النفق

فن تشكيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ليلى عبدلاوي
حين وصل إلى المحطة، كان المسافرون الذين أقبلوا باكرًا ليستقلوا أول قطار قد أخذوا أماكنهم على الرصيف، وأخذهم العالم الافتراضي على هواتفهم، تطفو على وجوههم بين الحين والآخر ابتسامات.
قصد غرفة الملابس، وارتدى حُلّة العمل، بدا له النفق المظلم كأول طريق يسلكه القطار وهو يغادر المحطة. لم يكن يستطيع أن يتغلب على شعوره بالرعب كلما تأمل منعرجاته الغريبة، على جدرانه ظلال يُخيّل إليه أنها تشير إليه أن يقترب.
قصد مكان عمله متحاشيًا النظر إليها. لاحت له امرأة شقراء تجرّ حقيبة، ذكره لون شعرها بالفتاة الحسناء التي تزوجها منذ عقدٍ من الزمن، طالما اعتبرها هدية من السماء.
حياة مرت عليهما كالحلم، زينها وصول ثلاثة أطفال، أقبلوا تباعًا، واستُقبلوا بحب، واستمرؤوا رعاية أبوين شغوفين. لكن سقطة زوجته من أعلى الدَّرَج غيّرت حياة الأسرة رأسًا على عقب.
هي تعيش معه الآن بجسدها، لكن وعيها غائب، على محياها يرتسم قناع لا يعرفه، وفي عينيها جحوظ غريب.
قد تستعيد ذاكرتها للحظات، فتبتسم للأولاد، تقبّلهم، وقد تنهض من مكانها لتقصد المطبخ بفعل العادة، لكنها لا تلبث أن تعود لغيابها وهي تنظر إلى لا شيء، وقد احتل القناع القاسي محياها من جديد.
تحتله رغبة عارمة في النوم، يحاول مقاومة ذلك الشعور، يغمض عينيه، يفتحهما، يبالغ في صبّ الماء على وجهه ورأسه.
أعدّ للصغار طعامًا ليومٍ كامل، غسل ثيابهم، نظّف المكان، وساعد ابنته الكبرى على الاعتناء بأمها، ثم غادر.
تذكرها، تخيّل ساعديها الصغيرين يشتغلان بهمة تتجاوز سنها التاسع بكثير. انتابه قلق، هاتفها:
ـ هل أغلقتِ باب البيت أم نسيته مفتوحًا؟
يا إلهي! قد تفعلها زوجته مرة أخرى وتخرج هائمة على وجهها، ويضطر إلى البحث عنها ثانية في كل مستشفيات المدينة.
“ماذا أفعل؟ هل أستأذن رئيسي في العمل وأعود إلى البيت لأتأكد من إغلاق الباب؟ لكنني تجاوزت الحدود المسموحة في التأخر والغياب…”
دمعت عيناه، الفرح يغيب، والحياة أضاعت طعمها. وفي المساء، يستقبله البيت بصمت، وتستقبله أطباق طعام باردة فقدت نكهتها منذ ساعات، وخلف الباب الموارب، يتراءى له طيف ابنته الكبرى تتقمص دورًا يكبرها بأعوام، وفي أعين الصغار أسئلة حيرى تنتظر الجواب…
تطلع إلى مكتب الرئيس من خلال الواجهة الزجاجية، رآه يجلس في مكتبه؛ رجل أنيق يتأمل شاشة وينقر لوحة مفاتيح، نافيًا العالم من حسابه…
أحسّ باليأس، واستعدّ للعودة إلى مكانه وهو يدعو الله في سرّه أن يلطف به وبأسرته.
فجأة، لمحت عيناه شيئًا، تسمر في مكانه، لا يصدق ما يرى!!
بدت له زوجته بلباس النوم تهبط الدَّرَج المفضي إلى الأرصفة، ثم تخطو حافية القدمين نحو النفق.
اختلط صوت صفارة الإنذار بصوت فتاة تعلن عن انطلاقة القطار، أسماء مدن مجهولة تتمازج في مسامعه…
تستمر زوجته في التقدم؛ يناديها، يصرخ بقوة، يضيع صوته المبحوح في الفضاء. تتحرك القاطرة، يلوّح الركاب بأيديهم.
تقترب زوجته، يعلو الصراخ.
يجري، يجري، يختنق صوته في حلقه.
يقع جاثيًا على ركبتيه.

……………..

*كاتبة من المغرب، من مجموعتها القصصية الأولى “زوابع الصمت”.

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

خبيني