محمد الفخراني
المسودة، هى الأخت الكبيرة، الأكثر جمالاً، وجنونًا، مَنْ تضحى لأجل أن تعيش أخواتها الأصغر، خاصة تلك الأخيرة، الصغرى، التى تحصل (ظاهريًا فقط برأيى) على كل شىء.
الأخت، التى لولاها ما ظهرَتْ أخوات أخرى.
المسودة، ربما يتم إحراقها، إعدامها، نفيها، تركها وحيدة فى الظلام، لماذا؟ لأنها الساحرة الأصلية، فيها كل السحر الأسود والأحمر والأزرق، ينظر البعض إلى مسودته وكأنها ابنته المشوهة (حتى لو كانت.. فهى ابنتك)، نتحدث عنها أحيانًا (إذا تحدثنا) وكأنها لا شىء، كأنها خطأ ما، رغم أنها كل شىء، إنها أجمل الأخطاء، لولا هذا “الخطأ” ما حصلنا على أى شىء “صحيح”، كما أنها برأيى أكثر شىء صحيح.
وأنا، أعتبرها فائقة الجمال، أجمل من كل أخواتها، هى أذكى من أن تُفْهَم بسهولة، أَجَنُّ من أن يتم التعامل معها باعتيادية، متمردة بأكثر مما يمكن السيطرة عليها، لذا، مصيرها النفى، الإعدام، لكنها، رغم الإعدام والنفى والإهمال، تبقى حية، هناك، فى عالم خاص بالمسودات، أُصدِّق أن هناك عالما تعيش فيه المسودات حياتها، حياة فوضوية، رائعة، حرة، بها درجات بينية من الألوان والأضواء، يمكن للمسودات أن تعيش حيوات متعدددددددددة داخل درجات الألوان تلك، ليست فى حاجة إلى الضوء الساطع الذى تحتاجه الأخت الصغرى، فهذه الصغرى تستمد حياتها من الضوء المُسلَّط عليها، أما المسودة فحياتها من ذاتها، وروحها الحرة، المنطلقة، غير المبالية.
أفكر، ماذا يحدث، لو أن جميع المسودات كشفَتْ عن نفسها، وخرجَتْ دفعة واحدة إلى العالم؟ سنرى نوعًا من الجمال لا حَدَّ له.
المسودات لا تموت، إنما، هن فى عالمهن، يعشن حياتهن، هناك، حيث حياة أكثر جنونًا، أكثر فنًا، أكثر حرية، مثل مدينة للفتيات الأكثر جمالاً، وجنونًا، و”تشوهًا”، الجميلات الأكثر نقصانًا واكتمالاً فى الوقت نفسه، جمال لا يُحتمَل، غير مفهوم، الجمال الذى لفرط جماله، يبدو وكأن به الكثير من العيوب، مدينة من الأخوات الكبيرات، الشابات، غير المباليات.
سأحب أن أقضى وقتًا طويلاً فى عالم المسودات، مع هؤلاء المنفيات، المجنونات، المنبوذات، الرائعات، الخاطئات، الفوضويات، اللاهيات، اللعوبات، الحالمات، المستهترات، الباحثات عن الدهشة والمتعة بلا حدّ.
المسودة، مسحورة، فاتنة، بكل “عيوبها” وجموحها، هذا سر جمالها، حبيبتنا الأولى، هى مَنْ يعرف عيوبنا، رواياتنا وقصصنا فى شكلها النهائى لا تعرف شيئًا عن عيوبنا، أو نقاط ضعفنا، المسودة تعرف، ألهذا نخفيها؟ حتى لا تتحدث للآخرين عن نقاط ضعفنا، وعيوبنا، ألم نفكر أنها أيضًا تحمل أجمل ما فينا، أصدق ما فينا، وأقوى ما فينا، تحمل جنوننا، وجموحنا الكامل، بها الحياة كاملة، قبل أن نُهذِّبها، ونجعلها لائقة لغيرنا، المسودة، فتاتنا، ابنتنا، حبيبتنا السرية، هى مَنْ يعرفنا على حقيقتنا، مَنْ نبكى معها، نتألم معها، نمنحها عرقنا وآهاتنا وألمنا وغضبنا وشتائمنا، نعيش معها أجمل لحظات انتصارنا، وبعد هذا كله، نخونها، نحن الخونة الكبار، الأندال، نحتفل مع غيرها، نقدِّم لغيرها الهدايا، نقيم لغيرها الحفلات، نمنح أسمائنا وصورنا لغيرها، نلتقط مع غيرها الصور، ونتحدث طوال الوقت عن هذه الأخرى، نُقدِّمها لأصدقائنا، وللجميع، وننسى مسودتنا التى منحتنا كل هذا، نتركها فى الظلام، لا نتحدث عنها، نهملها، ننساها، وبعضنا يتخلص منها، يا لندالتنا.
لكن.. تلك التى تأتى فى الأخير وتحصل على كل شىء، وتعتقد أنها بالفعل قد حصلت على كل شىء، برأيى أنها لا تحصل إلا على القليل، المسودة هى مَنْ حصلَتْ على كل شىء، طبعًا، ألم تحصل على رعشتى الأولى، دهشتى الأولى، ألم تسمع آهاتى فى حضنها، ألم يربت كلٌ منا على روح الآخر، ألم نتبادل الشتائم وتقطيع الملابس وشقّ الجلد، ألم أَنَم فى حضنها ليال، ونامت فى حضنى، لعبنا معًا، رقصنا معًا، ألم تكن وحدها داخل عقلى وقلبى وروحى فى كل وقت، حصلَتْ على أورجازمى، وحصلْتُ على أورجازمها، التقى ماءانا معًا فى اللحظة نفسها مرات كثيرة، هى مَنْ رأت تلك اللمعة فى عينىّ، لهفتى، شاركتنى صعود الجبل، المشى فى الشوارع، والسهر، والموسيقا، شربنا قهوتتا المُرَّة معًا، مرة تُعدِّها لى، ومرة أُعدِّها لها، ومرة نُعدِّها سويًا، جلسنا معًا فى السرير، وإلى المكتب، وعلى الأرض، والأرصفة، وفى المقاهى، وأماكن اكتشفناها معًا، وأماكن اخترعناها لأنفسنا، ألم ننسى كل شىء لأجل بعضنا بعضًا، لا أحد ولا شىء عدانا، لم يكن غيرها فى حياتى، ولم يكن غيرى فى حياتها، كانت حياتى وكنت حياتها، هى مَنْ تعرف أسرارى، تعرف جزءًا من حقيقتى.
المسودة، الحب الأول، الحب الكبير، الحقيقى، أرواحنا كامنة فيها، بكل فوضاها ورعشتها، ما زالت أرواحنا ترتعش بداخلها، ولن تتوقف عن الرعشة هناك، أعتبر التخلص من المسودة خيانة بطريقة ما، ندالة، خوف، انتهازية ما، استغلال رخيص.
هى الغابة الكاملة، تظل محتفظة بالطرقات القديمة، الدروب السرية، خربشاتنا، قطرات دمنا، عرقنا، ورائحتنا، تحصل منا على الدفقة الأولى، التوهج الأول، ذروة الجنون، ولهذا ستكون راضية، لن يؤلمها أن تُهمَل، ستعيش فى عالم المسودات، وتتفرَّج من وقت لآخر على أختها التى حصلَتْ على الشهرة، لكن المسودة، الأخت الكبرى، ستكون قد حصلَتْ مُسبَقًا على حياة لن تقبل مقايضتها بأىّ شهرة.
المسودة تُقدِّر ما هى عليه، وتحبه، تريد أن تبقى فى عالم المسودات، الصاخب، الملىء بالأسرار، والعيوب الجميلة، العالم الذى ليس متاحًا، ويتمنى الجميع الوصول إليه، رؤيته، ملامسته، التعرف إليه، المسودة، ليست متاحة على رفّ مكتبة، لا يمكنك شراؤها، لا يمكنك المفاضلة بينها وبين غيرها، لا يمكنك أن تُمرِّر عينيك عليها من بعيد وتمضى، أو أن تتصفحها ثم تتركها، هى لن تمر بمثل هذه المواقف التى تزعج الأخت الصغيرة، وتجعلها تتمنى أحيانًا لو أنها لم تظهر للوجود، المسودة غير متاحة، صعبة المنال، لا تقبل أن يُصدِر أحد حكمًا عليها، ليست فى حاجة لأن يتحدث عنها أحد بشكل لطيف، أو يكتب عنها أحد، ليست فى حاجة لجائزة أو حفلة، ولا لأىّ شىء كى تثبت وجودها، لا شىء يغريها أو يخيفها، ليست تحت أىّ شرط، هى مكتفية بذاتها، وحرة من كل شىء، من كل أحد، كأنها تقول: “أنا ما أنا عليه ولا أبالى”.
الأخت الطيبة، الرائعة، الجامحة، الحبيبة المخلصة، التى تراقبنا من مكانها البعيد، وتفرح لنجاحنا، دون أن تُصرِّح بأنها السبب فيه، أنها الأصل، لن تنطق بهذا أبدًا، هى التى منحتنا اللذة الأولى، الفرح الأول.
تحب المسودة أن تعيش حياة غير تقليدية، غير طبيعية، بينما تركت لأختها الصغرى حياة طبيعية فى المكتبات والأرفف.
المسودة، الكنز الملىء بالأفاعى واللآلئ.
المسودة، كوب نصفه ملىء بدمنا، ونصفه لعطورنا، والخط الواصل بينهما هو أرواحنا.
الأخت الكبيرة، وكل ما يأتى بعدها بعضٌ منها، هى السبب فيه، وهذا يكفيها كى تعيش، تحيا، تضحك، وتُعجَب بنفسها، مثلما أنا مُعجب بها.
إنها الفوضى الرائعة، أحلامنا البدائية، والراقية، خيالاتنا الوحوشية، والناعمة، هى صفاءنا وعكارتنا، غابتنا الجميلة، الغابة الخاصة لكل واحد منا، البحر الخاص لكل فرد فينا، حياة سرية، عالم سرى، الرغبة الأولى، الحلم الأول، يقول الواحد منا لنفسه: “أَحصل عليها، المسودة، مسودتى، وبعدها كل شىء سهل”، نعم، كما ترى، هى تجعل كل شىء سهلاً، تجعل كل شىء ممكنًا، ويكفيها هذا.
الوحيدة التى نكون معها على راحتنا، نكشف لها عيوبنا، ضعفنا، قسوتنا، تهورنا، جنوننا، أحلامنا، مخاوفنا، وهى تَقبل منا كل هذا، وأكثر، وفى النهاية نكشف لها عن ندالتنا، والتى بالمناسبة، تعرفها عنا مُسبَقًا، هى الحبيبة التى تقبل منا كل شىء، تحبنا على ما نحن عليه، لا تشتكى، هى أروع وأجمل من أن تشتكى، تعرف أننا نريد أن نتجاوزها سريعًا إلى غيرها، ولا يزعجها هذا، لا تحاول تعطيلنا، حتى إنها تساعدنا، وبنفسها تُشكِّل لنا حبيبة جديدة، تُجمِّلها، وتُقدِّمها لنا، لذا، على الأقل، وحتى لا نكون أندالاً فى ندالتنا، علينا ألا ننسى أن كل الحبيبات بعدها لسْنَ إلا بعضًا منها، وهى ستكتفى بذلك، ترضى به، تبتسم وتغمز بعينها لنفسها، وتقول: “كلهن منى”.
المسودة، على الأقل، يمكننا أن نقول لها: “شكرًا”.