإذاعات، بما يعني أن حاييم كان ينصت تمام الإنصات للمؤذن، المعتمد على حنجرته وهو على المئذنة، التي يرتقيها للنداء على الصلاة. وهي إشارة دالة أيضا على أن حاييم يعشق صيغة الآذان، ووقع التسابيح الفجرية ببنيتها المسجوعة النغمية، وأيضا ترتيل القرآن الكريم، بآياته ذات الوقع النغمي الراقي.

    وجدنا أيضا كثيرا من التقاليد التي كان عليها المجتمع اليمني في هذه الحقبة التاريخية، فالنساء محجبات دوما (والحجاب يعني إخفاء الوجه) أمام الرجال الأغراب، أو إذا خرجن إلى الشوارع، وتلك عادة موجودة حتى الآن في المجتمع اليمني، وأيضا في كثير من المجتمعات العربية في البيئات المحافظة ذات الأصول البدوية أو الريفية، ويبدو أنها كانت سمة عامة في المجتمعات المسلمة في القرن الحادي عشر الهجري، عندما كانت المجتمعات المسلمة في ذروة تقاليدها المنبثقة من الإسلام هديا وشريعة، والتي امتزجت بالحياة والعادات والتواصل الإنساني.

   وهو ما يلاحظه بطل الرواية سالم، بأن المرأة غير المحجبة كانت تعني عنده أنها غير مسلمة، والمثال على ذلك، ما يرويه ذات مرة: ” عندما وصلت إلى المحل، وجدتُ امرأة شابة تجلس في بابه، تعرّفت عليها سريعا، إذ لا حجاب يغطي وجهها” وكانت نفحة المزينة([14]). فدلالة الحجاب في الرواية تعني النقاب الآن، وكان سمة للمرأة المسلمة بشكل عام وقتئذ، وهذا يعطي صورة غير مباشرة عن هيئة النساء إذا سرن في الشوارع أو خرجن من البيوت في هذه الحقبة التاريخية.

   وقد كان لسالم الفتى حظوة خاصة في روحاته إلى بيت المفتي، كانت فاطمة تكتفي بغطاء الرأس أمامه فقط، ولا تنتقب؛ لصغر سنه (اثني عشر عاما)، ولأنه كان دائم التردد عليهم حاملا الحطب أو لإصلاح بعض الزخارف في البيت لأنه يتقن صنعة أبيه، وهي فن التشكيل بالجص والزجاج([15])، وهي الحرفة التي اشتهرت بها عائلة سالم، وكانوا يتوارثونها عن أجدادهم، وبرعوا فيها، وهو ما يؤكد أن اليهود حرصوا دائما على احتراف صناعات وحرف تدرّ عليهم الربح الوفير، ويتميزون بها في المجتمع، وغالبا ما يقصرون تعليمها على أبناء الطائفة دون غيرهم.

   ولعل المأخذ الأساسي على الرواية أنها لم تقدم لنا تفصيلات تشعرنا بالحقبة التاريخية التي كُتِبت فيها، سواء على صعيد الوصف السردي لليمن في هذه الحقبة، في الشوارع والحارات وتخطيط المدن وشكل البيوت، والأطعمة والأشربة وغير ذلك،

لنتعرف على شكل المدينة اليمنية وأحوال أهلها في القرن الحادي عشر الهجري، وكان السبيل للمؤلف في ذلك هو الاطلاع على كتابات المؤرخين في هذه الحقبة، فضلا عن دراسة الآثار المعمارية المتبقية منها، ليكتمل المتخيل التاريخي في ذهنه، وينعكس على أجواء الرواية متنًا وسردا ووصفا، وكي يُحدِث للقارئ الإيهام التاريخي المبتغى، ولكن اكتفى السارد بالإشارة الأولى عن زمن الرواية، ومن ثم تحوّل السرد إلى سرد ذاتي، بضمير المتكلم، في بنية روائية حديثة، ولم نجد أية أسلوبية لغوية تماثل ما شاع من أساليب الكتابة في هذه الحقبة، وبعبارة أخرى: أوهمنا المؤلف في المفتتح أن زمن الرواية في القرن الحادي عشر الهجري، وكتبها بأسلوب وروح وفكر الرواية الحديثة، ونستحضر في هذا السياق رواية الزيني بركات لجمال الغيطاني، التي كتبها عن حقبة المماليك، وعكف سنوات دارسا للأسلوب التاريخي الذي كان سائدا في الكتابات السردية التاريخية في هذه الحقبة (القرن العاشر الهجري)، فهي هي رواية تراثية تندرج ضمن التخييل التاريخي، وتتخذ من زمن المماليك قناعا لإدانة الحاضر السياسي، المتمثل في سيطرة أجهزة الدولة الأمنية على مشهد السلطة، فكانت بنيتها السردية تراثية اللغة والمفردات، بما يتواءم مع الأحداث والشخصيات، ومن أجل تحقيق الإيهام المطلوب للمتلقي([16])، ومعلوم أن الغيطاني استفاد من كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور، لابن إياس، على صعيد اللغة، ووصف الأمكنة، وأحوال الناس وعاداتهم، من أجل تحقيق الإيهام التاريخي المبتغى. 

 ولكننا نرى في رواية اليهودي الحالي أن أسلوب المتن ولغة الحوار كليهما يشابه الدارج في الروايات المعاصرة، بنفس المفردات والتعبيرات، وكأنه أراد كتابة رواية تاريخية بلغة روائية حديثة، ناهيك أن أجواء السرد كلها تدور بمنظور حديث، من خلال العلاقة الخاصة التي ربطت سالم بفاطمة، ودفعت فاطمة إلى تعليم الصبي القراءة والكتابة، وهو ما أوجد معارضة شديدة من أسرة سالم، خاصة أبوه، قبل تراجعه، بعدما حاور فاطمة، واستمع لوجهة نظرها، ومن ثم فكّر كثيرا، ثم أيقظ الأب ابنه سالما ليلا ليقول له: اسمعني وافهمني.. تعلّم لديهم القراءة والكتابة، هذا معقول. لكن انتبه، حذارِ أن تتعلم دينهم وقرآنهم، هم مسلمون يا بني، ونحن يهود، هل فهمتني؟([17])، فالتعبيرات والمفردات كلها حديثة، وإن صيغت بالفصحى، وقد جاءت ضمن توجيه الأب لابنه سالم، عندما عرف أن فاطمة تعلمه القراءة والكتابة بالعربية، فاستحضر تحيزه بوصفه يهوديا ضد الإسلام، وإن كان قد رحّب بمبادرة التعليم ذاتها، والتي نرى أنها تأتي ضمن التخييل الإبداعي الذي بنى عليه المؤلف روايته، مفترضا أن علاقة عاطفية ربطت بين سالم الذي يصغر فاطمة بسنوات، وعلمته من أجل ذلك العربية قراءة وكتابة، وأعطته الكثير من الكتب العربية التي توافرت في مكتبة والدها المفتي، وعلّمها سالم في المقابل العبرية، وأحضر لها كتبا يهودية، مكتوبة بالعبرية. وهي العلاقة التي تفتقد المنطقية، في ضوء الشرط التاريخي الذي جرت فيه أحداث الرواية، والتي يصعب أن يكون هناك تعليم بين بنت وولد، في مجتمع محافظ مثل اليمن، وبين فتاة مسلمة وفتى يهودي، ونرى أن الأمر كله هو إسقاط قناعة معاصرة على أحداث تاريخية متخيلة، والتي تطورت لاحقا إلى علاقة حب ثم زواج، معلوم أن هذا لا يمكن تحقيقه في مثل هكذا مجتمع.

   على صعيد آخر، نلاحظ أن المؤلف واصل إسقاط قناعاته، في حوارات متخيلة، تتعلق بمجادلات دينية، بين شخصيات يهودية ومسلمين، ومنها ما جرى من مناقشة حول الأرض المقدسة، حيث تلا سالم على حاييم المغني قوله تعالى {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (المائدة، 21)، وكان ذلك في حضور مؤذن المسجد، وقد استحسنوا تلاوة سالم، بصوته الجميل، وترتيله المؤثر، واستغربوا ذلك منه. وقد انبرى رجل يهودي، وهو أسعد، وقال: إن الأرض المقدسة (فلسطين) لليهود فقط، وليست لغيرهم، فقد قال:” أعطني تفسيرا آخر لو في عندك..، من ثلاثين سنة وأنا أحفظ ما يقوله المسلمون، في كتب تفسير القرآن والتاريخ عن هذه الآيات، فالأرض المقدسة التي كتبها الله لبني إسرائيل وجعلها سكنا لهم”([18])، بما يعني أن اليهود لهم سكنى الأرض المقدسة، في فلسطين أو غيرها، وهذا حق لهم، ولا يجوز للمسلمين أن يسكنوا فيها. وهذا من ضمن ادعاءات اليهود التي يقولونها اليوم. ولكن التفسير الصحيح أن من يرث هذه الأرض ليسوا يهود اليوم بما هم عليه من فساد عقدي، وإنما كان الأمر لمن آمن من قوم موسى بمناجزة أعداء الله العمالقة الوثنين الذين استولوا على الأرض المقدسة أرض فلسطين، وما حولها وأمرهم موسى بطردهم منها، لأنها أرض إسلامية لا يحل لهؤلاء الكفار الوثنين أن يحكموها ويسوسوا أهلها بالكفر والشرك، والنبي موسى، وجميع الأنبياء دينهم الإسلام، والخطاب القرآني هنا موجه لأمة محمد كما يذكر القرطبي حتى تكون الأرض المقدسة لمن كانت عقيدته التوحيد، أي الإسلام([19])، مصداقا لقوله سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}(يونس،84)، فهي ليست حكرا على اليهود، وإنما الآية تتناول قصة موسى مع الأرض المقدسة، تروى إلى الجماعة المسلمة، كي تكون القصة عبرة لهم، لاستنقاذ الأرض المقدسة من أية كفرة أو وثنيين، لا أن تكون حكرا على اليهود.

   وبالعودة إلى الرواية، فإن سالما انتبه القلق من كلام أسعد، وهو يحاجج المؤذن، فيروي عنه سالم: ” أسعد الذي بدأت أكتشف ملامح أخرى له، شعر بهواجسي القلقة، (فقال): لا يفجعك كلامه (المؤذن)..اليهود لن يسكنوا أورشليم فقط، بل سيسيطرون على كل الدنيا، عندما يظهر المسيح المخلص سنحكم في أوروشليم، آح .. آح…” تنهد، وأضاف: سيجلس اليهودي الأصيل، اليهودي ابن اليهودي، ولا أحد غيره، على كرسي المُلك في أورشليم، وسيأمر بإبادة كل الأعداء، هذه إرادة الرب”([20]).

   لندرك من خلال مقولات أسعد، أن الحلم اليهودي راسخ في أدبياتهم ومخيلتهم عبر القرون، وأنهم في حقيقتهم ديانة متوارثة، لا تقبل أتباعا لها، وكأنهم احتكروا اليهودية في سلالاتهم فقط، وهم يحلمون بالسيطرة على العالم، بما يتلاقى مع مقولات الصهيونية، وأساطيرها، التي تأسست عليها دولة إسرائيل.

    وهذه المقولات ترسخت في الوعي واللاوعي الأقليات اليهودية، سواء عاشوا في الشرق أم في الغرب، فقد كان حلمهم الدائم العودة إلى أرض الميعاد، مع حلول الخلاص المسيحاني، وهو ما يفسر تفضيلهم العيش في الجيتو الخاص بهم في المدن الأوروبية، حيث يغلقون عليهم أسوار الجيتو ليلا، مما جعلهم ينعزلون لاشعوريا عن المجتمعات التي عاشوا فيها، وزاد اندماجهم الذاتي مع أنفسهم([21]).

   ونرى أن الرسالة الأساسية التي يرومها المؤلف في روايته أن التعايش كان قائما بين اليهود والمجتمع اليمني المسلم خاصة، بوصفه نموذجا لحال اليهود في بقية المجتمعات الإسلامية، وهذا مقصد المؤلف- في رأينا- من اختيار هذه الحقبة التاريخية، قبل العصر الحديث، وبالطبع فإن الوضع في العصر الحديث يختلف عن الماضي، فالمشكلة ليست مع اليهود بوصفهم دينا سماويا، أو أقلية، أو شعبا، وإنما المشكلة في المشروع الصهيوني الذي يحوي ضمن شعاراته استعلاء لليهود في الأرض، واحتلال فلسطين، والتنازع مع المسلمين حول القدس والأقصى، وغير ذلك من أوجه الصراع. وهذا لا يمنع من وجود سجالات عديدة، حول قناعات كل طرف (المسلم واليهودي) إزاء الآخر، وقد تشمل كراهية مضمرة، وتعايشا معلنا، ولكن يظل كل طرف محتفظا بقناعاته، التي ينقلها إلى الأجيال التالية له، وشتان ما بين التعايش وبين الصراع الدموي.  

………………………………….

[1]) النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2005، ص31-33.

[2]) النقد الثقافي: مطارحات في النظرية والمنهج والتطبيق، د. عبد الله إبراهيم، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد 63، 2004، ص192.

[3]) النقد الثقافي، الغذامي، ص69- 71.

[4]) النقد الثقافي، عبد الله إبراهيم، ص195.

[5]) حفريات المعرفة، ميشال فوكو، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2، 1987، ص118، 119.

[6]) مداخلة د. صلاح قنصوه، في ندوة النقد الثقافي، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد 63، 2004، ص111.

[7]) بلاغة الفن القصصي، وين بوث، ترجمة: د.أحمد خليل عردات، د.علي بن أحمد، منشورات جامعة الملك سعود، الرياض، 1415هـ، 1994م، ص197.

[8]) المرجع السابق، ص212.

[9]) المرجع السابق، ص213.

[10]) اليهودي الحالي، علي المقري، دار الساقي، بيروت، ط2، 2011، ص7، وسنشير إليها بعدئذ في الهامش باسم الرواية، مع رقم الصفحة.

[11]) اليهود في البلدان الإسلامية، د. عطية القوصي، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، سلسلة فضل الإسلام على اليهود واليهودية، العدد (2)، 2001، ص11- 13، وأيضا ص49.

[12]) الرواية، ص72، وفي مواضع أخرى.

[13]) الرواية، ص35.

[14]) الرواية، ص58.

[15]) الرواية، ص41.

[16]) الزيني بركات، جمال الغيطاني، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1994.

[17]) الرواية، ص11.

[18]) الرواية، ص51.

[19]) تفسير القرطبي،  شمس الدين محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، دار الفكر، دمشق، د ت، ج6، ص82.

[20]) الرواية، ص52.

[21]) الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية، د. رشاد عبد الله الشامي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1986، ص18، 19.

مقالات من نفس القسم