لكنه هو الذي استقبلني في موقف الحافلات مبتسمًا ومندهشًا -من حجمي الصغير ربما- وربما من باقة الورود التي كنتُ أحملها بين ذراعي مثل طفلة تحمل لعبة. كان الورد أزرق تتخلله قرنفلات بيضاء وصغيرة، وكان هو أسمرًا نحيلاً يشبه “أحمد زكي” في بداياته.
قال: آتي هنا في الشتاء كي أكتب الشعر..
أثاث البيت صيفي بسيط، مطبخٌ مصمم على الطراز الأمريكي تجاوره ثلاث أرائك خشبية موزعة على مساحة صغيرة، ومكتبة تلتصق بحافة شرفة ترى البحر من مسافة مائتي متر على الأكثر..
كان البيت دافئًا، لكن برودة ما سرت في جسدي عندما حاول تقبيلي للمرة الأولى.
المحاولة الثانية كانت على درجات السلم الداخلي، المساحة الضيقة مغوية للاقتراب، تخللت أصابعه خصلات شعري، تحسست الفقرات الأولى من سلسال ظهري ورقبتي برقة متمرس، كان من الممكن أن أستسلم لولا أنه لم تكن لدي رغبة فيه، بدوتُ أمامه مثل سيدة تتغنج كي تبتعد دون أن تجرح مشاعره. أما بداخلي.. فقد كنتُ مجرد قطة تتلوى في بركة ماء من شدة الحر.
–المراوغة- هي أن نربت على ذواتنا عندما تحين اللحظة التي نُقدم فيها على الخطأ. هي الاحتماء من هشاشة أنفسنا عندما لا نستطيع احتمال فكرة أننا سيئين..
غرفة النوم!
رأيتها بالطبع. كانت الجدران مغطاة بورق حائط مزهر، خزانة ملابس غير ملفتة وسرير كبير يتوسط الغرفة، أعلاه لوحة مؤطرة بالذهب لا تتماشى مع طبيعة الأثاث، لكنها تحتوي المشهد بالكامل: فتاة تبتسم ببراءة وعجوز عار يغطي مؤخرته بقماش أزرق من الحرير، يبدو وكأن جناحين كبيرين قد نبتا من ظهره واستقرا هناك، يتلمس الفتاة بإحدى يديه وبالأخرى يمسك ساعة رملية. كان المشهد صامتًا لولا حبات الرمل التي بدت أنها تنسكب من جهة لأخرى في الساعة بصورة متلاحقة.
لماذا قبلتُ دعوته؟!
إليكم الحقيقة: فتاة مراهقة تظن أنها تكتب الشعر، تراوغ شاعرًا مشهورًا كي يقرأ لها، والذي يراوغها بدوره كي يحصل على قبلة أو أكثر بحجة كتابة قصيدة جديدة..
يفتح دفترها، يُقلب في صفحاته ولا يجامل، يقول: اقرئي أكثر.
يخذلها فتراوغ خذلانها بفكرة أنه يلتصق الآن بشهوته.
–المراوغة- هي استغلال جزء من الحقيقة لاختلاق مشهد حقيقي مكتمل.. والهروب من صورة الأخلاقيات المتعارف عليها إلى فكرة أن الأخطاء ممكنة ومحتملة.
البراءة! لم أقترب منها ولو قليلاً، لكن جرس الباب أنقذني يومها: يفتح الشاعر ليستقبل دجاجتين مشويتين، يفرغهما مع الخبز في أطباق، يجلس على الكرسي العالي أمام رخام المطبخ، يحملني لأجلس بجواره. لا آكل شيئًا. أتأمله يأكل بكل حواسه، يقول: اعذريني فعندما أجوع آكل مثل حمار..
أهز رأسي وأبتسم لفكرة أن شاعرًا حمارًا يجلس بجواري.. وأن أولئك العجائز المراوغين يشبهون الرجل العاري، ساتر المؤخرة بطل اللوحة.
كان لقاءً واحدًا، ظلت تراودني بعده أفكارًا عن “مريم”، عن صورتها على جدران الكنائس والكتب القديمة. عن أنني لا أشبهها على الإطلاق.
..