سكت ياسر قبل أن يذكر لي اسماء مثل صبري موسى وأحمد هاشم الشريف وعلاء الديب كانت نصوصها تنشر إلى جوار رسوم تاد.
هذا هو ياسر المولع بالتفاصيل، المهووس بمنمنمات الذاكرة، محترف كتابة تشبه لعبة البازل، تقوم على إعادة التركيب وترتيب مغاير لكل ماهو عابر.
لو كان أحداً غيره، لاهتم أكثر باسمه المنشور في مجلة كانت هي الأكثر توزيعاً أو أفرط في مديح نصه الذي كتبه وهو لم يتجاوز عامه العشرين، لكنه راح لملاحظة أعمق تشير لمسار سوف تتبعه نصوصه التي تقف في مساحة تميزه، وتجمع بين الخبرة الشخصية والخاطرة الفلسفية والنظر الفني المتأمل الذي يطلقها في فضاء كبير كساحر كانت مهمته دوماً هي صناعة الدهشة باقتصاد لغوي باهر وحس ساخر لا يمكن تفاديه.
حين تعرفت على ياسر في العام ١٩٨٩ كان يكتب شعراً، يغرق في أسئلته الوجودية، محمل بإحباطات نجيب سرور ومغسول بصفاء لغة صلاح عبد الصبور، نافر من الوعي السياسي الحاد في كتابة أمل دنقل وذاهب أكثر لقصائده التي تحتفي بنثار الحياة اليومية، علمني أن أحب “أمل” كاتب قصائد “الخيول” و”الطيور” ومقابلة خاصة مع ابن نوح وعرفني على أصدقاء رائعين كانوا يفرطون في مديح قصائد أمل السياسية وينشدونها بصوت عال في حديقة كلية الآداب، لكنه حذرني من الكتابة بصوت أعلى، وعرفته على أحمد يماني وأمل فرح وآخرين لم يمارسوا الكتابة لكنهم كانوا فرحين بنا كنبت أحلام، لم تنتظر طويلاً لتزدهر.
بعد أقل من ستة شهور كنا نواة شلة كبيرة استقرت عند سلم المكتبة المركزية لجامعة القاهرة وضمت معنا أحمد يماني ومحمد متولي وهدى حسين وحمدي الجزار وجيهان عمر والمخرج المسرحي محمد أبو السعود والسينارست علاء عزام والمطرب محمد بشير وآخرين لم يمارسوا الأدب وظلوا مخلصين لمحبته مثل المترجمين ربيع وهبة طه زيادة، ووليد سامي وعبد الناصر إسماعيل “جوني” النبيل الذي صار اليوم رمزاً لحركة استقلال المعلمين، إضافة إلى آخرين كانوا أبناء كليات أخرى وكانوا جزءاً في هذا الكيان مثل إبراهيم عباس وصادق شرشر وحسين جورج والسينارست وسام سليمان والشاعر عصام ابو زيد والكاتب أشرف عبد الشافي وآخرين أصبحوا حقوقيين مثل سعيد عبد الحافظ ومحمود علي ومحمد عبد العاطي والمتمرد الأبدي سيد خلف الذي يطالبني ياسر بكتابة سيرته معنا,
الشلة التي كبرت فجاة كسرت عزلة كان ياسر قد تمناها لسنواته الجامعية ليقرأ اكثر، لكنه فرح بها كعائلة كبيرة متمردة حررته من أخلاق مواطن صالح من حي المعادي، في بداية صداقتنا كنا نعامله برهبة واحترام يليق بخريج المدارس الفرنسية الذي وفر له والده مكتبة عامرة بالكتب جعلتنا نختاره مرشداً روحياً للكتب التي ينبغي أن نقرأها وبالتدريج كشف نفسه أكثر وتعرفنا معه على مغامر يشبه أولئك الذين يتولون تجنيد عملاء سريين في الجماعات الماسونية إذ كانت لديه جماعته التي تردد طويلاً قبل أن يمنحنا أسرارها، فاكتشفنا خلف وجهه الخجول وصمته الذي يطول صندوقاً أسود عامراً بأسرار وخبرات كثيرة، فتجلى مواطن آخر بدرجة “صايع جداً”، ليس على استعداد ليحرم نفسه من أية مغامرة تضيف لمعارفه معرفة جديدة، فاصطحبنا لجولات إرشادية في مصر القديمة والمعادي ووسط البلد وأعطانا اسرار عوالم سفلية كنا نظنه بعيد عنها كل البعد، في تلك الجولات كان يفقد تردده ويتحول خجله إلى لسان طليق قادر على محاورة أنماط من البشر كان مجرد الاقتراب منهم لدى أغلبنا “خطاً أحمر” لكن ياسر لم يكن يخاف، كان يتصرف مع هؤلاء تصرف المغناطيس مع نثار الحديد، في حواراته كلها يستعير أغنيات ومجاز براق للحياة اليومية يأتي ملتصقاً بأصوات الزمن المعطل، ربما هو ذاته الزمن الذي كان يجاوره في أول قصيدة قرأتها له يوم أن تعرفنا وهي “مزولة الوقت”.
وفي ظني أن سؤال الزمن هو سؤال ذال في علاقة ياسر مع الكتابة ، فهو يشبه كاميرا سريعة اللقطات لذلك كانت حكاياته التي يعيد روايتها في الجامعة عن خبراته التي صنعها مع شلته في الثانوية مخلوطة بـ “عبير العبر” ولم تكن مصادفة أيضاً أن تحمل كتبه عناوين مثل “ناس وأحجار”، جولات ليلية، يونس في أحشاء الحوت، وقانون الوراثة، وكلها كتابات تقوم على موقعه في الحيوات التي عاشها، كانه يؤمن بجملة قراتها للشاعر قاسم حداد وهي أن الكلام في الناس وليس في الكتب.
كل من حول ياسر يعرف هذه الحقيقة ، يعرف صورته الخالية من التكلف، الذي يتحدث عن حياته كصوفى زاهد في كل شيء، رغم إحساس من حوله بما لديه من ثروة.
حين أستعيد سيرته معي، لا يمكن أن أجد لها عنواناً أفضل من كلمة “الانفتاح”، ربما هو شرفة تطل على حديقة بيت، يجاوره شارع مزدحم، يقف صاحبه ليتأمل الصخب خارجه ثم يعطي نفسه لجملة موسيقية ساحرة، وقبل النوم يمني نفسه بقراءة قصايد جاك بريفير وفي غمرة حماسه لتلك اللحظة، يغادر السرير ليرقص على اغنية لأحمد عدوية يشغلها بصوت عال وحين لا يشعر بالذنب، يجد تحت وسادته قصيده كتز شمردل لفؤاد حداد تقرأها اديث بياف.