” المغنية الصلعاء” .. عندما يُعرّي يوجين يونسكو واقعنا تماماً

" المغنية الصلعاء" ..  عندما يُعرّي يوجين يونسكو واقعنا تماماً
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام




إبراهيم سعد

لقد تجاوزنا الآن مرحلة البحث عن الأسباب ؛ أسباب الأخطاء التي ارتكبها هؤلاء أو أولئك .نحن لا نعرف .. لم نعد نستطيع أن نعرف أين الخطأ . ولكن الذي نعرفه هو أنه لا بد ولا غنا للبشرية ، إذا كانت تريد أن تحفظ نفسها من الفناء الكامل ،من أن نتفاهم جميعاً "


أفضل ما في مسرح العبث بالنسبة لي، أنه يجعلنا دائمًا نفترض الأشياء على غير موضعها المألوف، ومن خلال التهكم والسخرية، والمفارقة اللغوية، يُعرّي الواقع تماماً، ويضعنا فجأة في مواجهة حاسمة مع قيم فاسدة، وأفكار مستهلكة، ظلت تحاصر البشر، وتفرض عليهم قوانينها، لتحولهم بالتدريج لآلات متشابهة في منظومتها القيمية ،و السلوكية ..

ولو أردنا التعبير عن ذلك بشكل أوضح، فيمكن القول أن مسرح العبث قادر على إفراغ الواقع من إطاره، والتعبير عنه، والارتقاء بمجموعة من الأحداث والروابط الغير عادية، والغير متوقعة .. أي التعبير عن الواقع ، بأفعال تتجاوزه .

ولذلك يقول يونسكو :

إن الكاتب ليس مربياً أو خطيباً واعظاً، فالإبداع يستجيب لضرورة فكرية ملحة. الشجرة هي شجرة وليست محتاجة للتعريف بنفسها كشجرة. وهي في غنى عن تصريح مني لتبرر وجودها كشجرة

بالنسبة ليوجين يونسكو- وهو رائد المسرح العبثي- ، فيكفي مثلًا أن نقول أنه كان صديقاً مقرباً لإميل سيوران، وكان عنده نفس تشاؤمه ، لنُدرك حقيقة تفكيره بشكل عام، وإن كان تعبير يونسكو يختلف عن سيوران في سخريته، وتهكمه، واستفزازه الذي يحكم تشاؤمه .

كما أن أحداث الحرب العالمية، بكل ما فيها من مناظر مرعبة، ومشاهد دموية، طرحت في الأدب المعاصر لهذه الفترة الكثير من التساؤلات حول مدى جدوى الأفعال الإنسانية، ومدى حرية الإنسان، ومال الحكمة من قتل الملايين من البشر، وما الغاية من الحياة .. إلخ

لذلك فإن مسرح العبث، ومنه هذه المسرحية، وغيرها من مسرحيات يونسكو، تتناول هذه التساؤلات بطرق مختلفة، والتي دائماً تكون تشاؤمية، تؤكد عقم الحياة البشرية المعاصرة، والوهم الذي تسكنه أحلام النيام.

أول ما لفت نظري بعد نهاية المسرحية، هو أن كل أحداثها لا علاقة لها بالعنوان من قريب أو من بعيد، فقط عبارة وردت عرضا عندما تقرأ النص، هى سؤال وجواب يأتيان فى خضم الحوار:

ــ ما هى أخبار المغنية الصلعاء؟

الإجابة: مازالت تصفف شعرها بالطريقة نفسها.

وكان هذا هو أول اللامعقولية في المسرحية ..

شخصيات هذه المسرحية، شخصيات برجوازية، قال عنها يونسكو :

هم بدون مميزات، إنهم مجرد قطيع كائنات بدون ملامح، أو بالأخرى إنهم إطارات فارغة، يتكلف الممثلون بإعارتها ملامح وجههم، روحهم، جلدهم، عظامهم .

إن شخصيات سميث، مارتان.. لا يعرفون كيف يتكلمون، لأنهم لا يعرفون كيف يفكرون، ليست لديهم أهواء، لا يعرفون كيف يتواجدون، بإمكانهم أن يصحبوا أي شيء، أي أحد لأنهم ليسوا الآخرين.... بإمكاننا أن نضع مارتن مكان سميث، ولن نلاحظ أي تغيير



وهذا أفضل ما في المسرحية، إن يوجين يونسكو استطاع ببراعة، ومن خلال لغة الشخصيات وخطابها أن يمارس فعله التدميري المرغوب.

ومن قراءتي لأعمال يوجين يونسكو استطيع القول، أن العبثية في مسرحه تكمن في تفاصيل الحياة اليومية الغارقة في اللا معنى ، رأيت هذا في مسرحيته جاك أو الامتثال، ورأيته الآن في هذه المسرحية للدرجة التي جعلتني اقف فعلاً ، واسأل نفسي :

هل تتشابه حياتنا مع حياة هذه العائلة البرجوازية في المسرحية؟ هل تحولت حياتنا اليومية إلى مجموعة من الأفعال، والأحداث المتكررة إلى مالا نهاية، هل حياتنا أصبحت عجلة لا تكف عن الدوران، يتحكم فيها العود الأبدي دائماً !!

إن البراعة أن يجعلك الكاتب تشعر بكل هذا .. بترتيبه اللا منطقي للأحداث، والكلمات، والحوار الذي لن تستهلك الكثير من الوقت لتشعر بخلل ما داخله، وشخصياته فاقد الإرادة، والتي يمكن ببساطة أن تغير شخصية مكان أخرى دون أن تشعر بأي فرق، فالجميع غارقين في المأساة، متشابهين في كل شيء !!

" إن المغنية الصلعاء هي محاكاة ساخرة لحواراتنا وأحاديثنا المتبادلة، ولما يسمى بالوضع الدرامي في حياتنا، ولعجزنا عن الصمت وتعد هذه المسرحية بحق نموذجا لمعنى العبث في الحياة"

أما النهاية، فقد مثلت هذا الفكر العبثي، وهذه النتيجة الحتمية بطريقة مذهلة، عندما استرجع يونسكو الحركات والأحداث بسرعة، لتعود المسرحية مرة أخرى بشكل عكسي، وصل بالعبث إلى الذروة ، لتصبح حياة البشر ولغتهم كحياة الحيوان ولغته ، لا فرق إذاً .. لا فرق ..

وفي النهاية .. ما زالت المغنية الصلعاء تصفف شعرها بنفس الطريقة، وما زالت العجلة تدور دون تغير .

مقالات من نفس القسم