د. إبراهيم منصور
عبد العزيز إسماعيل (مولود 1950) كاتب مسرحي موهوب، لكنه للأسف لم يواظب على الكتابة المسرحية، فقد كتب عن “كشف النقوط” مسرحية اجتماعية وعن “غطريف الأرشيف” كوميديا ساخرة، كما كتب عن القضية الفلسطينية مسرحية بعنوان “انتفاضة ترعاها السماء” أما مسرحيته “تتي تتحدى النيل” (دار منازل، القاهرة 2025) فهي دراما تاريخية وكان المؤلف قد نشرها بعنوان “وفاء” (إيزيس للإبداع، القاهرة 2008) تراجيديا في ثلاثة فصول، أما في الطبعة الجديدة فقد عدّل العنوان إلى “تتي تتحدى النيل”، كما أعاد تقسيم الفصل الثالث إلى فصلين فصارت المسرحية في أربعة فصول.
****
تعالج مسرحية “تتي تتحدي النيل” فترة تاريخية من حياة الملك رمسيس الثالث (1192-1160 ق. م.) وهي حقبة شهدت لونا من الضعف في حياة الملك المصري الذي أطلق عليه “آخر الفراعنة العظام” وقد ذكر الدكتور أحمد فخري أن رمسيس الثالث حكم مصر اثنين وثلاثين سنة وأنه عندما تقدمت به السن بدأت عوامل الانحلال مرة أخرى تظهر من جديد (مصر الفرعونية ص .293) وكان الملك قد اتجه للإسراف واللهو فأخذت الحالة الاقتصادية تتدهور في النصف الثاني من حكمه ( مصر الفرعونية ص.296) ويرصد المؤرخون وخاصة ما جاء في بردية هاريس، أن الكهنة قد حازوا ثروة طائلة وأن هذا العهد قد شهد ابتداء تولي الأجانب وظائف الدولة العامة وبخاصة في البلاط ( مصر الفرعونية ص. 297)
أما الدكتور سليم حسن فيقول ” كانت المؤامرة في قصره (رعمسيس الثالث) تحاك له من وراء ستار لما كان بين نسائه من تحاسد وتباغض، مما عكر صفو شيخوخته الفانية، فانقلبت أيامه الأخيرة المعدودات بؤسا وجحيما، فدفع ثمن تلك الأيام الحلوة التي كان ينعم بها في قصره بين الغيد الحسان في متنزهه، الذي أقامه لهن في مدينة هابو” ويرى سليم حسن أن السيدة التي قادت المؤامرة ربما لم تكن زوجة رسمية للملك (موسوعة مصر القديمة ج7، ص. ص. 519 وما بعدها)
وفي كتابه “أمام العرش” لنجيب محفوظ (1911- 2006م) جعل رمسيس الثالث يعترف قائلا “ومن سوء الحظ أنني تعرضت في شيخوختي إلى مؤامرة في الحريم، لاغتصاب العرش، ونجوت من الموت بأعجوبة، ثم شكلت محكمة عليا لمحاكمة المذنبين وأمرت بالعدل بحيث لا ينجو مجرم ولا يؤخذ برئ ، ومن المؤسف أن قاضيين سقطا بإغراء بعض نساء الحريم ولما انكشف أمرهما انتحرا” (أمام العرش ص. 103)
وبذلك قدمت لنا كل من بردية هاريس وكتاب أحمد فخري وموسوعة سليم حسن، موضوع الدراما التي وقعت في قصر الملك رمسيس الثالث، بحسبانها مؤامرة في القصر من ناحية، ومحاكمة للمتآمرين- ومنهم القضاة والأمير بنتاؤور والملكة تتي- وعقابهم من ناحية ثانية (مصر الفرعونية ص. ص. 298- 299).
أما الموضوع الثالث الذي تتعرض له المسرحية فهو الاحتفالات بعيد الفيضان حيث كانت “الاحتفالات والطقوس تقام كل عام في موضعين: كهف حعبي ومضيق قرب أسوان، وقرب مقاييس النيل الأخرى، وخصوصا عند سد جبل السلسلة، فيقذفون في النيل الكعك وحيوانات الضحية والفاكهة والتمائم لتثير قوة الفيضان وتحافظ عليها، وكذلك تماثيل الإناث، لتثير إخصاب النيل العظيم (جورج بوزنر وآخرون: معجم الحضارة المصرية القديمة، ص. 346)
فكيف تعامل المؤلف عبد العزيز إسماعيل مع هذه المادة الدرامية المشوقة؟
*****
تبدأ مسرحية “تتي تتحدى النيل” في خيمة الاحتفال بعيد وفاء النيل وهو احتفال قومي أقيم في خيمة، وحضره الملك رمسيس الثالث ومعه الملكة تتي، وقدم فيه القربان للنيل، لكن القربان هذه المرة لم يكن أي قربان، إنه تضحية بابنة الملك الأميرة “ميريت” ولأن “القائد الشجاع” يحب الأميرة فإنه سوف يصاب بانهيار عصبي، كما أن الملكة ستبدي امتعاضها ورفضها التضحية بابنتها ولو كانت تلك التضحية من أجل النيل العظيم، أما الملك فهو لا يتردد في التضحية بابنته مادام نظام التضحية قد اقتضى ذلك، لأن النيل هو حياة الوطن ولا يريد الملك إلا الانصياع لإرادة الآلهة.
المنظر الأول عند جبل السلسلة فيما بين أسوان والأقصر، داخل خيمة ملكية ضخمة فخمة ، ويبدأ المشهد بالجوقة والكورس يشدون بنشيد النيل:
–فحق علينا لحابي العظيم.. أن نكون جميعا شاكرين
دمت لنا يا حابي العظيم، دمت لنا أيها الوفي النبيل ومرحبا” (المسرحية ص. 8)
كل ذلك في سبيل الاستعداد للاحتفال وفي انتظار حضور الملك وكبار الشخصيات، فيدور حوار بين الوزير والمايسترو ونفهم منه أن المايسترو يمجد النيل وحابي إله النيل عن اقتناع وصدق، أما الوزير فيسفه هذا التمجيد في النشيد ويرى تغييره إلى تمجيد الملك وكفى، ثم يظهر القائد ، وكل من المايسترو والقائد والوزير يعرفون بصفاتهم فهم مجهولو الأسماء في المسرحية. وأخيرا يظهر الملك على المسرح وتبدأ الاحتفالات التي يحضرها كل من الملكة تتي، ثم الكاهن الأعظم وكبير المهندسين وهما أيضا بلا أسماء كما هو حال الوزير والقائد والمايسترو.
من خلال الحوار المسرحي نفهم أن الملك غاضب لأن مستوى الفيضان منخفض، والملك يرى أن النيل وحابي لا يخلف وعده، ولكن أفعال البشر هي التي تؤدي إلى انخفاض الفيضان، فالنيل لا يخلف وعده:
-إن منسوب المياه في النهر إن هو إلا مقياس وانعكاس لمدى الوفاء في سلوك البشر ” (المسرحية ص. 28)
ويشير الحوار المسرحي إلى أن تماثيل حابي هي جزء من الاحتفال بوفاء النيل، ثم يقف الكاهن الأعظم ويعلن التضحية بابنة الملك الأميرة الشابة الجميلة “ميريت” لتكون قربانا وزوجة لحابي. وينتهي الفصل الأول بإتمام الاحتفالات والتضحية بالأميرة وانهيار القائد الشجاع فهو عاشق للأميرة ميريت وخطيبها.
******
في الفصل الثاني يتغير المنظر إلى داخل القصر الملكي، ويبتكر الكاتب منظر الفراشات التي تطير وتتحدث بما يعادل الكورس في التراجيديا اليونانية، هناك تقدم تلك الفراشات التعزية في الأميرة التي راحت ضحية الاحتفال بوفاء النيل ومن أجل الإله حابي، كما يشير الحوار بين الفراشات إلى ما أصاب القائد من غيبوبة نتيجة التضحية بمحبوبته “ميريت”
وفي هذا المشهد نرى المؤلف يجسد الإله حابي في مشهد الفراشات بخلاف ما كان عليه الأمر في المأساة اليونانية حيث يصعب تجسيد الإله، فكان الشاعر اليوناني يلجأ إلى الآلة التي تنزل الإله من السماء وهو مأخذ كان النقاد يعيبونه على المؤلف لأن “الإله في الآلة ” كان حلا مفتعلا. أما الكاتب هنا فيأتي بالإله حابي لكي يتناقش مع القائد الشجاع ومع كبير الأطباء حيث يحاول هو ومساعدوه إفاقة القائد من غيبوبته، لكن الكاتب لا يتجاوز فقط مسألة الفرق بين الإله والبشر في هذا المشهد، بل يذكر أن كبير الأطباء قد استخدم وسيلة علاج من عصرنا نحن وهي الحقن في الوريد:
– كبير الأطباء: لابد من الحقن بهذا الدواء في الوريد وبسرعة
-المساعد: (بعد أن حقن القائد) يبدو أنه تجاوز، برغم ما حدث، ما كان عليه من قبل (المسرحية ص. 56)
وفي موضع آخر من الفصل الثاني يذكر الكاتب أن كبير الأطباء ومساعديه قد قاموا بتحليل دم القائد، ونراهم يتحدثون عن العدوى والفيروسات والجراثيم، وكل هذا لا يمت إلى زمن ما قبل القرن العشرين.
ثم يدخل الوزير إلى حيث الأطباء والقائد المريض، ويدور الحوار المسرحي حول حادث الاحتفال :
– الوزير : ماذا تقول ؟ بل ماذا قال القائد عن كل هؤلاء؟
– كبير الأطباء: إن الوطن والملك والنيل وميريت يتعرضون الآن لشر مستطير، لموقف عسير ، ل..(المسرحية ص. 64)
هنا يبرع الكاتب في تطوير الأحداث وتصاعدها نحو الذروة، نحو ظهور معالم المؤامرة داخل القصر، ولكن الكاتب ظل مشغولا بحابي والنيل والوفاء، فكأنه تحير بين أمر الملك وكرسي الحكم وأمر الوطنية والانتماء والوفاء.
*****
وفي الفصل الثالث تجري أحداث المسرحية في قصر الملك حيث يحضر الحاجب وكبير الأطباء والملكة ويدور النقاش حول القائد وعلاقته بالأميرة، فالملك يعتقد في وفاء القائد وإخلاصه، ولكن الملكة تشكك في وفائه وإخلاصه، بل تتهم القائد بالخيانة والتآمر، وتطالب بعزله لأنه انتهك حرمة البيت الملكي وحاول الاعتداء على الأميرة ميريت واغتصابها، فيقع الملك في الفخ ويصدق الاتهام الجائر للقائد. وهذا المشهد برغم لا منطقيته، إلا أنه يسند رؤية المؤرخين أن الملك رمسيس الثالث كان قد بلغ من العمر عتيا، وأنه قد بدا ضعيفا منساقا، وكنا نتمنى دعم هذا الموقف بحوار خارج القصر أو داخله يؤيد فكرة انشغال الملك بنسائه وعبثه وتهاونه واضطراب ذهنه، حيث انتهى إلى لون من الضعف والهوان.
وفي المنظر الثاني، داخل القصر، في مخدع الملكة تتي، هناك نعرف بقية التفاصيل الخاصة بالمؤامرة
فتتكشف الوقائع ويحدث التنوير والتعرف، هنا نفهم أن المؤامرة يشترك فيها اثنان هما: الملكة تتي والوزير، فالملكة تتطلع إلى وضع ابنها الأمير بنتاؤور على كرسي العرش بدلا من أبيه، وهي في الوقت ذاته تعشق الوزير لذلك كان هو الطرف الثاني في المؤامرة، وقد أراد الوزير في ضربة واحدة أن يستولي على العرش وينال الأميرة ميريت.
إن الوزير الذي شاء الكاتب أن يجعله بلا اسم، ورد له اسم في المصادر، فنرى دكتور أحمد فخري يسميه “إرسو” ( مصر الفرعونية ص. 293) وهو من أصول أجنبية ، وكان كل من أرخ لتلك المؤامرة ذكر أن الأجانب هم أصل البلاء في تلك الفترة ، كما أن نجيب محفوظ في (أمام العرش) قد أرجع المؤامرة إلى عمل الحريم أي عدة نساء وليس تتي وحدها.
إن الكاتب هنا قد جعل الحاجب “زنجير” طرفا في المؤامرة على الملك، ولا أدري لماذا جعل للحاجب اسما بينما تجاهل اسماء القائد والوزير والكاهن وكبير الأطباء وكبير المهندسين؟
إن الملكة تتي في النص المسرحي لم تكن متحفظة لا تجاه الوزير ولا تجاه الحاجب “زنجير” :
– زنجير لا تتوجسي خيفة يا مولاتي، فإن براعة التخطيط ودقة التنفيذ علاوة على توافر الحافز النبيل لمما يؤكد توقع النجاح الأكبر” (المسرحيى ص. 94)
– الملكة ( وهي تحدث نفسها) إنني أحاول الحصول عليه لنفسي ليكون مقربا مني كما أشاء، ولأستطيع الاختلاء به وقتما أحب دون رقيب أو نسيب، فإذا به وقد رفضه الملك زوجا لابنتنا، أستجيب صراحة وبدون مواربة لنداء قلبي بأن يكون الوزير لي وحدي… وحدي فقط بدون شريك.. وليذهب الملك الهرم العجوز الأبله المعتوه إلى الجحيم ( تضحك في هستيريا) (المسرحية ص . ص. 95 – 96)
سوف يفهم النظارة من أطراف المؤامرة في القصر أن الأميرة ميريت لم تمت، ولم تقدم قربانا لحابي إله النيل، بل نقلت إلى جزيرة نائية وقدمت بدلا منها فتاة تشبهها وكانت مخدرة فلم تنكشف الخدعة التي دبرها كل من الوزير والملكة والحاجب زنجير، وهنا تبدو مؤامرة الملكة تتي ذات شقين الأول- قتل الملك وإقامة الأمير بنتاؤور السكير الفاسد على العرش مكانه، والثاني – التقرب من عشيقها الوزير.
*****
في الفصل الرابع ينتقل المشهد، المنظر الأول في جزيرة في النيل، حيث المواجهة بين الوزير والقائد الشجاع، يعرض الوزير على القائد بدون مواربة أن يكون جزءا من المؤامرة على الملك، وذلك بأن يأمر جنوده بالوقوف على الحياد، ولكن القائد يرفض، وفي هذه اللحظة يدرك المشاهدون أن الأجانب قد سيطروا على المشهد في ذلك الوقت من حكم الملك رمسيس الثالث:
– القائد (ساخرا) ومن هؤلاء الأجانب أيها الوزير، ألستَ واحدا منهم؟ ألم تكن ذات يوم دخيلا أجنبيا، جئت إلى هنا على سبيل المقامرة والسطو؟ (المسرحية ص. 131)
ولكي يقنع الوزير القائد بفكرة الانضمام للمؤامرة فإنه يخبره بما دبره هو والملكة تتي، فالملكة قد دبرت قتل
الملك لا محالة، هنا يثور القائد ويفك قيوده وويندفع كالإعصار نحو الوزير فيقتله، وينصرف مسرعا بغرض إنقاذ الملك.
في المنظر الثاني تنتقل الأحداث إلى حجرة الملك، حيث يرقد مريضا، والملكة تريد أن تعطيه دواء مقويا، وهو مشغول عنها بالنقاش مع كبير المهندسين عن أمور الدولة وخاصة نهر النيل والفيضان، والملكة تلح في طلبها من الملك أن يتناول الدواء الذي أعدة “زنجير” فيثور الملك ويأمرها بطرد زنجير اللعين، فتستجيب له، ولكنه تبقى على إلحاحها لكي يتناول الدواء، وفي النهاية تنجح في مسعاها فيتناول الملك السم الزعاف الذي أعدته له ويموت في الحال.
في نهاية المشهد الثالث يدخل القائد الشجاع لكي ينقذ الملك لكنه يصل متأخرا، فيأمر بالقبض على الجناة، كما يصدر الأوامر على النحو التالي:
– القائد … ملتفتا إلى كبير المهندسين، أما أنت أيها المهندس المخلص فيجب عليك أن تلحق بكبير الكهنة في المعبد لإبلاغه بهذه الأحداث المؤسفة، ودعوة قداسته للحضور هنا لتنصيب الأمير رمسيس الرابع ملكا على مصر. ( المسرحية ص. 160)
هنا نتوقع أن تنتهي المسرحية، لكن الكاتب يضيف منظرا أخيرا، يدور الحوار فيه في حقل بين فلاح وابنه حول النيل والوفاء للوطن والجد في العمل، وصحيح أن هذا الحوار يشير إلى تقصير الملك في سياسته التي أدت إلى تلك النهاية المؤسفة، لكني أرى أن نهاية المسرحية كان يجب أن تكون في المشهد الثالث الذي يمكن إطالته قليلا حتى لا يبدو مبتورا. ذلك أن المأساة إذا كان لها بداية ليس قبلها شئ، فلها وسط، قبله أحداث وبعده أحداث، ولها نهاية والنهاية يجب ألا يكون بعدها شيء حسب نظرية أرسطو في الدراما، والكاتب قد بدأ بداية جيدة، وتطور بالأحداث نحو ذروة الحبكة والانقلاب، لكنه بهذا المشهد الأخير أخل بالبناء خللا صغيرا.
*****
يستحق الكاتب المسرحي عبد العزيز إسماعيل الإشادة والترحيب بنصه المسرحي “تتي تتحدى النيل” فهو عمل درامي بني على أسس سليمة، واللغة المسرحية في الحوار جيدة جدا، وإن احتاجت لبعض المراجعة والتشذيب، لذلك ندعوه للاستمرار في الكتابة وتقديم مسرحيات جديدة على ألا يحاول العودة لهذه المسرحية بالتعديل فيها، ولو أنه أراد العودة لدراما رمسيس الثالث فلديه موضوع المحاكمة التي أجمع المؤرخون أنها قد جرت فعلا وأنها كانت محاكمة عادلة حتى أن بعض القضاة قد انتحروا حينما كشف أمر مشاركتهم في المؤامرة على القصر.





