محمد الفخراني
وتَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية.
المَشْى يُحَرِّرنا، نمشى لنتحرَّر من كل شىء، ونُحَرِّر مِنّا كل شىء.
وأَفضَل المَشْى هو المَشْى الحُرّ، الخالص الصافى، المَشْى لأجلالف لا شىء، لا لأجل وصول أو هرب، لا ذهابًا إلى شىء ولا هربًا من شىء، لا لنبتعد ولا لنقترب، فقط نمشى.
المَشْى أحد أفضل أوضاع يمكننا منها أن نرى العالم، يُدْخِلنا المَشْى فى العالم بسهولة، ويُخرِجنا منه بسهولة، هو واحد من أفضل أماكن يمكننا منها أن نفهم العالم ونقرؤه ونُفكِّكه، ومعه نعرف أيضًا أنْ ليس مُهمًا أن نفهم العالم أو نقرؤه أو نُفكِّكه، والمشى أحد أكثر أوضاع الجسد البشرى جمالًا وراحة.
يمنحنا المَشْى الفرصة لنمشى بداخلنا، داخل أنفسنا، نَدخلنا، يفتح لنا مَمَرَّاتنا الداخلية، ونصنع معه مَمَرَّات جديدة فينا لنا، والمَشْى يمنحنا الفرصة لنمشى خارج أنفسنا، نخرج مِنّا، يكشف لنا مَمَرَّات فى العالم لم نكن لنراها بدونه، ونصنع معه مَمَرَّات جديدة لم نكن لنصنعها إلا معه.
وتَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية.
يُحَرِّر المَشْى أرواحنا، يُعَرِّفنا أن بإمكاننا الابتعاد، ليس أن نبتعد عن شىء أو شخص، وإنما أن نمضى داخل البُعْد نفسه، أن نذهب فى البُعْد، ونَبْعُد فى الذهاب، والمَشْى يكون للاقتراب، ليس أن نقترب من شىء أو شخص، وإنما أن نمضى داخل القُرْب نفسه.
يبتعد بنا المَشْى لنكون أقرب، ويقترب بنا لنكون أبعد.
نمشى أحرارًا، بخِفَّة وبساطة واستغناء، كأنما وجدنا دربًا خارج العالم، وجدناه بالفِعْل، عندها لا نطلب شيئًا، ولا نكون مطلوبين، لن يموت العالم بدوننا، ولن نموت بدون العالم.
وتَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية.
أفكر فى أول خطوة يخطوها أحدنا فى حياته، باتجاه مَنْ كانت؟ مَنْ كان يمسك بيدنا وقتها؟ أفكر فى أول خطوة نخطوها دون مساعدة من أحد، كيف كان شعورنا؟ أفكر أن ما نشعر به وقتها ليس فرحًا، ولا حتى دهشة، وإنما شعور يَخُصُّ المَشْى وحده، يَخُصُّ أول خطوة.
وهل نتعلَّم المَشْى فِعْلًا؟ أفكر أنه غريزة نولد بها، حاسَّة طافية وعميقة بداخلنا، وفقط نكتشفها عند لحظة ما، إحدى أروع لحظاتنا هى لحظةَ اكتشافنا قدرتنا على المَشْى، وأحد أجمل الأفكار التى عرفها البشر هى “المَشْى”.. أنَّ فى العالم شىء اسمه “المَشْى”.
أفكر فيمن لم يَمْشِ، لم يستطع، ولو خطوة واحدة طوال حياته، أتوقَّع أنهم سيحصلون على حياة يمشون فيها ويمشونها حتى تَشْبَع روحهم.. لن يفوتهم المَشْى بطريقة ما.
وتَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية.
تستهوينى صورةَ ظِلّ/ بروفايل إنسان يمشى بعيدًا فى أفق مفتوح، كأنه يمشى فى ما لا نهاية إلى ما لا نهاية، كأنى أنا هناك أمشى فى ما لا نهاية إلى ما لا نهاية، بلا هدف، بلا غرض، بلا أىّ حمولة، فقط هذه الحرية، وذلك الشعور الحُرّ، ليس أنْ أشعر بالحرية، وإنما هو شعور حُرّ.. الشعور الحُرّ.
كم شخصًا يمكن أن ندعوه إلى تمشية؟ سندعوا ربما عددًا من الأشخاص إلى حفلة، وعددًا أقل إلى لعبة، وأقل إلى فنجان قهوة، لكن كم شخصًا ندعوه إلى تَمْشية؟ ليتمشَّى معنا؟ شخص واحد سيكون كافيًا.
وأَفْضَل مَنْ ندعوه ليتمشَّى معنا هو روحنا، نمشى مع نفسنا، لوحدنا، فى حالة من الاكتفاء والرضا، فى اللا حالة، غير راغبين فى شىء، ولا شىء لنتذكَّره أو ننساه، لا شىء ليتذكَّرنا أو ينسانا، تجاوزْنا كل فرح وكل حزن، كل صعب وكل سهل، كل سؤال وكل إجابة، تجاوزْنا الحالة واللا حالة، تجاوزْنا إلى الصَّفُو الخالص الحُرّ.
نمشى مع نفسنا لنتفرَّج على كل شىء، نستعمل حواسنا كلها، لا نُفوِّت شيئًا، ونمشى لنتخلَّص من كل حواسنا، نُفوِّتُ كل شىء، نمشى لنعتنى بكل شىء، ولنتجاهل كل شىء، نمشى لنُعَبِّر عن فرحنا وحزننا، ونمشى لنَعْبُر فرحنا وحزننا، نمشى حتى نتعب، ثم نتجاوز التعب، نمشى حتى نرتاح، ثم نتجاوز الراحة، نتجاوز كل فكرة وشعور وحال، نخرج من كل حالة، وتخرج مِنّا كل حالة، نَفْرغ من كل شىء، ننتهى من كل شىء، وينتهى مِنّا كل شىء.
وتَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية.
المَشْى أحد الحلول، حوار داخلى راقٍ صافٍ، وهو سكون داخلى راقٍ صافٍ، نرغب أحيانًا أن نمشى فى شوارع نعرفها وتعرفنا، وأحيانًا نمشى فى شوارع لا نعرفها ولا تعرفنا، نرغب أحيانًا أن نمشى وسط زحام، وأحيانًا نرغب المَشْىَ فى عالم خالٍ، وفى مشينا نَخرج من شارع لندخل آخَر، فنبدو وكأننا لا نخرج ولا ندخل، لا ندخل ولا نخرج، فقط نمشى، وفى المَشْى نتصالح مع نفسنا ومع العالم، خطوتنا الحُرَّة، الخفيفة، المُتمهِّلَة، المُتجَوِّلة، غير العابئة، التى لا تقصد شيئًا ولا تنوى شيئًا، نمشى لنرى كل التفاصيل ونسمعها ونلمسها ونشعر بها، نمشى كى لا نسمع ولا نرى ولا نشعر أىّ شىء، نمشى لنسمع ونرى ونشعر من خلال حاسَّة المَشْى وحدها، غريزة المَشْى، بطريقة المشى، وهذا شىء يعرفه المَشَّاؤون/ المُتجوِّلون.
نمشى لنترك كل شىء فى حاله، ويتركنا كل شىء فى حالنا.
أُحب هاتين الكلمتين الأُختَين: “المَشَّاؤون، “المُتجوِّلون”.. أحبهما.
وتَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية.
يختلف المَشْى فى الشوارع عن المَشْى فى أىّ مكان آخر، روح المَشْى تعيش فى الشوارع، وروح الشوارع تتألق داخل المَشْى، هناك “شعور حُرّ” نحصل عليه، نلمسه ويلمسنا عندما نجمع بين الشوارع والمَشْى، ولا يمكن أن نحصل عليه فى غياب أحدهما، هذا واضح جدًا ومحسوس.
المَشْى من أجمل الهدايا التى نُقدِّمها للأرض، وتُقدِّمها هى لنا، والمَشْى يُعَمِّر الأرض ويُجَمِّلها، ويُعَمِّر أرواحنا ويُجَمِّلها.
وتَمَنَّيْتُ.. تَمَنَّيْتُ لو أمشى إلى ما لا نهاية…