النبيل صاحب العالم الإبداعى الجميل

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

على قطب

رحيل الأديب الكبير محمد جبريل (1938- 2025) يجعلنا نعيد النظر فى المشهد الأدبى بخاصة السردى فى القصة والرواية وذلك بالنظر فى أجيال إبداعية عاصرها جبريل الكاتب تلميذا وصاحبا وصديقا وأستاذا، فعلاقته الوثيقة بالأستاذ نجيب محفوظ وجيله هى التى منحته محبة الفن القصصى، وأضاءت الطريق لموهبته كى تنطلق مواصلة العمل فى مجال الواقعية، تلك الواقعية القارئة للتاريخ المعاصر، واالباحثة فيه عن مقومات الهوية، ومتغيّرات التطور، لقد كتب محمد جبريل عن ذاك الزمن الذى شهد تكوينه الذاتى فى طفولته بالأربعينيات وصباه فى قترة الخمسنيات، كما كتب محفوظ عن «كمال عبد الجواد» أيقونته فى العشرينيات والثلاثينيات، فاكتسبت القصة عند جبريل سمة التحليل الثقافى لبيئة النشأة بجمالياتها وتنوعها وعالميتها والتحولات السياسية والاجتماعية، ولا يمكن للقارئ المعاصر أن ينسى رباعية بحرى (أبو العباس وياقوت العرش والبوصيرى وعلى تمراز) إنها لا تعارض رباعية الإسكندرية التى كتبها لورانس داريل فقط بل هى تستكمل مشروع نجيب محفوظ فى الثلاثية من حيث الزمان والمكان، إن عالم جبريل يرتكز إلى العلامات الروحية بكل ما فيها من طاقة محفزة للخير والتفاهم والوصل بين الماضى والمستقبل، هذه الطاقة الروحية متغلغلة فى المجتمع ببنيته الأساسية وهى الأسرة، والأفراد بأحلامهم المنطلقة كالنوارس فى فضاء الإسكندرية مدينته الحبيبية، وكما هو الحال عند محفوظ فالأسرة لها حضور مهم فى عالم جبريل، وهكذا الحال فى مصر التى عشقها جبريل وكرّس إبداعه للكتابة عنها، ومثل أبناء جيله من مواليد نهاية الثلاثينيات وفترة الأربعينيات حاول محمد جبريل أن يتجاوز الواقعية التقليدية ويبحث عن أساليب متنوعة فكتب عن حكايات الأماكن وقراءة الصور متخذا من الفوتوغرافيا التى تحتفظ باللحظة مساحة تمنح البطولة للذاكرة كى يظل التأصيل داخل التحديث، وهو فى ذلك كله يمزج سيرته الذاتية بالمتخيّل القصصى، أما علاقة محمد جبريل بالجيل الذى يليه فهى مثال للمحبة التى تسير فى فضاء القاهرة العاصمة الثقافية العربية الكبرى، فكان الرجل يجمع، فى ندوة جريدة المساء، الشباب منصتا لأصواتهم وهمومهم ومشجعا لهم فكان الأب الروحى لهم، هنا يستكمل جبريل دور محفوظ ويحيى حقى ويمارس دور المثقف الواعى الذى يؤسس للقوة الناعمة مساحة تزداد بها وتزدان، وقد أسعدنى الحظ أن أقترب من محمد جبريل وهو يعد كتابه الأخير عن نجيب محفوظ فقد اقتربت منه وهو يعمل ويقرأ ويرتب ويراجع بدقة، وبالإضافة إلى ما كتب فقد كانت لديه ذكريات لا حصر لها يرويها بذاكرة صافية وسرد متدفق، ولا أستطيع أن أنسى أبدا تلك الأوقات التى جلست إليه فى منزله بمصر الجديدة، وقد أهديته روايتى «كل ما أعرف» وكم كانت مفاجأة رائعة أن أجده يكتب عنها مقالا أسعدنى كثيرا وكشف لى مناطق جديدة أضعها أمامى حينما أكتب، إن إنتاج محمد جبريل لا يقف عند القصة والرواية والنقد الأدبى لكنه أستاذ فى كتابة الدراسات الثقافية التى تفتح الباب الفاصل بين أدب النخبة واهتمام الشارع وقضاياه اليومية، ومن أجمل ما كتب جبريل سردية «عمر من الأغنيات» وهى نصوص فى تحليل الوجدان الجمعى عن طريق قراءة الفن الغنائى بخاصة الأغنية الشعبية الجمعية التى يمارسها الناس فى حياتهم منذ ألعاب الطفولة إلى التعديدة، وهو يؤدى هذه المهمة الجليلة فى حفظ الغناء الشعبى من خلال مواقف سردية متصلة بالنشأة الشعبية، ولا تستطيع أن تغفل صورته السردية التى كتبها عن «عفريت الليل» ذاك الرجل الذى يشعل مصابيح الشارع متحملا زفة الأطفال له ثم صورة الشارع الغارق فى الظلمة يوم رحيل ذاك الرجل، أو تحليله لأغنية «غريب الدار» لعبده السروجى وزمن الراديو الذى كان يشغل دور البطولة فى اجتماع الأسرة، والعلاقة بين الأغنية الشجية والقسوة التى تعانيها الأسرة بعد رحيل الأب، وأنا أشترك معه فى حب صوت «فايزة أحمد» التى خصص لها صفحات فى الكتاب، لقد كان محمد جبريل نبعا من جمال ملهم، افتقدته الساحة الأدبية لكنه فى ذاكرة الوطن واللغة وأجيال من تلاميذه ومحبيه، وهو يستحق أن تتحول أعماله إلى دراما مرئية لما فيها من نماذج شخصيات وجماليات الأماكن وتعالقها بتاريخنا وتمثيلها لأحوالنا الاجتماعية، وفى أعماله مجال للموازنة والمقارنة مع أعمال مصرية وعربية وعالمية، وهو جدير بالاهتمام ليس لاكتشافه فقط إنما لنكتشف هويتنا الإبداعية ونقتبس من وهج جذوته الجميلة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم