وكان المنشدون يروون سيرة شيخنا “النوام” في مولده كل عام، حتى حفظها القاصي والداني، وتربعت على عرش الأناشيد والأغاني، حتى أن الشيخ همام جعلها في مقدمة درسه كل صباح، ويعلق في الفلكة من ينساها من الغلمان ، ولو كان أبوه من السادة الأعيان، لهذا كنت أرتعد وأرتعش، وأبربر وأنكمش وأمي تنهرني مرة بالقول، ومرة بالصراخ، ومرات بالضرب، حتى اجتزنا الدرب، ووجدتني أمام الشيخ كالفريسة بين فكي الأسد، وهو يقول: اللهم اكفني شر حاسد إذا حسد، وعينه تدور بيني وبينها، حتى استقرت على صدرها وبطنها، فأدرك الخبيث أن بعلها غير موجود، أو أخذته السلطة خارج الحدود، فتبسط معها في الكلام قائلاً: سأكون كالأب لهذا الغلام، فليس همي الأجر أو المنة، لأن تحفيظي القرآن سبيلي إلى الجنة، وما عليك سوى غسل عمتي كل أسبوع، مع رغيفين اثنين فلست بالمفجوع، وهكذا ظلت أمي كل أسبوع تغسل عمتي، وكل شهرين لباسه وجبته، وإذا ظفرنا في الموسم بالظفر، كان يهبط علينا كالقضاء والقدر، فيقعد على الصينية، ولا يتركها إلا نظيفة مجلية، وهو يبسمل ويقول: ألم تسمعوا بقول المصطفى المعصوم: عجلوا يا معشر المسلمين باللحوم، ثم يعطف على المرق بالبصل، وبعده على العصيدة بالعسل، ثم ينهض مدعياً القيام إلى صلاة العشاء، وهو يظرط من أمام ووراء، وما تحملته كل هذا الدهر، إلا لعلمه الغزيز، وحربه ضد أصحاب الأوكار والمواخير، وصوت أمي وهي تلهج بالدعاء أن يضمني الله في زمرة العلماء.
وهكذا أنهيت مع الشيخ حفظ الكتاب، وسمحت لي أمي بمغادرة الكتاب، والتوجه إلى الأزهر الشريف ومجاورة الشريف وابن الشريف، فمكثت في الأزهر حتى أدركني الحلم، وصرت فقيهاً في الشرع والعلم، وتركت عالم الصبية والغلمان، وصرت من أصحاب المكان، كما أصبح تلاميذي من أهل البندر، الذين ليس فيهم صميدة ولا بعجر، وغدت شلتي من الشيوخ الشبان، الذين لا يهابون الكلام عن النسوان، وكان شعارنا هذه الأبيات التي كتبها زميل قديم منذ سنوات، ويقول فيها:
وماذا يضير العلم الشريد.. من السطو يوماً لأكل الثريد
فماذا يطلب الناس من علمه.. سوى حفظ هذا الكتاب المجيد
وما ضر قوم إذا عالم.. له معدة مثل فرن الحديد
أيأكل ابن الزواني الوراك.. ويترك للشيخ أكل القديد
ويلهو رقيع بسيارة.. وتعلو التكاتك مثل النهود
فسحقاً لهذا الزمان الردي.. وسحقاً لآبائه والجدود
وكان شيخنا وأستاذنا يكنى بكامل الأوصاف، لأنه من أصحاب الأطيان والأوقاف، كما يكره الشعراء والكتاب، لأنه من تلاميذ الإمام عبد الوهاب، فاستدعاني في أحد الأيام، فمثلت بين يديه كما الجندي أمام القائد أو الابن أمام الوالد، وكان فضيلته ناسكاً لا يأكل الكفتة والكباب، ولا يلبس سوى القبقاب، ويرتدي طول العام، صوف الإبل والغنم، ويمنع على مريديه الورقة والقلم، لأنهما من بدع الفرنجة والكفار، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وكان يصيح فينا:العلم موطنه الكتاب، والكتاب محفوظ في الصدور يحفظه الصغير والكبير، لهذا اجعلوا لي شلتتي تحت هذا العمود، وجعلوكم تأخذون العلم وأنتم على البساط قعود، فهل نقلد المخانيث والسفهاء، الذين هم أنف في السحاب وإست في الماء، ونهدم هذا الرواق ونحرق هذه المقصورة، ونأتي بالدكك والكراسي والسبورة أم نسير سيرة السلف الصالح، ونقتلع ما ابتدعوه من النظارات والمصالح، ونعود إلى الفطرة السليمة، ونجعل الآخرة هي الغنيمة، ونعمل لرفعة الإسلام، ونصبح نحن أصحاب الأعلام، أم نتركها للفسقاء والرقعاء، ونجلس في بيوتنا كما النساء، ثم نزع عني عمتي وأنشأ يقول:
أراك تنط لي نط الذئاب.. وتأكل لحمتي وكذا شرابي
وتجمع حولك الصياع جمعا.. كأن البيت وكر للقحاب
وتهمل حزبنا الحر المبارك.. وتحلم بالفرار من العقاب
فإن رمت الغنيم والعطايا.. فسافر للكويت على حسابي
فتدخل جبهة فيها المعالي.. وتضمن جنة المسك المذاب
وما إن انتهى من الإنشاد حتى سأله الحضور: وما هي الجبهة يا مولانا؟ هل هي غير ما نملك بين العينين والعمة؟ فبادرنا غاضباً: أصابتكم المصائب والغمة، لأن الشيطان قد غشى عقولكم بغشاوته، فأصبحتم لا تفقهون، ليتني مت قبل اليوم وتركتكم تنهقون وتبرطعون، الجبهة يعلم أمرها الأطفال في المهد، وهي اجتماع أهل الحل والعقد، للزود عن الإسلام والمسلمين، وإرساء دعائم الدين، وهذا تكليف من الله خالق الإنس والجان، الذي ميزنا عن الحيوان باللحية والعمة والعزيمة وعلو الهمة، فاستعدوا للسفر باكر، وهاكم التذاكر.
………………..
* من كتاب قيد النشر