الموناليزا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تنقَّلْتُ بين عِدَّة رسَّامين، وصلْتُ إلى رسَّام بدا لى فى الخمسين من عمره، شعر رمادى طويل يغطى الأذنين ويمتزج مع شارب ولحية طويلة ناعمة، يقف عند ناصية شارع يتفرَّع من الساحة، مستديرًا بظهره إليها، لوحته بيضاء، فرشاته فى يده اليسرى، وفى عينيه نظرة فنان مفتون.

رأيت جملة مكتوبة بلون أحمر، باللغة الإيطالية، فى جدار بيت بناصية الشارع، ابتسمْتُ وقرأتُها بصوت مسموع: “Alessandro ama viola“، “أليساندرو يُحب ﭬيولا”، استندْتُ بظهرى إلى الجدار، أنقل عينىَّ بين المارَّة، لكنى فى الحقيقة أراقب الرسَّام، عيناه مُعَلَّقتان بنقطة وهميَّة فى عمق الشارع، كأنه ينتظر أو يتمنَّى ظهور شخص ما، حتى لمعَتْ عيناه وتحرَّكَتْ يده بالفراشة بحركة لا إراديَّة، كان ينظر إلى امرأة ربما تكون فى بداية الثلاثينات، ترتدى ملابس بسيطة، وتحمل طفلة ربما عمرها ثلاث سنوات، تعلَّقَتْ بها عينا الرَسَّام، وقبل أن تَمُرّ بجواره قال لها: “من فضلك”، تباطأتْ المرأة ونظرَتْ إليه، قال: “أتسمحين أن أرسمك؟”، كانت تفاصيل وجهها ناعمة، ابتسمَتْ، وتردَّدَتْ كأنما تذكَّرَتْ شيئًا ما، قالت: “لكنى مُتَعجِّلة، لدى أعمال منزليَّة”، قال الرسَّام: “فقط دقائق قليلة”، توقفَتْ المرأة وقالت: “حسنًا، لتنتظر أعمال المنزل دقائق أخرى”، نظرَتْ إلى طفلتها وقالت: “هل تريد أن ترسم طفلتى أيضًا؟”، اقترَبَ الرسَّام منها، نظر فى وجه الطفلة، وقال: “أُحب ذلك، لكن ليس هذه المرة”، تلفَّتَتْ المرأة حولها، اقترَبْتُ منها وقلت: “يمكننى أن أحمل طفلتك حتى يرسمك”، تفحَّصَتْنى بعينَين هادئتَين، فيهما جحوظ خفيف زادهما جمالاً، قالت لطفلتها: “لا تخافى صغيرتى، أنا هنا”، نَقَلَتْها إلى صدرى، وقالت: “ابقَ قريبًا، أرجوك”، أومأتُ بابتسامة وعُدْتُ بالطفلة إلى مكانى.

نظر الرسَّام حوله إلى انعكاسات نور الشمس، أوقَفَ الأم الشابة فى زاوية بفتحة الشارع، ما زالت فرشاته بين أصابعه، جلَبَ مقعدًا من مطعم قريب، وضَعَه فى نقطة ملاصقة للمرأة، حرَّكَه بزوايا صغيرة، مرَّرَ عينيه على النور والظلال، أجلَسَ المرأة بزاوية على المقعد، طلبَ منها أن تسترخ، أسندَتْ ظهرها إلى المسند، تراجعَ الرسَّام خطوة، تأمَّلَها، هزَّ رأسه، أمسكَ بيدها وأنهضها عن المقعد، كسر مسنده الخلفى بضربة واحدة فنيَّة، نظَّفه بكُمِّه، أمسَكَ بيد المرأة وأجلسَها، رتَّبَ ملابسها، كشفَ مساحة من صدرها سمحَتْ بها، مَسَّدَ أطراف شعرها، بُنِّى فاتح، متوسط الطول، ومفروق من المنتصف، ضبَطَ وضعيَّة رأسها، كتفيها، ظهرها، صدرها، ساقيها، وقدميها، فَعَلَ ذلك بلمسات خفيفة، وضَعَ مرفقها الأيسر على المسند الجانبى للمقعد، أراح يدها اليمنى فوق ظهر اليد اليسرى، أزاح الكُمَّيْن عنهما قليلاً، فرَدَ أصابع اليد اليمنى واحدًا بعد الآخر، أصابع بيضاء، مسحوبة بخِفَّة، وبها شىء ناعس، كانت أصابع يدها اليسرى مُنسابة للأسفل مع حافة المسند، مرَّرَ الرسَّام عينيه على تفاصيل المرأة، تراجعَ خطوتين، تأمَّلَها، هتفَتْ الطفلة: “الوشاح”، سحبَتْ من جيبها وشاحًا شفافًا طيَّرتْه باتجاه أمها، التقطه الرسَّام بطرف إصبعيه، وضعَه على رأس الأم، وضَبَطَ حوافه، تأمَّلها لحظة، ابتسم للطفلة، وعاد إلى مكانه أمام لوحته، سأل الأم الشابة: “أنتِ مرتاحة؟”، أومأتْ وقالت: “هل تريدنى أن أنظر إلى نقطة معينة؟”، قال: “أُنظرى إلىَّ لو كان المنظر يروقك”، نظرَتْ إليه، قال: “يهمّنى الآن أن تُنصتى إلى صوت النهر تحت قدميك”، اِنتظرَ لحظات وسألَها: “تسمعينه الآن؟”، أومأتْ، وابتسمَ بداخلها شىء ما.

أمسك الرسَّام “لوح الألوان- الباليت” فى يده اليمنى، وبدأ يرسم لوحته.

كانت الزاوية التى وضَعَ فيها المرأة عجيبة، فالنور الذى ينعكس على وجهها يختلف عمَّا حولها، ليس هو نفسه نور الشمس التى تميل الآن إلى الغروب، إنما مزيج من شموس عديدة فى أوقات مختلفة، بدَتْ المرأة متوَحِّدة داخل نورها الخاص ومتماهية فى الوقت نفسه مع أنوار العالم، هل استعدَّت، بقصد أو دون قصد، خلال حياتها الماضية كلها لأجل أن تُظهِرَ هذه اللحظة العميقة بداخلها فى وقت ما، وكان وقتها الآن، أم أنَّ الرسام ساعدها، أو حتى كشف بنفسه عن لحظتها العميقة تلك؟

توقَّف الرسَّام عن العمل بعد خمس دقائق، ظَلَّ يتأمَّل اللوحة، سألَتْه المرأة: “انتهيت؟”، كرَّرَتْ سؤالها مرتين، نظرَ إليها من حُلمه، قال: “نعم، سيدتى، كانت دقائق قليلة مثلما وعدتُك”، مشى إليها، انحنى على يدها وقبَّلَها، قال: “شكرًا لكِ”، أمسك بأطراف أصابعها ومشى بها إلى اللوحة، تطلَّعَتْ المرأة إليها، قالت: “أحبَبْتُها، تتوقَّع أن تبيعها بسعر معقول؟”، قال الرسَّام وهو يتأمَّل لوحته: “لا أعتقد أنى سأبيعها”، قالت المرأة: “ليست جميلة كفاية؟”، نظر إليها الرسَّام وقال: “لا سيدتى، إنها جميلة، لكن”، نظر إلى اللوحة وقال: “لا أعرف، بها شىء يمنعنى أن أبيعها”، تأمَّلَتْه المرأة قليلاً، قالت: “أنتم الفنانين، على أيَّة حال، هل يمكننى الآن العودة إلى بيتى؟”، نظرَتْ المرأة إلىَّ، تقدَّمْتُ إليها، قبَّلْتُ طفلتها ونقلْتُها إلى صدرها، سحبَتْ الطفلة الوشاح عن رأس أمها، ومسَّدَتْ لها شعرها، ضحكَتْ الأم ومشَتْ بابنتها خطوتين، ثم توقفَتْ، تأمَّلَتْ اللوحة، نظرَتْ إلى الرسَّام، وقالت: “أرجو أن أكون قد ألهمتك، ولو قليلاً”، قال الرسَّام: “أنت أسعدْتِنى”، مشتْ المرأة إلى منتصف الساحة، ناداها الرسَّام: “سيدتى، ما اسمك؟”، التفتَتْ إليه، ابتسمَتْ ولم ترُدّ، هتفَتْ له الطفلة: “II mio nome e` Lisa”، “أنا اسمى ليزا”، وضحِكَتْ.

lisa“، قال الرسَّام لنفسه وهو يتأمَّل الطفلة، نظرْتُ إلى اللوحة، وجدْتُ أنها لوحة “الموناليزا” الشهيرة، إذن الرسَّام هو “ليوناردو دافنشى”، نظرْتُ إليه من جديد عن قُرْب، رأيت بشكل مُفَصَّل نظرة الفنان المفتون، تأمَّلَ “دافنشى” لوحته، وقال: “أشعر أنى رسمْتُها من مكان فى روحى أكتشفه للمرة الأولى”، كانت المرأة فى اللوحة تبتسم دون أن تبتسم بالفعل، كأن شيئًا حزينًا بداخلها هو مَنْ يبتسم، أو أنه شىء سعيد شَعُرَ فجأة بحزن غامض، ربما روحها، سألْتُ “دافنشى”: “من أين جئت بالخلفيَّة، الجسر، البحيرة، والطريق الملتوِ؟”، قال: “لا أعرف، من خيالى، ربما رأيتهم فى مكان، أو عدَّة أماكن متفرقة، ربما أُعَبِّر بهم عن روح المرأة، أو روحى”، كان فى اللوحة شىء حَىّ، كأن “دافنشى” استخلصَ روح المرأة وبَثَّها فى لوحته. رسم “دافنشى” خلف المرأة حافة لجدار شرفة أو تراسّ، وحولها كان عمودين، أحدهما عن يمينها والآخر عن يسارها، ربما فعل ذلك ليُمَوِّه المكان الذى رسم فيه لوحته، أو ربما تخيَّل المرأة جالسة فى شرفة- تراسّ بيتها، الذى أجَّلَتْ أعماله لأجل أن يرسمها، ثم نقلها “دافنشى” بشرفتها داخل طبيعة من خياله، وفى الوقت نفسه كان خيال” دافنشى” وشرفة الأم الشابة، هنا، عند مدخل شارع يتفرَّع من ساحة عامة.

سألْتُ “دافنشى”: “بمَ ستسمى لوحتك؟”، تأمَّلَها لحظات، وقال: “أسميها mona lisa“*، قلت: “ولن تبيعها، صحيح؟”، كنت أعرف مثلما قرأتُ عن اللوحة أنه لن يبيعها، قال: “لن أبيعها”.

تأمَّلْتُ “الموناليزا”، كنت أعرف أن “دافنشى” حسْبَ ما قرأت قد استغرق عِدَّة سنوات فى رسمها، لكنها بدتْ لى مكتملة، ربما أضاف إليها رتوشًا فيما بعد.

نظرْتُ إلى “دافنشى”، رأيت فى عينيه نظرة الشجن التى ينظر بها المبدع إلى عمله الذى أنجزه للتوّ.

ربَّتُ يدَه المُمْسِكَة بالفرشاة، ومشيت.

فكَّرْتُ أنَّ سِرّ ابتسامة “الموناليزا” ربما يكْمُنُ فى أنَّ الشخصية المرسومة ليست هى صاحبة الإسم، الأمر بهذه البساطة: سِرّ الابتسامة هو أنَّ اللوحة تحمل وجه أُمٍ واسم طفلتها.

 

*كلمة “mona“، تعنى “السيدة”، بالإيطالية الدارجة، كأسلوب مُهذَّب فى الحديث، وهى مأخوذة من كلمة: ma donna”“، التى تعنى “سيدتى” بالإيطالية، وهنا قام “دافنشى” باستخدام اللقب “mona”، الذى يخصّ المرأة التى رسمها، وأضاف إليه اسم طفلتها.

 

 

 

مقالات من نفس القسم