رأفت رحيم
انتهى اللواء أركان حرب (براء أكبر مخترع) من قراءة الجريدة الوطنية المُوحدة في البلاد ثم نحّاها جانبًا على مكتبه بعدما تحركت في أمعائه ثعابين الاهتياج وهو يقرأ آخر سطر من تفاصيل القبض والتحقيق مع زميله وصديقه القديم (شومان النحس المتولي).
أعاد اللواء قراءة الاسم مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى أصبح اسم (شومان) كشافا يُسلط الضوء مرة أخرى على تلك الأيام البائدة بدمائها وقتلاها وسجنائها. هذه الأيام التي يتناساها الجميع- بالأمر، لكن (شومان) وأمثاله لا يريدون النسيان. إنهم يعملون حتى يزداد الماضي وضوحًا ويصبح الحاضر-هذا الحاضر بالتحديد- مشوشا بلا لون، شيئًا لا جدوى منه.
كبر اللواء (براء) مع صديقه (شومان) وتزاملا خطوة بخطوة لكن الحياة قد توقفت بالنسبة إليهما في اللحظة التي مضى فيها كل منهما في طريق. ينتمي اللواء إلى الحاضر بإنجازاته و(شومان) يزيح التراب وبقع الدم من فوق الماضي المدفون تحتها.
انقطعت علاقة اللواء بزميله وفرّقتهم لحظة حالكة في تاريخ الوطن. كانت لحظة حاسمة قاسية مات فيها دين قديم ووُلد فيها دين جديد مضرج بالدم. في هذه اللحظة، ظن الجميع أن التكاتف وعدم الاختلاف واجب مقدس حتى وإن كان الثمن هو التفرقة بين المرء وزوجه، الابن وأبيه وأمه وأخيه. كانت البلد في تلك الأيام مجرد حرب والعالم المحيط بك ساحة قتال وواجبك الوحيد هو النجاة.
وبعد دفن القتلى، وبعد أن اغمّق لون الدم وجف على الطرقات، طلب (الزعيم المُنقذ المُفوّض) من الشعب نسيان كيف تُطرح الأسئلة وعدم البحث عن إجابات وأن يسير الجميع خلفه في نفس الاتجاه. لم يكن “طلبا” بالمعنى المفهوم لأن “الطلب” يمكن رفضه أو قبوله. كان أمرًا واجب النفاذ.
رقص الشعب فرحًا وتفويضًا، إلا (شومان) لم يستجب لهذا “التهديد” المُتخفي في صورة “طلب”. لقد آمن بأن الله قد خلق الإنسان كي يطرح الأسئلة ويقضي حياته كلها متشابكًا مع الغير بحثًا عن إجابات. حينها قال:
– إذا سلبوا منا حق السؤال، فلم العيش؟
صرخ فيه صديقه (براء أكبر مخترع):
– كُن مع الناس.. فمتى كان ثمة خيار؟ متى كان بإمكان المرء أن يتخذ قرارًا بحرية مطلقة في فعل هذا أو ذاك؟ لا خيار أبدًا.. لا بد أن تؤمن ببساطة وسذاجة ودون طرح أسئلة.. كُن مع الناس..
– لا يعوم مع التيار إلى الجثث الميتة أو الرمم النتنة.. اتفاق الجميع على شيء واحد ليس دليلا على أن هذا الشيء هو الصواب.
استقال (شومان) من المدرسة العسكرية كي يطرح الأسئلة على شكل قصص ومقالات تبحث عن إجابة. جُن جنون اللواء وقتئذ:
– أمجنون أنت؟ المستقبل لنا.. من يترك كل هذا و…
قاطعه شومان بثقة:
– التركْ هو الامتلاك.. ألا تملك شيئًا يعني أن تملك كل شيء
– بل أنت “نحس” ترفس حقنا الذي عاد لنا بعد شتات.. نعم أنت نحس
ومنذ هذا الجدال أصبح “النحس” هو اسمه الأوسط الذي حل محل اسم أبيه.
أشعل اللواء سيجارة غير ضارة بالصحة قام باختراعها بنفسه واخذ نفسا عميقا ثم غسله بما تبقى من فنجان القهوة البارد. نظر إلى الجريدة الراقدة على مكتبه وتذكر وهو ينفخ دخان عديم الرائحة في فضاء مكتبه الفسيح، كيف بدأ (شومان) كتابة المقالات في هذه الجريدة نفسها، قبل ما يُدخله عليها اللواء من تعديلات غيّرت شكل الصحافة إلى الأبد، ووضعت اسمه على عتبات المجد العلمي.
في ذلك الزمن البعيد، كتب (شومان) عن فضائل الاختلاف وكيف أن الاختلاف هو الذي يبني الشعوب ويُشيّد الحضارات بل إنه السبيل الوحيد لإحداث التغيرات العظيمة. لا يجب أن نتوافق دائمًا أو نتفق على جميع الآراء. حسنًا، مقبول أن يكون ثمة ألوان أخرى غير الأبيض والأسود.. مهم بالنسبة لنا أن نعرف حتى وإن لم نفهم.. سوف يأتي اليوم الذي نفهم فيه. كان شابا. وأن تكون شابا يعنى أن يكون لديك وقاحة الرغبة في إقامة وطن جديد وأفضل مكانة!
بدأ (الزعيم المُنقذ المُفوّض) الشكوى من الإعلام والكتابات الهدّامة وتمنى في أحد اللقاءات المفتوحة أن يكون الإعلام معه في نفس الجانب من الخندق وطالب بعدها مرارا ألا يتحدث أحدا في مواضيع لم يدرسها جيدًا.
كان اللواء (براء أكبر مخترع) ضابطا صغيرا عندما ضربته الفكرة. فبالإضافة إلى إيمانه ب(الزعيم) وأفكاره التقدميّة، كان هو الآخر مفعما بحماسة الشباب التي تستطيع أن تغير الدنيا. لكنه لم يكن يريد تغيير أي شيء. لقد تاق إلى الاستقرار الذي طالما تحدث عنه (الزعيم)، لذلك استغل هذا الحماس في تحقيق أمنية (الزعيم المُنقذ المُفوّض) في جعل الإعلام معه.
اشتغل (براء) ليل نهار حتى اختمرت فكرته ودخل ذات صباح إلى قائده يزف له البشارة. شرح الضابط الصغير فكرته الفذّة:
ـ يجب دمج كل الجرائد والمجلات في جريدة واحدة اسمها (الجريدة الوطنية الموحدة). عندما يمسك المواطن الجريدة بين يديه، تتحول في الحال إلى جريدة من ملحق واحد خاص بهذا المواطن ويكون عنوانه (لا تسأل عما لا يعنيك حتى لا تسمع ما لا يرضيك).
مثلا لو هذا المواطن سبّاك، سوف تظهر له مواضيع عن المواسير والمفكّات والمفاتيح والمسامير وقواعد التواليت وفنون الصرف الصحي. ولو لاعب كرة سوف تظهر له اخبار الملاعب واسعار الأحذية الرياضية الوطنية
وهكذا فرض اللواء مخترع على الشعب أن يهتم فقط بما يخصه فلا يجوز لمواطن (مدني عادي) أن يقرأ مثلا عن ميزانية التعليم أو الصحة. قلة مختارة معدودة على أصابع اليد أمثال اللواء تظهر لهم الجريدة كاملة بجميع أقسامها.
تغيرت حياة الضابط الصغير بعد اختراع هذه الجريدة كما تغيرت أيضا حياة صديقه (شومان النحس المتولي). ففي نفس اللحظة التي كان (الزعيم المُنقذ المُفوّض) يُكرّم فيها اللواء (براء أكبر مخترع) على الهواء مباشرة، بل يأمره بتكوين كتيبة (خلى السلاح صاحي) التي تعتبر أهم كتائب وزارة (من هناك). نعم، في نفس هذه اللحظة، يغادر (شومان النحس المتولي) البلاد هربًا بعد أن تطبيق اختراع الجريدة الموحدة على جميع وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمنشور والمنقور. ومنذ هذا الزمن لم يسمع من (شومان) ولا يعرف أي دولة من دول الجوار قد استقر بها كي يكتب.
عمل اللواء جاهدًا خلال هذه السنين على حجب كل ما يكتب (شومان). كان يصل القليل من كتاباته إلى البلاد ولكنها كانت غير ذي أثر. تُرى لما رجع (شومان)؟ لا بد أنه قضى كل هذه السنين في تأليف “كتاب الأجوبة” لكل الأسئلة التي تخلى عن المجد من أجلها؟ وهل عاد بمفرده؟ في زمن القلاقل، خرج الكثيرون ولم تهتم الدولة بمن يهرب. المهم الآن، من يعود ولماذا
ارتعش منخار اللواء وعقله بمجرد التفكير في احتمالية وجود أكثر من (شومان) واحد ممن يحبون الأسئلة والتفكير والاختلاف!
ترأس اللواء (براء أكبر مخترع) كتيبة (خلي السلاح صاحي) منذ أربعون عامًا، وقام بنفسه بتعيين وتدريب العلماء والجنود الذين يعملون بها. أربعون عاما وهو يخترع الكثير من الإنجازات، لكنه لم يفكر في هذا اليوم الذي يعود فيه المنفيّون ومعهم إجاباتهم.
قام اللواء من كرسيه الذي صممه بنفسه على شكل صاروخ كبير يركب رأسه وهو جالس. ثمة زر أسفل المكتب عند الضغط عليه يطير الصاروخ من المكتب ليهبط براكبه في مكان سريّ آمن. قام اللواء باختراع هذا النوع من المقاعد الصاروخية المدببة لجميع رجال الدولة لأجل الهروب إذا لزم الأمر في وقت الأزمات والقلاقل.
ينظر اللواء من شباك مكتبه الذي يطل على (عاصمة السلاح والذخيرة) الجديدة التي تم بناؤها بعد ازدحام المرور في (عاصمة الإدارة القديمة). خبر القبض على (شومان) غيّر الحالة المزاجية للواء وتملْك منه الهمْ بعد أن كان سعيدًا مسرورًا. المفروض أن يخرج على المعاش بعد أسابيع قليلة، ويخلع الزي العسكري ويعود إلى صفوف المواطنين الشرفاء ويعيش هانئًا راضيًا. بدلّت تهمة (شومان) كل هذه الأماني الوردية إلى أفكار لا تنضب. لا بد أن ينسى المعاش والراحة ويعود من جديد إلى معمل الاختبارات ويقوم بما يجيده. أن يخترع.
تدور السنون أمام عيني اللواء وهو ينظر من الشباك إلى جندي يعمل في مرح وهو يمزح مع زميل له بينما يجربان كرسي الاعتراف الحديث من طراز (30 ي – سلّم نفسك). يبتسم وهو يتذكر كل الاختراعات العظيمة التي حَبِلتْ بها بنات أفكاره ويراها الآن أمام عينه تدفع مسيرة التقدم والازدهار.
لم يصدقه أحد عندما أنجز الاختراع الأعظم الذي مجّد اسمه بحروف من ذهب في سجلات الاختراعات الأمنية. كانت فترة من الفترات الكالحة – وما أكثرها- في البلاد، كثر الكلام عن المؤامرات الخارجية التي لم يأخذها أي من المواطنين على محمل الجدّ. يسمع المواطن من الاعلام عن المؤامرة، ولكنه يُشكك في أهمية حجمها. بعد الكثير من الجهد والعرق وسهر الليالي، قام اللواء باختراع جهاز يحول حجم المؤامرة إلى (صخر حجري) ثلاثي الأبعاد. يهبط الحجر من سماء العاصمة في أي وقت وينزل على نافوخ أي مُشَكِكْ” ويموت في الحال. يختار الحجر ضحاياه بعناية وكان هذا من عظمة الاختراع. لم تسقط أحجار المؤامرة على رأس أي مسؤول في البلاد. كل الشهداء وضحايا المؤامرات الخارجية مواطنون بسطاء. لأن المسؤولين يعرفون جيدًا حجم المؤامرات ومدى خطورتها.
تغيرت نبرة الإعلام بعدها، وصار الشعب يقدّر الخطر الحقيقي للمؤامرات التي تواجهها البلاد بعد أن أصبحت المؤامرات الخارجية واقع ملموس يهبط على رؤوس المواطنين (المُشَكِكين) بين الحين والآخر.
تم استبدال فقرة الطقس في نشرات الأخبار بفقرة (ضحايا المؤامرات الخارجية) التي يرتدي فيها المذيع رابطة عنق سوداء ويقوم بقراءة النبأ بصوت يلبسه الغم:
ـ استشهد فلان الفلاني بعدما سقط على رأسه مؤامرة خارجية من صناعة دولة النكد المعادية.
وفي نهاية النشرة يكرر المذيع طلبه من المواطنين بعدم (التشكيك) في حجم المؤامرات الخارجية والاستخفاف بها حتى لا يصبحون عرضة لأحجار العدل السماوية.
بعد هذا الإنجاز، ظن الرجل أنه آن الأوان أن يسلم راية المجد لأحد تلاميذه الموهوبين. كان يفكر دائمًا في الرائد (نظام على منتظم) ولكن هيهات. لقد وقف (شومان) حائلا بينه وبين هذا الرجاء.
أقبل الليل وأسدل أجنحته على (عاصمة السلاح والذخيرة). خلع اللواء بالطو المخترعين الأبيض الذي يرتديه دائمًا فوق بدلته العسكرية وأطفأ أنوار مكتبه بعدما وضع الكرسي الصارخ في (وضعية الارتخاء). كان آخر من يترك العمل وأول من يأتي إليه.
دائمًا، ينتظره على باب المبنى تلميذه النجيب (نظام على منتظم). يؤدي له التحية العسكرية ويتشرف بالخطوات القليلة التي يمشيها معه حتى يصل اللواء إلى سيارته. يضرب (نظام على منتظم) قدميه في الأرض ويرفع يده اليمنى بالتحية صارخًا:
– تمام يا أفندم
– كيف حالك يا نظام. وكيف حال العمل؟
– سوف تتحدث الإنجازات عن نفسها قريبًا يا فندم. (لبوسة) تغيير الضمائر في مراحلها النهائية. لكن الكثير من الجنود الذين قمنا بتجربة اللبوسة عليهم، اشتكوا وطلبوا إذا كان من الإمكان أن يُستبدل اللبوس بالحقن نظرًا لضخامة حجم اللبوسة. ولا زلنا نحاول مع جهاز تحويل اللافتات الانتخابية إلى أصوات مؤيدة. أما جهاز تغيير المعارضة إلى مهاودة فهو في طريقه للعرض الأخير عليك وإبداء أي ملاحظات.
رد اللواء بفتور:
– عظيم يا نظام.. عظيم
– كله بفضل تعليمات سيادتك يا فندم، لكن اسمح لي يا أفندم، أراك اليوم مهمومًا على غير عادتك
– هل قرأت الجريدة الوطنية اليوم؟
– كما تعلم يا أفندم، رتبتي لا تسمح لي إلا بقراءة قسم (خليك في حالك)
– ذكرّني غدًا أن أعطي لك الحق في قراءة الجريدة كاملة.
– أوامرك يا فندم. ولكن ماذا بالجريدة كي يعكر صفو معاليك بهذا الشكل. فنحن نكتب ونراجع كل حرف فيها؟
– خبر في قسم (الكلابش السعيد) عن القبض على شخص يدعى
– (شومان النحس)
– وما الجديد في هذا يا فندم. نحن نقوم بالقبض على الآلاف من المشاغبين يوميًا
– أنت لا تعرف (شومان) وأمثاله يا (نظام). أنت صغير في السن لم تعاصر هذه الأيام
– ماذا قال في التحقيقات يا فندم
– كلامه مع المُحقق كان من الماضي
– اسمح لي يا أفندم.. طالما هذا الماضي غير موجود إلا في ذاكرة هذا (الشومان) وفي الكلمات التي استخدمها لاحتواء هذه الذكريات، أليس من الممكن اختراع أحداث ماضية لمجرد القول إنها وقعت؟
كان (نظام) فخورًا بنفسه وهو يأتي بهذا الحل الذي لا يفهم معناه، لكن اللواء لم يجيب على سؤال تلميذه وواصل اللواء كلامه بنبرة مستقرة مثل التي يستخدمها مذيع فقرة (المؤامرات الخارجية):
– أقطع ذراعي إذا كان المُحقق قد فهم قدر المصيبة، ولكني قرأتها بين السطور
– عيونك دائمًا عيون صقر جارح يا فندم
كانا قد وصلا إلى سيارة اللواء براء الذي أخرج سيجارة غير ضارة وعزم بمثلها على تلميذه النجيب الذي رفضها بأدب:
– لا يجوز أن أدخن أمامك يا أفندم
أشعل اللواء سيجارته وواصل كلامه:
– المُحققين… يا لهؤلاء الحمقى! هل يعلم أي منهم تاريخ (شومان) في الأحلام؟ لطالما طالبت مرارا بتطبيق اختراع (الروائح) على جميع المُحققين حتى يساعدهم في انجاز العدالة ولكنهم سخروا مني وقالوا لا بد من استقلال القضاء. وها هو الاختراع حبيس الأدراج
– أول مرة تخبرني باختراع (الروائح) هذا يا أفندم
– هذا اختراع لتوحيد حاسة الشم عند المُحققين وجعلهم قادرين على شم الروائح التي تنفث من المتهم مثل روائح التفاؤل والمقاومة والتفكير.
هذا المتهم قال في كلامه ضمن التحقيقات أنه “يحلم ويأمل في وطن أفضل وهناك أسئلة المستقبل والتغيير الذي ينبغي التفكير فيه”.
غضب نظام وهز رأسه السميك في غباء:
– هذا تحذير واضح وصريح بالإرهاب يا أفندم. يا له من خائن عميل. عن أي وطن أفضل من هذا يتحدث هذا المرتشي؟ هل نظر حوله ورأى الخير الذي نحيا فيه؟ لا زلنا في 2050 وأمامنا المزيد من البناء والتضحية من أجل الأجيال القادمة. هل رأي قناة السويس الخامسة التي قمنا بردمها؟ هل رأى كوبري 3 يوليو الذي يربط الميدان بالجزيرة؟ هل سمع عن العشر قرى الأخيرة التي دخلها الصرف الصحي؟ ماذا عن مشروع ألف بئر مياه صالحة للشرب؟ هل رأى نظام التعليم الموحد؟
– أنا لست بحاجة للتذكير بهذه الإنجازات يا نظام.. لا تنسى أنني شاركت في بناء هذا الرخاء.
– أكيد يا أفندم.. طيب، هل المشكلة يا أفندم أن هذا المجرم لا تعجبه الإنجازات أم…
قاطعه اللواء بحدة:
– الخطر يكمن في كلمتي (حلم وأمل) … لقد اختفت من قاموسنا منذ فترة. الحلم والأمل أمراض معدية لا تبرأ منها ولا تموت. فلا الزمن زمن حلم ولا المكان مكان أمل. هذا زمن الصمت والإنجازات. يا إلهي… إننا نعود إلى الوراء… يا لهذه الأيام المدوخة. تعرف ما معنى الحلم يا (نظام)؟ أن تتطلع إلى الغد.. أن تبتكر.. أن تعترض.. أن تسأل.. أن ترفض التغني بعظمة الماضي وأن تتطلع إلى غد مختلف… لطفك يا رب
– ماذا تنوي يا فندم؟ هل ستقوم باختراع شيء لقتل الحلم والأمل في المهد؟
توقف لسان اللواء عن الكلام، لكن عقله كان يتحدث دون كلمات. لم يريد أن يسمع (نظام) ما يدور بعقله:
– ترى أيها الأحمق إنني لم أحاول أن أخترع قاتل للأمل والأحلام، لقد اخترعت كل شيء ومنعت كل شيء إلا ما يتمسك به (شومان) وأمثاله. لقد حاولت لسنوات لكن الإنسان يولد بهما ولا ينقضيان إلا بقضاء نحبه. لو كان هناك اختراع للقضاء عليهما، لكن هتلر وأحفاده يرتعون بيننا لعبا ولهوا
ثم تحدث اللواء بصوت مسموع:
– الأحلام خطر على الأمن القومي يا نظام و…
– أوامرك يا فندم.. أنا جاهز
لم يرد عليه اللواء لأنه لا يعرف بما يرد، لكن حماسة الرائد (نظام على منتظم) لم تنقطع فواصل كلامه بنفس الحماس والصراخ:
– غدًا تأتي إلى المعمل يا أفندم.. دقت ساعة العمل ولا عودة للوراء. لابد أن نقوم باختراع جهاز يمنع الأحلام والأمل حتى في وجود الأمل…الله أكبر.. الله أكبر.. أنا سعيد.. هذا يوم عظيم أن نراك في المعمل مرة أخري يا فندم. لن أذهب إلى المنزل الليلة. سوف أعود إلى المعمل لترتيبه حتى يليق بعودتك إليه
عندما رأى (نظام) عيون اللواء مثبتة على نقطة مجهولة في الفضاء، همدت حماسته درجة وتغيرت نبرته وهو يسأل اللواء:
– ماذا يدور برأسك يا أفندم.. أنا لازلت أتذكر كلماتك الخالدة عندما انضممت للكتيبة: “عيون العشاق لا تنام يا بني ونحن نعشق تراب هذا البلد.”
صمت (نظام) لثواني عندما لم يجد إجابة من اللواء. تغيرت نبرة (نظام) إلى صراخ والدموع تنهمر من عينيه:
– “فليكن ليلنا ليل طويل بلا فجر، ولتكن أيامنا بلا شمس حتى ندحر العدو يا أفندم.”
أجابه اللواء دون حروف:
– يا لك من أحمق.. لن تعي أبدًا خطورة ما أقول.. لن تعرف أبدا كيف يمكن للحلم أن يغير حياة إنسان إلى الأبد.