دينا عبد السلام
كانت تحمل في يدها اليمنَى أكياس الفول والفلافل والباذنجان المقلِيّ والمخلل، وفي يُسراها عشرة أرغفة خبز ساخنة خرجت لِتَوِّها من فوهة الفرن، فطور يوم الجمعة شَهِيٌّ، بقية الأسبوع تُعِدُّ أمها لهم سندوتشات الجبن الأبيض للمدرسة. صارت أمها ترسلها لِتَبْتَاع فطور يوم الجمعة بعد أن تزوَّجت الكبرى، تقول أمها إنَّها ذهبت لبيت «العَدَل»، لم تكن تفهم معنى كلمة «العَدَل»، أخوها ما زال قصيرًا لا ترسله أمها ليبتاع الطلبات، تقول إن البائعين لن يَرَوْه بين المصْطَفِّين في الطابور.
سلكت طريقًا مختصرًا للعودة للمنزل، كان الجو قائظًا، الطريق الآخر تظلِّله المساكن يمينًا وشِمَالًا، لكنَّ السير في الزحام يستغرق وقتًا أطولَ، تصاعدت رائحة الفلافل، لا بُدَّ وأنَّه تأثير حرارة الشمس.
وضعها البائع في قرطاس من الورق الأبيض، بدأ الزيت يتسرب منها ويبلل الورق.
العجوز عند عتبة باب المنزل ما يزال جالسًا منذ الصباح يهدهد نفسه ويتلو القرآن، عيناه معصوبتان بقماشة بيضاء، ورأسه منكسة في الأرض، استغلق الأمر عليها؛ أكان ضريرًا أم يزعجه البشر والضوء؟ كان يردِّد ساعتها (كل نفس ذائقة الموت)، دلفت إلى العمارة، رأت مجموعة من الغرباء يُهلِّلون وهم يحملون عم صبحي جارهم العجوز على الأكتاف، كان ميتًا، عاش الرجل وحيدًا منذ ما يقرب من عشرين عامًا، كانت أمها دائمًا تقول إنَّ زوجته توفيت كَمَدًا على رحيل ابنها الوحيد، بَدَا المشهد مهيبًا: صوت تهليل الرجال، وَقْع أقدامهم على الدرجات، جُثَّة عم صبحي، لم تكن رائحة الفلافل بحجم اللحظة.
فتح الجيران الأبواب للوقوف على سبب الجَلَبة، أخبرهم الغرباء بأنَّه مات سائرًا، وأنَّ الشحَّاذ العجوز القابع عند الميدان أخبرهم بعنوانه، فحملوه إلى الدار. لم تكن تعلم أن المرء من الممكن أن يموت سائرًا، كانت تظن أن الموت يُدَاهِم الراقدين فقط، أو ربما الجالسين، تُزْهَق أرواحهم ثم يميلون برؤوسهم إلى الجنب فيما تنفتح عيونهم عن آخرها دون أن تطرف قَطُّ، شاهدت ذلك المشهد مِرارًا في الأفلام، الموت لم يكن يُدَاهم السائرين في الأفلام، واصلوا الصعود بالجثة للطابق الثالث حيث يَقْطُن المرحوم، تَقْطُن أسفله، تلكَّأت في الصعود حتى لا تصلهم رائحة الفلافل، حين دلفت لشقتها، وجدت والدها ساجدًا، من الممكن أن يُدَاهِمه الموت ساجدًا! اتجهت للمطبخ، وجدت أمها تخرط الطماطم والخيار، وضعت كل ما كنت تحمله على الطاولة، نَفَضَت يديها وأخبرت أمها بموت عم صبحي، مسحت أمها يديها في الجلباب، وأسرعت لتُخبر زوجها بنبإ الوفاة، كان أخوها قد فتح قرطاس الفلافل ولقم قرصًا عَلَق بحلقه، تحشرج وازْرَقَّ وجهه، أيُدَاهِم الموت من يأكلون الفلافل أيضًا؟