بقلم: زينار أحمد قدرى*
مدخل:
هناك علاقة وثيقة بين الحدث والشخصية فلا شخصيات بلا أحداث ولا أحداث بدون شخصيات فالحدث كما يرى د/طه وادى: “شيء هلامى إلى أن تشكله الشخصية” (1)، وقد أوضح الكاتب الروائى الأمريكى هنرى جيمس كنة هذه الوضعية بقوله: “إن الشخصية هى التى تحدد نوع الحادثة، والحادثة هى التى توضح لنا طبيعة الشخصية” (2)
فالحدث يقع أولاً أمام أعيننا ثم يتردد صداه، بعد ذلك داخل الشخصية، حيث تقوم الرواية على العلاقة الجدلية بين الحدث المادى والصدى النفسى للشخصية (3)
لذلك كان موضوع المقاومة وعلاقتها ببناء الحدث فى روايات السيد نجم، حيث تتجلى فكرة المقاومة أولا فى حدث أو فعل.
ما الحدث؟
يعد الحدث بمثابة العمود الفقرى لجميع عناصر بناء الفن القصصى (الشخصيةـ الزمانـ المكان ـ اللغة)، يرى د.رشاد رشدى فى كتابه “فن القصة القصيرة”: “أن الحدث هو أهم عناصر القص، وكل ما فى نسيج القصة يجب أن يقوم على خدمة الحدث، فيساهم فى تصوير الحدث وتطويره بحيث يصبح كالكائن الحى له شخصية مستقلة يمكن التعرف عليها، فالأوصاف فى القصة لا تصاغ لمجرد الوصف بل لأنها تساعد الحدث على التطور لأنها فى الواقع جزءاً من الحدث نفسه” (1)
فالحدث كما يعرفه د.طه وادى بأنه: “هو الفعل القصصى أو هو الحادثة ” Event” التى تشكلها حركة الشخصيات لتقدم فى النهاية تجربة إنسانية ذات دلالة معينة، أو هو الحكاية التى تصنعها حركة الشخصيات، وتكون منها عالمًا مستقلاً له خصوصيته المتميزة” (2)
إذن هو الفعل القصصى الذى يجسد قضية ما، بواسطة الشخصية التى تشكله وتعمل على تطويره وفى رواية المقاومة وخاصة تلك التى تعبر عن التجربة الحربية نجد مزجاً بين الفعل القتالى، والإنسانى معاً، وفى أغلب الأحيان يكون الحدث مفروض من قل الآخر سواء أكان خارجى أو داخلى، فالشخصية فى رواية المقاومة لم تخلق الفعل القصصى لكنها تسهم فى تشكيله، حيث تحاول التعامل والتفاعل مع الحدث، لكن تأثيرها يكون ضئيل.
والحدث هو الموضوع الذى تدور حوله القصة، لذلك ينبغى أن تكون الأحداث جزءًا من الحكاية التى تسردها الرواية ف “الحكاية هى التى تحدد الأحداث فى إطارها المادى، وتشكلها فى فكرة نامية مترابطة ترتبط بالزمان والمكان والقيم بغية إحداث أثر كلى يشعر به المتلقى وينفعل له ويقتنع به” (3)
ورغم أهمية الحدث، لكونه أحد عناصر البناء القصصى إلا أنه: “ينبغى ألا يكون كل شئ فيها، لأن الكاتب لو ركز عليه لتحولت القصة إلى مجرد خبر، ولابد من توظيف الأحداث لأداء مواقف لها دلالتها الخاصة حتى تحقق للقصة صفاتها الفنية ” (4)
والحدث الروائى ليس تمامًا كالحدث الواقعى فى الحياة اليومية وإن إنطلق أساسًا من الواقع، وذلك لأن الروائى حين يكتب روايته يختار من الأحداث الحياتية ما يراه مناسبًا لكتابة روايته، وكلما كان الحدث واقعى، كلما إقترب من ذهن القارئ، ومع ذلك فالكاتب ينتقى ويحذف ويضيف من مخزونه الثقافى ومن خياله الفنى، ما يجعل من الحدث الروائى شيئاً آخر لا نجد له شبيهًا فى الواقع.
ويتم عرض أحداث الرواية بإحدى هذه الطرق:
1- الطريقة التقليدية: وفيها ترتب الحوادث ترتيبًا زمنيًا طبيعيًا بحيث يستهل الكاتب أحداث روايته بالبداية ثم الوسط ثم النهاية،أى يكون البناء متتابعاً من نقطة البداية إلى نقطة النهاية.
2-الطريقة الثانية: وفيها ينطلق الكاتب من النهاية ثم يعود بقارئه إلى الظروف والملابسات التى أدت إلى نشوء هذه الأحداث حتى يصل إلى هذه النهاية.
3- الطريقة الثالثة: ويبدأ فيها الكاتب أحداث روايته من منتصفها ثم يعود بقارئه مرة أخرى إلى بداية هذه الأحداث وإلى الأحداث والوقائع التى أدت إليها.
وقد تعددت الأحداث فى روايات السيد نجم بتنوع الروايات، فنجد الحدث السياسى، الحدث الإجتماعى، الحدث الدينى، الحدث النفسى.
أولاً الطريقة التقليدية:
تلك الطريقة التى تتابع فيها الأحداث دون ارتداد، خاضعة لعنصر السببية حتى النهاية، وهذا التتابع سمة أساسية فى الأدب القصصى منذ القدم، فقد عرف “فور ستر” فن القصة اعتمادًا على هذه الرؤية بأنه سرد قصصى للحوادث،مرتبة تبعًا لتسلسلها الزمنى.
(1)- أيام يوسف المنسى:[1]
هذه الرواية تعرض لنا الانكسارات التى طالت المجتمع المصرى بعد هزيمة يونيو 67، وما أحدثته من انهيار لكل البنى التحتية، وللوقوف على كيفية بنا أحداثها، ننظر أولاً للعنوان كخطوة أولى للولوج داخل النص القصصى، وكعتبة للنص..
فالعنوان مكون بنائى فى النص حيث “يقيم الصلة بالمضمون، وذلك لكونه يجلو عنه ويبين فحواه، وهو فى العمق غالبًا يعطى للنص قيمة من بين نصوص تنازعه الوجود. (5)
كما يقدم نوعًا من الإثارة للمتلقى قبل قراءة النص،ويشير إلى أجزاء النص،حيث يصنع علاقة رمزية أو صريحة مع المضمون،فيشير إلى الفاعل أو المكان أو الزمان أو الفعل أو أحد الأشياء فى النص.
وقد يتكون العنوان من جملة اسمية أو فعلية، قد يكون طويلاً أو قصيرًاً، مختزلاً أو مركزاً، وقد قسم جيرار جينت العناوين إلى قسمين فى قوله: “سأطلق على العناوين التى تبين مضمون النص ببساطة شديدة، العناوين المضمونية، أما العناوين الأخرى، فيمكن أن أطلق عليها العناوين الشكلية أو النوعية…. واقترح أن أطلق اسم العناوين المضمونية على تلك العناوين المتعلقة بالذات الفاعلة فى النص عند “هوك”، والعناوين الشكلية على العناوين المتعلقة بموضوع النص عنده..” (6)
والعنوان فى رواية ” أيام يوسف المنسى ” يتكون من جزأين:
أيام يوسف المنسى
زمن الشخصية صفة
دلالة على تهميشه
فالعنوان يتشكل من زمن الأحداث (الأيام التى عاشها البطل) [2]
،والشخصية المحورية (يوسف المنسى)،فالأيام: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، ويوسف:مضاف إليه مجرور وعلامة جره الفتحة لأنه ممنوع من الصرف، المنسى: صفة، ونتساءل أين الخبر؟، الخبر بقية النص السردى، وهذا ما يدفعنا للتساؤل،ماذا حدث فى أيام يوسف المنسى؟.
وثمة مكون بنائى آخر له نفس مصداقية العنوان، فى التعبير عن مضمون النص، وهو الاستهلال الذى تتشكل معالمه فى ذهن الكاتب من العمل الفنى نفسه قبل صياغته ليكون قادرًا على الإلمام به،وإدراك فحواه، تلك البداية التى تقذف بنا إلى رحابة النص، ولا نستطيع تحديد نهايتها، قد تكون بنهاية الفقرة الأولى،وربما تكون بنهاية الفصل الأول.
يرى د/عبدا لمنعم أبو زيد أن البداية تقوم بوظيفة مهمة فى النص:
“حيث تقدم إطارًا عامًا له، وتعبر عن علاقاته ودلالاته التى ما تلبث أن تتحقق فيما بعد عن طريق التداخل الحادث بين عناصره، ولذا فهى مثير فعال للقارئ، تحفزه للولوج داخل النص، بواسطة ما تمنحه من رموز وإشارات، تحيله إلى مكوناته، وبهذا يحدث التواصل بين المتلقى والنص منذ البداية” (7)
لذا يمكننا القول بأن البداية هى المحرك الفاعل الأول فى النص حيث تكشف لنا طريقة بناء الحدث،ووضعية السارد،والمكان،والزمان، بمعنى آخر أنها تلخص النص، وتقدم فحواه.
وفى رواية ” أيام يوسف المنسى ” تكشف البداية عن طبيعة الحدث، وأثره على يوسف بل على المجتمع ككل، وتضمنت الشخصيات،كما عبرت عن نوعية السارد، ووجهة نظره، ومن ثم جسدت فحوى النص، يقول السارد: “أنا يوسف عبد الواحد المنسى… ثلاثة أيام بليلتين كنت تحت الأنقاض” ص11
ويرى د/طه وادى أن الكاتب: “له مطلق الحرية فى اختيار اللحظة التى يبدأ منها، والمهم أن تكون ساخنة ومثيرة تقوم بعملية جذب – لا طرد للقارئ” (8) فنجد البداية فى هذه الرواية مثيرة تثير العديد من التساؤلات من أهمها، من هو يوسف المنسى؟ وما سر تسميته بالمنسى؟ ماذا حدث له؟ ولماذا ظل ثلاث أيام بليتين تحت الأنقاض؟ ولماذا انتهز فرصة وجود المسئول الكبير؟ وما هى شكواه؟
تمضى أحداث الرواية لتجيب على تلك التساؤلات،حيث أمضى يوسف ثلاثة أيام تحت الأنقاض، قضاها فيما يشبه (الجٌب)، ذلك الذى صنعته الأتربة والخشب المحطم، كما تسرد لنا ما آلت إليه أحوال المجتمع المصرى بعد هزيمة يونيو، وأثرها الاجتماعى، والتحولات والتغيرات التى حدثت لهذا المجتمع،كما يكشف هذا الاستهلال عن نوعية الحدث،وهو حدث إجتماعى.
الحدث فى محوره يدور حول تنقل يوسف بين عدة عوالم بحثاً عن هويته ومأوى له، وعمل يحقق له آدمية العيش، فهى رواية تتكون من عدة وقائع تفضى إلى بعضها، بفعل منطق الترابط والسببية، فالحدث فى هذه الرواية ينمو بشكل مترابط ومتماسك، معتمدًا على التتابع فى إطار التسلسل الزمنى، ويتخلله مجموعة من المصادفات والمفاجآت.
رصد لنا الكاتب انتماء يوسف إلى عالم الطابونة، مجسدًا الحالة التى يعيشها أهل الطابونة، ومنادتهم للبطل بابن المنسى، وكأنهم يؤكدون على ضياعه وذوبانه فى كيانهم، وهو كيان مختلط إندمجوا فيه.
ويمضى الكاتب صاعدًا بأحداث الرواية، راصدًا انتقال البطل من كيان الطابونة، إلى كيان مماثل له فى (مساكن قلعة الكبش)، حيث نجح يوسف فى أن يكون له حجرة فى مساكن الإيواء، حيث تأمل البطل الحياة هناك ناظرًا للعالم من ثقب صغيره صنعه فى الحائل الخشبى.
وفى هذه الرواية تظهر كثير من لحظات التأزم، حيث يبحث يوسف عن عمل،ويستمر فى متابعة الجرائد لمدة شهر، لكنه لم يجد أي عمل فالوظائف المطلوبة لأنثى جميلة، مثقفة، مما يدفعه إلى العمل مع سونة الراقصة.
تقود الظروف يوسف إلى أحياء فرح محبوبته أمل على شاب غيره، حيث تعمل المصادفة على تطور الحدث وربط السبب بالمسبب، يقول السارد:
“قدماى سحبتنى ببطء إلى حيث لا أرغب، نحو الكوشة حدقت فى عينى “أمل” عروس الليلة.
دهشة نظرت إلى، لا أدرى لماذا؟ ربما وجدتنى طبال الفرقة “
مما يدفع يوسف إلى عالم المخدرات، لكنه سرعان ما يمل هذه العيشة، ويهجر مساكن الإيواء، وتستمر المصادفة فى عملها على تطور الحدث، حيث يلتحق يوسف بالعمل مع نجار الأربيسك ويعيش معه، حيث اقنع النجار يوسف بأن يعمل معه، يقول السارد:
” اسمع هنا تنسى حكاية السقوط، المنشار يأكل أصبعك، شغلتنا للرجال المجدع”
ويتابع الكلام، بعد أن أخبره يوسف أنه لا يعرف شيئا عن هذه الحرفة قائلاً:
“لا يهم، من شابه جده فهو منه، لا تكثر الكلام معى”
وتمضى الأحداث وتحاول زوجة النجار إغواء يوسف، فيترك عمله مع الأسطى، ويعود إلى قلعة الكبش، وحينما يعود يكتشف المتغيرات التى طرأت على سكان مساكن الإيواء، ثم بعد ذلك يعمل مع المعلمة أم وردة فى تهريب البضائع،ولم يكن يوسف وحده يعمل مع أم وردة، بل أصبح كل أهل المساكن تعمل لحساب هذه السيدة.
ويعترى التطور الطبيعى للحدث بعض التفاصيل الجانبية، والقصص الفرعية التى تحد من هذا التطور، ومنها تعمد يوسف تجاهل محبو بته،لكنه يفشل فى التهرب منها، يلتقى بها، نجد فى هذه الحادثة يوظف الكاتب انشغال أمل بقطة تحاول تسلق السور، بينما يوسف يتابع حديثه، وهى تطلب أسبرين تسكينا للصداع من حديثه المغرق فى الفردية الجديدة، فيقول بما تحمله فلسفته الجديدة للحياة:
“عرفت ما لم أعرفه من الورق. عرفت لعبة الدنيا”
وكأن ما قرأه فى الكتب لا علاقة له بالواقع.. فكل منهما يمثل عالمًا منفصلا عن الآخر، له قوانينه، فالواقع له منطق خاص، ولابد لمن يريد أن يعايشه، أن يكتسب الخبرات من الممارسة الفعلية، وليس مما تحتويه الكتب، يقول مخاطبا أمل فى فقرة آخري:
” صدقينى قطار بورسعيد وحده بنصف مكتبة أبيك”
فهذه التفاصيل والأحداث الجزئية، ليست مجانية، فلها مدلولها، ووظيفتها فى خدمة المعنى العام للنص، بحيث لو حذفت، لأصاب النص خلل واضح فى بناء بعض عناصر بنيته الأخرى، يقول تودورف: ” يمكن للرواية أن تشتمل إلى جانب القصص الرئيسية، على قصص أخرى ثانوية لا تفيد عادة، سوى فى تمييز خصائص شخصية من الشخصيات”
وتأتى النهاية لتعبر عن اكتمال الحدث، أى اكتمال رحلة يوسف الطويلة، حيث يلجأ يوسف إلى الدراويش يغمى عليه، فالنهاية فى هذه الرواية مفتوحة، فنحن لا نعلم هل يفيق يوسف من إغماءه ويعاود البحث عن هوية له بعيدا عن عالم النفايات؟، أم يظل على إغماءه حتى يلفه الموت؟ ربما يكون قد مات حقًا.
(2) السمان يهاجر شرقاً:[3]
تعد هذه الرواية من الروايات التى سجلت تجربة حصار كتيبة من المشاة على الضفة الشرقية للقناة، وعنوانها يتسم بالإيحائية الرمزية، كما يكشف عن محاور متن النص من بدايته إلى نهايته، حيث يتكون من ثلاثة أجزاء، تصنع نصًا موازيًا فى الدلالة والهدف، وهى:
السمان” (9) يهاجر شرقًا
“الشخصية الحدث وهو
المحاربة وهو فعل مكان
مجازًا ” دال على الحصار
الاستمرارية
فالعنوان بما يحمله من رمزية معينة، حيث استعار الكاتب طائر السمان ليرمز به للجندى المصرى، مسندا إليه الفعل الدال على الاستمرارية، وهو فعل الهجرة، حيث يمنح العنوان تفسيرا دالاً وملحوظاً، وخاصة عندما خصص الهجرة فى اتجاه الشرق، ليدل على القصد الواعى.
وقد جاء الحدث فى هذه الرواية متتابعاً فى إطار الزمن، حيث بدأ بالتفاف الجنود حول الترانزيستور، يقول السارد:
“التففنا حول الترانزيستور لسماع بيان المفتى، علت صرخة بين أرجاء ـ مست جرميت تحت الأرض رقم 5 (10) ـ غدًا الأول من رمضان، تبادلنا التهنئة داعين الله بصدق:
“ربنا لا يعيده علينا ونحن هنا “ص7
[4]فبداية الرواية تؤطئ للحدث، وتكشف عن طبيعته وعن زمانه ومكانه. حيث تبدأ الأحداث مع بداية شهر رمضان، مصورة حالة القلق والحزن التى اتسم بها الجنود،فهو رابع رمضان لهم ولا جديد، فهم فى انتظار اللحظة الحاسمة، كما اشتملت على أول الأمكنة التى جسدت تجربة المؤلف وهى المستشفى الميدانى كما يكشف بقية الاستهلال عن طبيعة الحدث، فالاستهلال جزءًا لا يتجزأ من النص، يقول السارد موضحا حالة الجنود:
“كيف أقضى رابع رمضان لى مجندًا ولا جديد؟
أصبحت فى شك أن القيادة ستصدر أمرًا بالقتال على أية صورة من بعد. ريح هوجاء لطمتنى بغته. وزنى منذ وصول تلك الوحدة ـ المستشفى الجراحى الميدانى تحت الأرض رقم5 ـ زاد تسعة كيلو جرامات ” ص8 فقلقهم وخوفهم بسبب اعتباطية قرارات القادة، وحتمية خوض الحرب دون الغفلة من ضآلة الإمكانيات، فالبطل قد زاد وزنه نتيجة التوتر والخلل الهرمونى، يقول السارد مؤكدًا ما أصابه من خلل:
“تأكدت من عجزى عن التفكير فى المستقبل القريب والبعيد “.ص10
ولحظات الذروة والتأزم فى الحدث عديدة، بدأت بالترقب والخوف، حيث أعلنت مجموعة من القرارات السياسية والعسكرية، ومنها إعلان حالة الطوارئ بين صفوف الجيش، على أثرها تم
إستدعاء الضباط والجنود ليلتحقوا بوحداتهم، آثار ذلك التساؤلات حول حتمية خوض الحرب، يذكر السارد ذلك قائلاً:
“هل ممكن نحارب حقاً؟!”ص12
كما قالوا ضمن ما قالوا:
“التعليمات بإيقاف الأجازات يجب أن ننظر إليها بأهمية “.. ” عادى، أسهل شئ عند القادة إيقاف إجازات الجنود الغلابة “..”كيف.. لقد تعودنا على ذلك، ألم يحدث ذلك من قبل؟”..” حدث ولكن هذا هو الجيش،
ربما تمويه هذه المرة؟ “.. “تعنى حربًا يا صديق، لقد انتهى زمن المقاتلة،فقط نقاتل أنفسنا “
والحدث فى هذه الرواية يتتابع فى إطار الزمن، ينطلق من نقطة محددة ثم يتشعب حتى النهاية، وهو مترابط ومتماسك يفضى فيه الجزء إلى الكل بفعل منطق السببية، وهذه المنطقية التى تطغى على النص، تجذب القارئ وتجعله شغوفاً بمواصلة قراءته حتى النهاية،لأنها فى نظره كما يقول تودورف: ” علاقة أمتن بكثير من التتابع الزمنى، وإذا تلازما فهو لا يرى منهما إلا الأول…..” ص23
فالحدث تطور وفق منطق السببية، أى أن كل جزء فيه يعد سببًا لما يليه، ونتيجة لما قبله، فهو يبدأ بترحيل الجنود إلى مجهول الزمان والمكان، يقول السارد:
“إنشغلت مع الملازم أول طبيب نبيل قائد النقطة الطبية، معًا حولنا البحث عن تلك الخريطة الصغيرة التى تسلمها حالاًُ حتى نحدد موقعنا على شاطئ القناة.. حددوها لنا بعلامة× تبعد حوالى خمسة كيلو مترات عن العلامة المماثلة المجاورة، وعن موقع أقدامنا الآن بحوالى ثلاثين كيلو مترًا..” ص38
وتستمر وقائع الحدث هكذا فى تتابع زمنى سببى حتى ” تشكل كائناً عضويًا ناميًا متآزر، بحيث لو حذف منه جزء، أو تغير موقعه فى النسق التعبيرى، اختل الكل، ومن ثم فإنه لا يمكن للجزء أن ينفرد بأداء وظيفة معينة مستقلة عن الأجزاء الأخرى”
وتعد لحظة التأزم، سمة أساسية فى هذه الرواية التى تندرج ضمن رواية الحرب، نتيجة للصراع الدائم بين الجنود والعدو الصهيونى للوصول إلى الهدف، يقول السارد:
” إحدى عربات الزل تزمجر، صوت نفيرها لا ينقطع، أشار إليها الجنود بالوقوف، رفعوا للسائق أحد أعلام النقطة ومنه الكثير، سرعان ما أعتلى اثنان من جنود النقطة صندوق تلك السيارة استلما محفة من آخرين، حملا مصابين على محتفين: ” يبدو أنها بدأت فعلاً ” !! ص41
وتزداد لحظات التأزم بازدياد عدد المصابين، يقول السارد: ” بعد الثانية ظهرًا زاد عدد المصابين وتنوعت الإصابات، لعلها كانت أكثر من أى يوم سابق بالنسبة لنقطتنا الطبية” ص58
ويتطور الحدث من خلال عدة وقائع، حيث يعتمد الكاتب على مبدأ الاختيار والانتقاء فى تصوير الوقائع العسكرية، فاختار منها ما يضمن لحدثه مقدرة الوصول بقضيته الجوهرية إلى عقل القارئ، معبرا عن تلك التجربة التى خاضها الجنود، حيث صدرت الأوامر بالعبور، وتمت المواجهة مع العدو، يقول السارد:
“طائرات الميج المصرية ضربت المعسكر وقتل عدد من الجنود وسكرتيرة القائد العام.. ” ص77
وتستمر المواجهة إلى أن ينجح أفراد الكتيبة فى احتلال الحصن، خلال معركة استمرت ثلاث ساعات، كما يتجدد الضرب المدفعى العشوائى، حيث كثف العدو عملياته العسكرية، يقول السارد:
“لعلهم يريدون الحصول على اكبر قدر من الأرض التى خسروها فى المنطقة، أكيد….ولو نجحوا فى احتلال الموقع كله فلا بأس، فهو أقصى أمانيهم الآن ” ص78
كما تابع الجنود (الرفقاء الطبيين )، نقل الجرحى والمصابين إلى أقرب وحدة ن تلك التى تبعد حوالى ثلاث كيلو متر، يقول السارد فى هذا الموضع:
” خطتهم حمل المحفات الثلاثة وفوقها المصابون فى الوضع نائمًا، يزحفون والوضع منثنيًا، يعدون… لا يهمسون “
وللاسترجاع أهمية فى بناء الحدث فى هذه الرواية، حيث بدأ الجنود تذكر أفضل الأيام التى عاشوها فى كبريت، اتفقوا جميعًا على يوم إغراق الزورق، يقول السارد:
“علمنا باقتراب إحدى الوحدات البحرية للعدو… إحتلت إحدى الجزر الصغيرة فى مياه القناة والقائمة أمام حدود وحدتنا فى كبريت.. ” ص101
لكن استطاع الجنود التصرف على قدر من المسئولية، وذلك بإغراق الزورق، حيث اشتركت كل الأسلحة لإغراق الزورق، قبل أن تحتل القوة التى فيه الجزيرة، حيث نجحوا فى تحدى الخوف والحصار.
حيث وجد الجنود فى الإسترجاع متعة فائقة، حيث يستعرضون الأحداث البطولية والمقاومية التى مروا بها من بداية الحصار، فقد عرض العدو الصهيونى على العقيد إبراهيم عبد التواب أن يخرج جميع أفراد الكتيبة بدون أسلحة وينضموا إلى القوات المصرية المجاورة، لكنه رفض بإصرار، كما عاودوا عرضهم مرة ثانية، ولكن يخرج بكامل عتاد الكتيبة، رفض أيضًا، كما عرضوا عليه للمرة الثالثة استعدادهم للحوار معه وقبولهم لبعض شروطه حتى يخرج مع قوته، وتنسحب الكتيبة من الموقع إلى أى مكان، لكنه رفض، قائلاً:
” لن ننسحب وسوف نستشهد على أرضها” ص102
وتأتى نهاية الرواية حيث حضر الضابط سامى مع أحد الجنود عبر القوات المحاصرة إلى أقرب وحدات الجيش ومعهما إشارة تفيد،بأن مساعد وزير الحربية وقائد الجيش الثالث، سوف يصلان إلى الوحدة خلال هذا النهار، يسرد لنا السارد ذلك قائلاً:
” كيف”؟!
“لماذا”؟!
“متى بالضبط “؟!
رد على تساؤلنا فى بساطة لا تتناسب مع إنفعالاتنا الدهشة:
“اليوم سوف ينتهى الحصار إعتبارًا من ساعة حضورهم “.انشغل ربيع فى حذائه، أخرج مسمارًا منهما بأسنانه.. حفر هذه الجملة: “بعد مضى 134 يوما إنتهى الحصار فى كبريت…. الضفة الشرقية لقناة السويس “.
فى الأول من مارس 1974 م.
وما تضمنته النهاية يستوعب الأحداث فى مجملها، إذا جسدت فظاعة العدوان وآثاره، وتتضاد النهاية مع بداية الأحداث، حيث كان الجنود فى حالة خوف وضيق نفسى، لكن فى النهاية إستطاعوا إنهاء الحصار من خلال صمودهم وتحديهم، ففتحت لهم أبواب الأمل والحياة من جديد مع إسترداد الحصن.
2-الطريقة الثانية:
تلك الطريقة التى ينطلق فيها الكاتب من النهاية، ثم يعود بالقارئ إلى الظروف والملابسات التى أدت إلى نشؤ هذه الأحداث، حتى يصل إلى هذه النهاية.
ففى رواية “أشياء عادية فى الميدان”، يمثل الفصل الأخير الإستهلال الأول للرواية، حيث وجد “سرى ” نفسه فجأة يحقق شيئًا غير مألوف فى حياته الآنية مع زوجته البدينة، عندما برزت شبقيته الغانية لأول مرة بعد فترة طويلة من عودته لميدان التحرير فى أيام الثورة الأولى، حيث قضى ليلة لم يألفها منذ فترة طويلة.
كانت تلك الليلة هى البداية التى واجه فيها “سرى” نفسه فى مرآة منزله فى مستهل النص، حيث وجد نفسه يتحدث مع “سرى” آخر فى مرآة حمام منزله، حيث كانت حالته النفسية فى أيامه الماضية تسير من سؤ (سىء)إلى أسوأ، أثر مرض نفسى يعانى منه منذ زمن، وكأنه له تأثيره المباشر على حالته الجسدية والنفسية والحسية.
[5]جرب كثيرًا(الكثير) من الأشياء الصغيرة القادرة على صنع المعجزات فى مثل هذه الحالات (العجز مع زوجته)، كان يشرب مخلوط ” حبة البركة “، أو “الحبة السوداء” مع الزعفران، ومغلى أوراق شجرة الجوافة مع التهام قطعة وافرة من الحلاوة الطحينية، وسبع تمرات، حسبما دله عليها أصحاب الخبرة والتجربة وعلى رأسهم جده، كما استبدل أثاث شقته أكثر من موضع:
“لعل الأثاث الجديد، يشفيه من حالة غامضة انتابته منذ زمن، لم ينجح فى تفسيرها..فلم يعد يغفل له جفن، وانتابته الكوابيس…”ص7
لكن تجربته فى الميدان، وما رآه هناك أعادت له هويته ورجولته، يقول السارد:
” لم يكل من المحاولات لسنوات طالت، ولم تنجح !
لولا ما حدث منذ عدة أيام قليله، قضاها فى ساحة ميدان التحرير، على غير خطة دبرت، ولا حيلة تبناها، قذفته قدماه وألقت به الأقدار إلى هناك، ولم يندم” ص8
وعن طريق الاسترجاع جاءت هذه الرواية عبارة عن مقاطع مشهدية، حيث تتداعى خواطر “سرى” منذ أن كان فى الميدان، وكانت البداية فى الميدان غير مطمئنة وغير مشجعة، حيث تذكر تجربته بالثورة والمظاهرات أيام 67، و77، وهى فترة أن كان طالبا فى الجامعة وشابا متمردًا.
بدأت علاقة “سرى ” تقوى بالميدان، وتأخذ مسارها العادى حينما رأى مشهد الجرادة اليتيمة (الوحيدة) فى مخبأها السرى، بجوار ماسورة المياه الملاصقة للجدران الخلفية لمسجد عمر مكرم، كانت ملاحظته وتأمله الطويل أمام هذا المشهد والذى شد انتباهه بعيدًا عن ضجيج المتظاهرين، وصراخهم وصخبهم، وهو يشاهد هذا النوع الغريب من الفطر الأخضر ولاسود ولأبيض،لماسورة صدئة قابعة بين العشب، كانت الجرادة وحده:
“تابعها “سرى” تتجدد وهى تنسلخ وتلقى بقبضتها القديمة بعيدًا!
انقضى زمن لا يعرف مقداره هناك، فى ميدان التحرير، وإلى جوار المسجد، فلما رجع إلى سريره، شعر بنشوة كانت نسيا منسية..لم ينم على ذمة اليقظة..
لم يفزع،ولم تفزع رسمية طوال الليل…
ولأول مرة منذ زمن، يعتلى الهضاب ونتوءات الجبال والتلال البراح والخور الضيقة، التى يشكلها جسد زوجته.
لم تقل له كف المحاولة،
بل قالت له، بالأمس فقط:
إن كان الأمر هكذا، لم أعد غاضبة منك…. عد للميدان ثانية!
وتبدأ وتيرة الأحداث من الفصل الأول، حيث قاطع “سرى”، كافة وسائل الإعلام من راديو وتليفزيون وصحافة، يعمل فى إحدى المصالح الحكومية التى تمثل شريحة من شرائح المجتمع المتجذرة فى الحياة، يحاول أن يحقق لنفسه مكانة عالية، ويبرر ذلك بأنه أحد من شاركوا فى حرب أكتوبر.
وتأتى المصادفة لتلعب دورها، حيث تقوده الأقدار ليكون لاقطة أضواء، يرصد مشاهد الميدان وأحداثه والمساجلات التى تحدث بالأماكن المجاورة له مثل (حديث الحافلة)، كما رصد لنا مشاهد الصخب والعنف، شاهد كل مشاهد الميدان، ومعركة الجمل، تلك المشاهد التى فجرت لديه طاقة مخزونة، حيث تفاعل وتعايش مع مجتمع الثورة بكل ما يحدث فيها من دموع وصيحات، وما رآه من شباب رفضوا بكل قوة الفساد المتغلغل فى كل مناحى الحياة، فخرجوا فى ثورة عارمة على كل مظاهر الفساد، ثم تدور الأحداث فى حركة دائرية لتصل إلى نفس الخط الذى بدأت منه أحداثها الأولية فى مشاهد الميدان والثورة والثوار.
وفى نهاية النص يلوذ ” سرى ” بزوجته ” رسمية “، بعد أن ابتعد عنها فترة من الزمن، خبر من خلالها خريطة مصر كلها فى ميدان التحرير وهو:
“الآن يشعر بشوق غامض إلى خريطة جسدها، الجسد الذى ما كان يعتقد أنه يحبه، مهما كان منه، وإن لم ينجب “. ص147
ويعود النص مرة أخرى إلى بداياته الأولى، يقول السارد:
“ما زال لا يعرف عدد الأيام، تلك التى قضاها هناك فى الميدان، كل ما عرفه الآن ن وواثق منه،أنه عاش بضعة أيام بالعمر كله، نجح فى أن يسلخها عن الأيام كلها. بعيون يملؤها النعاس، اخترق باب العمارة..غلبته الفرحة الدهشة.
سمع حارس العمارة يتشاجر مع صغيرته الجميلة ” زينة”.. ما زال!
تبكى الجميلة، يسمعها تقولك
“آخر مرة.. ورحمة أمى آخر مرة.. لن اصعد سطح العمارة مرة أخرى (حيث تقابل حبيبها)
كاد يسقط “سرى” إلى الأرض من فرط الضحك، لم يشأ أن يدخل الحجرة المرمية هناك، حيث تبكى الجميلة زينه وأبيها أيضا يبكى!
كم أنت طيب القلب يا “محروس”..غلبك الحب فبكيت!
كم أنت جميلة يا ” زينه”.. غلبك الحب فاعترفت!
لم يستطع تحمل سماع صوت بكاء الحب، فضل ألا ينتظر المصعد تسلق درجات السلم، طواها معًا كما شاب فى العشرين، لم يخف شوقه لرسمية..” ص148
نفس المشاهد التى بدأت بها الرواية تتنهى بها،، وتظل هذه الأشياء العادية فى الميدان هى العالم السرى الذى عاشته الشخصية، وكانت ليلته الأخيرة بعد عودته من الميدان، هى ليلة العمر، حيث استرد سرى بطولته مرة أخرى، يقول السارد:
“بدت رسمية وكأنها كادت تهم بالطيران، كانت لا تزال على حالة التأهب وهى تعدو نحوه، نحو باب الشقة، وهمت تعانقه، لم تعبا بملابسها المتسخة، ولا برائحة الطبيخ المسبك الذى تعده، ولا بمنديل الرأس الذى يكوم شعر رأسها كومة واحدة ولا كونها حافية بأقدام متربة..
تقدمت” رسمية ” كما هى.. إمرأة وحشية، تسير على قدمين..
حاولت أن تطير الزغب من جلبابها، كانت يدها مبللة بماء الغسيل، علا وبان شبه الطين الأسود بكفيها وبجلبابها المتسخ،
وبرائحتها الزفرة،
وبهيئتها الغجرية،
عانقها”سرى”،
كأنه شاب فى العشرين، فتوة وفحولة..
كأنه فى الثلاثين، رغبة وشوقًا..
كأنه فى الأربعين، حنكة وخبرة..
كأنه فى الخمسين، روية واستمتاعًا..
وكأنه فى عمر يومه هذا، فتوة ورغبة وحنكة وروية، خبرته الأيام بأسرار الجسد كلها،
وكأن “رسمية”، كل نساء العالم!ص149
3-الطريقة الثالثة:
ويبدأ فيها الكاتب أحداث روايته من منتصفها، ثم يعود بقارئه مرة آخرى إلى بداية الأحداث وإلى الأسباب والوقائع التى أدت إليها.
1- فى رواية “الروح وما شجاها” تطرح البداية ماضى شخصية يوسف، الذى إستغرق حوالى خمسين عامًا يهرب من شبح الموت، وبين حاضره الذى يتمثل فى عمله فى الفندق، وما بين هذين الزمنين تسير أحداث الرواية معتمدة على التداخل، والمفارقة فى الأزمنة، ومن ثم لم تمهد البداية للنص بصورة كافية، لأن ما يميز هذا ” النمط من نظم الصوغ، كون الاستهلال فيه يطلق المتن من عقاله، دون أن يوطئ له، كما رأينا فى نظام التتابع…..”
والحدث فى الرواية يأتى على هيئة وقائع متناثرة ومتجاورة ومتداخلة، ولا تربطها علاقات سببية، وتتمثل فى تمرد شخصية يوسف على رؤسائه فى العمل، فتداخل الماضى مع الحاضر، ذلك الماضى الذى يحاول البطل تغييره.
وتتجه الأحداث للكشف عن شخصية البطل فكرًا وسلوكًا، وتعد طريقة بنائها دليلًا على تناثر الوقائع، وتداخلها الزمنى، حيث يعتمد الراوى، على أرشيف الشخصية الخاص منذ طفولته، والتحاقها بالجيش ومعانتها الإنسانية فى التجنيد، حيث طرح النص لحظات من طفولة يوسف، ولم يكشف لنا عن ماضى الشخصية كله،، حيث يعود بالزمن ليكشف عن تلك الصعاب التى عاشتها الشخصية.
حيث بدأ النص بتماهى شخصية يوسف مع إشكالية الموت، ولكن سرعان ما تغلغلت ذاته فى بؤرة النص عن طريق الفلاش باك، والعودة إلى الطفولة وتواتر المراحل السنية المختلفة بما فيها مرحلة التجنيد، التى شكلت جانبًا مهماً فى نسيج النص القصصى، ثم تسريحه من الجيش والعودة إلى هواجس آخرى فرضتتها عليه الحالة النفسية التى وجد نفسه إزائها، ومنها زراعته للصبار على سطح مسكنه فى أصص خاصة، إستخدم لها نوعًا خاصًا من الصفائح، كما كان يحتفظ بأشياء العادية مثل اوراق حفظ البونبون والشيكولاته، بل تعمد حفظ الديدان فى الفورمالين! ويبدو كأنه يحارب فكرة الموت والوهم الذى عاشه فى حياة شبه روتينية يصيبها الملل من كل جانب، كان يوسف:
” يملك قدرًا وافرًا من الخيال كفيلاً بتحويل العالم إلى مزق لا يعوقه أى شئ” ص22
لذا كان لابد أن يوجه كل همه إلى النساء خاصة، حينما وجد أمامه أحاديث أم سلامة التى كانت تقطن معه فى نفس منزله، وتحكى له ما يدور فى محيط الحى، وكذلك تلصصه على الفتاة سونه التى كانت تسكن أسفل مسكنه من نافذة المطبخ، وتتبع السباب المقذع الذى كان يطلقه أباها عليها.
وتتواتر عتبات النص المختلفة فى عناوين وأجزاء، عبارة عن شاهد، كل عنوان من هذه العناوين، يشير إلى حادثة حدثت له أو سمع بها، حادثة المنصة، إغتيال السادات، وسونه التى فوجئ بها تعمل معه فى النادى الليلى بالفندق الذى نقل إليه من وظيفته، وسعاد التى حاولت إغرائه حتى وافق أخيرًا من الزواج منها.
وتمضى الأحداث ويصاب البطل بالثعلبة فى رأسه، حيث خاف أن تفضحه، ويلحظها زملائه فى العمل، حيث اشتد اهتمام يوسف بهذه الحالة المرضية، حتى ظن البعض أنه تخلى عن هواجسه وأفكاره حول الموت، وتنتهى الرواية، بتعثر قدمى يوسف بشئ لزج على أرضية الحارة، لكنه سرعان ما ينهض، وقبل أن يتابع المسير نظر لداخل المقهى، وجد رقاب الجميع معلقة بشاشة التلفزيون، ظن أنها مباراة كرة القدم، يقول:
” أحدهم صاح يسألنى:
” إيه رأيك فى اللى حصل يا عم يوسف “.
” لا أدرى عما يسأل، لم استفسر، فقط فضلت الصمت ومتابعة العدو، لحقنى الملعون متابعًا لسؤاله:
“أعلنوا فى التلفزيون أن العراق ضربت الكويت !! “
سمعت من لحقه دون أن ينتظر تعليقًا:
” العراق دكتها، خلتها على الأرض “.
” شفت الخبر الأسود تعال فهمنا اللى حصل، أنت صحيح مجنون شوية لكن متعلم عن كل اللى فى الحارة”!
لم أجد ما أعلق به، كيف يسألوننى عن رأى وأنا المجنون؟
إنتبهت على من يتعلق بالبنطلون، نظرت إلى أسفل، سمعته يقول:
” هى فين العراق والكويت يا عم يوسف… قريبين من مصر؟.
اندفعت مفضلا عدم الإجابة، ترى بماذا أراد… أتمنى لو قلت: ” إنهما بلدان بعيدان “
هناك….
فى مكان أقصى….
على الكرة الأرضية….ص179
حيث جسدت النهاية صراع العرب مع بعضهم، وكانت نهاية مفتوحة..
حيث ترك المؤلف لخيال المتلقى، ينسج من خلالها بقية اأحداث، علام سينتهى الصراع بين العراق والكويت؟ وهل سيشفى يوسف من علته؟ أم أن نهايته مثل أمه التى أصيبت بمرض فشل الأطباء عن تشخيصه.
2- وفى رواية “العتبات الضيقة” يبدأ الحدث برسم الخطوط العريضة لأزمة البطل، يقول السارد:
” خلال تلك الفترة تلبسته حالة لا يعرف كنهها، ولم يستطع تفسيرها، يوم أن إستيقظ وهو لا يدرى ما دفعه بالضبط لأن يقرر عدم الخروج من البيت”
ثم تمضى الأحداث بعد ذلك عن طريق الاسترجاع الزمنى فى تتبع حياة البطل منذ مولده، وكيفية اكتسابه لعاداته ورائحته الغريبة التى تجعل كل من يقترب منه يشعر بالنفور، وكما يسترجع علاقاته فى كلية الطب البيطرى، التى إنتسب إليها، ثم علاقاته مع البشر بأصنافهم المختلفة فى مكان عمله.
حيث ينتقل المؤلف مع بطله بين عتبات ضيقة مختلفة، عتبة المثقفين أو المبدعين وثرثرتهم وإهتماماتهم، حيث ركز الكاتب على طبيعة “عرفه” بهذا الجو، وعتبه المدام التى يعمل عندها عتالا، وعتبة العمل وما فيه حيث إحتل مساحة كبيرة من الحكى الروائى، وعتبة علاقاته العائلية أمه وزوجته وجيرانه.
مع عتبة ضيقة يتابع تفاصيلها، ألا وهى كتابة رواية جديدة، حيث أنه أديبا يكتب القصة والرواية، ويلتقى مع الزملاء الادباء فى احدى المقاهى بوسط البلد (القاهرة).. وكثيرًا ما كشف عن أسرار الحياة الاجتماعية بوسط البلد، حتى جرسون المقهى الذى توفى مع إغلاق المقهى التى إشتراها أحد المستثمرين وحولها إلى محل تجارى كحال وسط البلد تجاريا بعد الانفتاح الاقتصادى فى الثمانينيات.
فكل عتبة من عتبات الرواية تتوافر فيها مقومات القصة باعتبارها وحدة يمكن أن تقوم بذاتها، فرواية العتبات الضيقة تخلو من العقدة الحقيقية، كما تخلو من الحل، إن الكاتب ينقل لنا عتبات مر بها البطل، باحثًا عن ذاته من خلال هذه العتبات.
كما حاول الكاتب إبراز توترات عرفه، وذلك من خلال تقريره لمواقف معينه، مثل لحظة موت الأم واجترار ذكريات الأب، واتكاءه على عدم اهتمام الناس به، أدى ذلك إلى محاولة إضفاء طابع الحزن والقتامة على بعض الأحداث، أيضا موقف المدام وهى تدخل شقة عرفه للمرة الأولى.
وقد تزوج ويبدو منتعشا فى هذا اليوم، بينما تبدو المدام غير سعيدة من زوجها العجوز حتى انها هى التى تدير أعماله، وتلك الحالة النفسية انعكست على علاقتها بعرفة وعاملته بقسوة متعمدة!
وتنتهى الرواية بنهاية مفتوحة، بنهوض عرفه وحده ويقظته، حيث استرد الوعى المفقود، نزع شرائح الخشب، يقول السارد:
“لم تواتيه القطط ولا الرواية، وإن لمح ظلين لقطة وقط، وحتى منتصف الليل وامتلأت الشقة بالظلام والصمت أكثر، تساءل عرفه فى نفسه:
” ترى…..ماذا سيحدث عندما يأتى النور إلى هنا فى الصباح؟!” ص3
فهل ينجح يوسف فى الهروب مما يعتريه من مشكلات، وهل تنتهى توتراته مع بداية الصباح الجديد؟ أم يظل على حاله وينغمس فيها ويتواءم معها.
خاتمة:
كشفت جملة الاحداث فى النماذج الروائية المعروضة إلى تأكيد ملمح “المقاومة” فى دلالتها النفسية والفردية التفاعلية ثم الإجتماعية التى قد تصل إلى حد المقاتلة ومحاربة المعتدى وإسترداد الحقوق المسلوبة.
(الدراسة جزء من رسالة الماجستير المقدمة من الباحثة بعنوان “المقاومة فى روايات السيد نجم.. دراسة تحليلية)
********
هوامش:
(1)البناء الفنى لرواية الحرب فى مصر، مرجع سابق، ص42، 43.
(2) أيام يوسف المنسى، مرجع سابق، ص11.
1- دراسات فى نقد الرواية ص28
2-الأدب وفنونه- محمد عنانى- هيئة الكتاب ص160
3-فن التأليف الروائى- نبيل راغب- دار مصر للطباعة ص44
4- يوسف ادريس وفن القصص- عبدالقادر القط- ط1 ص244
5- البداية فى النص الروائى- صدوق نور الدين- دار الحوار بسوريا ص70
6- البناء الفنى لرواية الحرب فى مصر- عبدالمنعم أبوزيد ص41
7- المرجع السابق ص42
8- دراسات فى نقد الرواية ص28
9- طائر مهاجر من الاقطار الباردة الى المناطق الدافئة.
10- اختصار مستشفى عسكرى رقم 5
…………………………………
* باحثة بكلية آداب سوهاج