محمد الفخراني
المُمَرِّضة واقعية جدًا، تعرف قيمة الوقت، أقل من ثانية تنقذ حياة أو تُضيِّعها، تفهم هذا جيدًا.
هى أكثر مَنْ يُلامس الموت والحياة، هل مِن أحد يفعل هذا يوميًا، وبهذا القُرْب، والواقعية، تلمسهما حقيقة لا مجازًا، حرفيًا يكون أىّ منها بين يديها، وأحيانًا مُجتمعَيْن فى اللحظة نفسها.
المُمَرِّضة، قد لا تلاحظها، تبدو غير مرئية، وهى فى الوقت نفسه حقيقية جدًا، مثلها فى ذلك مثل الحياة والموت والوقت، هؤلاء الثلاثة هم أيضًا الأكثر واقعية فى العالم، وهى مثلهم، لا مرئية، واقعية، وحقيقية، كى يمكنها أن تلعب لعبتهم، تفهم خططهم، كى يمكنها أن تراهم، وتتتبَّع أثرهم، حتى أنها تسبقهم أحيانًا بخطوة أو اثنتين، والثلاثة يتساءلون، كيف لبشرية أن تلاعبنا، هى التى تبدو لهم غير فانية، وهذا يُعجِب الحياة كما يمكنك أن تتوقع.
ربما، لهذا هناك ذلك الزِىّ المُوَحَّد للممرضات فى كل العالم، اختلافات بسيطة هنا أو هناك، لكنها تنويعات على الزىّ الأصلى، كى تبدو لهؤلاء الثلاثة وكأنها مُمَرِّضة واحدة فى العالم كله، فقط تُبَدِّل ملابسها المتشابهة من وقت لآخر كى تراوغهم.
الموت، الحياة، الوقت، والمُمَرِّضة.
غير مرئية، لأنها الواقفة على الحدود بين عالَمَيْن، كى تُبقيكَ هنا، فى عالم الحياة، أو لتَعبر بك بسلام إلى العالم الآخر، كى تَدخله وأنت مطمئن، تُمسك بيدك، وتحميها من البرد والوحدة، فلا تكون ضائعًا حزينًا فى تلك اللحظات الأخيرة.
المُمَرِّضة تقف هناك على هذا الحدّ، لأجل سلامِك، كى تساعدك على البقاء هنا بسلام، أو العبور بسلام.
مهمتها: السلام فى كل الأحوال.
وأنت ستنساها فى الحالتين، (نحن ننسى أيضًا الموت والحياة والوقت، نتذكرهم فى اللحظات العميقة، الحاسمة) لكن ستأتى اللحظة، بعد أن يهدأ كل شىء، بعد أن تنسى ألمك ربما، أو قبل أن تنساه تمامًا، ستتذكر وجهها، وتراه، ذلك الوجه الذى كان معك، وحده كان معك، تتذكر تلك اليد الوحيدة التى كان معك فى الليل البارد، وكانت تدافع عن حياتك، تتذكر هذا الوجه، وتبتسم له، وتنتبه أنك حتى ربما لم تشكره، تنتبه أيضًا أنه لم يكن ينتظر منك أن تشكره، أو.. ربما لن تتذكر شيئًا من هذا كله، لا يهم.
هى تحب الحقيقة، وتحبها الحقيقة، تتفاهمان معًا بسهولة، المُمَرِّضة والحقيقة صديقتان.
“ملائكة الرحمة”، تبدو كجملة تصف الشخص الذى سيأخذك إلى العالم الآخر، وليس ذلك الذى ينقذ حياتك، أعتقد أن المُمرضَّة تُفضِّل أن توصف بشىء آخر، شىء أكثر خشونة، نعم، خشونة، وقوة، لن تهتم أن توصف أنها ملاك، أو مقاتل، أو محارب، ستختار لنفسها شيئًا عاديًا، أو لا شىء، حتى أنها ليس لديها الوقت لتفعل، ليست مهتمة بالألقاب، هى ببساطة: إنسان لا يعنيه غير حياتك، هذا يكفيها، ومن المُفتَرَض أن يكفيك.
لا يعنيها غير حياتك، ليس لأن هذه وظيفتها، أو واجبها، كما أنك لست أحد أحبائها، حتى أنها لا تعرفك، ليس لأىّ من هذا كله، إنما لأن هناك شىء أعلى، شىء إنسانى، وحقيقى، أكثر من مجرد المهنة، والواجب، حتى أنه يمكن لأىّ منا أن يراه بسهولة، شىء قادم من بعيد الزمان، وعمق المشاعر الإنسانية، كأنه شعور، غريزة، تظل كامنة داخل إنسانة ما، ولا تظهر إلا عندما تصير مُمَرِّضة، كأنه غريزة تخُصُّ المُمَرِّضات.
تلك الغريزة التى تجعلها تبدو قاسية أحيانًا، أو تتصرَّف بما يبدو أنه قسوة، هذا ليس لأنها اعتادت المرضى، ورؤية الألم، إنما لأنها تتصرَّف بغريزتها، وهذا حال كل الغرائز، دائمًا حقيقية، وحاسمة، أحيانًا غير مفهومة، وأحيانًا أخرى نفهمها بطريقة خاطئة، وحتى فيما يبدو أنها قسوة، فأنت تعرف أن هذه القسوة هى للدفاع عنك ضد شىء أنت لا تفهمه، ولا تراه، بينما تراه هى، وتفهمه.
المُمَرِّضة: الأخت الصغرى للأمومة.
قصة الحب مع المُمَرِّضة، ستكون من القصص المُفضَّلَة، يمكنك أن تتوقع أن كل شىء تقوله هى سيكون مقصودًا، وله معنى واضح، وأن كل شىء تفعله هى سيكون مقصودًا، وله معنى واضح، بلا ألاعيب، بلا تضييع للوقت، أو مهاترات للروح، وهذا مريح وصادق جدًا فى قصص الحب.
ربما لو أنك ذاهب إلى مكان جديد بعيد، ومطلوب منك أن تختار خمسة أشخاص لا تعرفهم، ليكونوا معك، كى يحافظوا على سلامتك، حياتك، فلن تكون المُمَرِّضة من بينهم، ستنسى أن تختارها، حتى لن تخطر ببالك، لكن هذا ليس مهمًا، فهى ستكون هناك، ولن يزعجها أنك لم تخترها، فهى تحب أن تكون غير مرئية، يُعجبها أن تكون على هذه الدرجة من الواقعية، وفى الوقت نفسه غير مرئية، لا ينافسها فى هذا غير الحياة والموت والوقت.
إذن، ستكون المُمَرِّضة هناك، دون أن تطلب منها، وعند اللحظة المناسبة، ستشكرها لأنها كانت هناك، ستشكرها.
“شكرًا لأنكِ هنا”.
لكنها لن تهتم بهذا الشكر، لأن عينيها على حياتك، تدافع عنها، هذا ما يهمُّها، كما أن هناك ذلك الشىء العميق داخل روحك، يبتسم لها وتبتسم له، يعرفها وتعرفه، يعرف اسمها وتعرف اسمه، يشكرها وتشكره.
المُمَرِّضة تنتصر.