المسافر

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد المغازي

لحقت الأتوبيس قبل انطلاقه بدقائق، كنت أعتقد أنني متأخرا فركضت  حتى تسارعت أنفاسي  بقوة لتفتح مسارا يسمح بهواء أكثر لرئتاي، لكن عطل ما في نظام الحجز أخر الرحلة عدة دقائق. اخترت كرسي في الخلف متجاهلا كعادة الجميع رقم الكرسي على تذكرتي. مررت بحذر في الممر كي لا تصطدم شنطتي بالكراسي، تمنيت أن يتحرك الأتوبيس الآن بمجرد أن استرحت على الكرسي قبل أن يزدحم في اللحظات الأخيرة وتبدأ رحلة البحث عن الكراسي المسجلة بالتذكرة فتقلق راحتي أو يشاركني شخص في الكرسي المجاور فتتكدر رحلتي.  

لم تكن حساباتي أن أسافر مع أصدقائي مطروح هذا العام، جيبي الفارغ لم يسمح بذلك، لكن كنت محظوظا الأسبوع الماضي ورزقت بعدة مشاريع كتابة وترجمة تافهة جمعت منها مال معقول، سددت أجرة الشقة ووصولات الغاز والكهرباء، المتبقي ربما لا يسمح لي إلا بثلاثة أو أربع أيام لو لجمت يدي في المصاريف لكن هذا أفضل من ولا شيء، خصوصا أن اشتياقي للبحر هو الهدف الأساسي رغم أني لا أعرف لغته ولكن وجودي بجواره يخلق بداخلي نوع من الراحة  والسلام الغائبان. ربما لو ولدت في مدينة ساحلية لكان مزاجي رايق أكثر أو متفائل بدلا من روح شوبنهاور الساكنة داخلي تلك، ربما. 

بلا مبالاة أعلق التذكرة في يدي منتظرا مرور المفتش قبل أن أحشرها في ظهر الكرسي أمامي.  

تفكيري الزائد والمولع بالخطط جعلني أعد الركاب الصاعدين بعدي، لخمني وجود مجموعة ترافق المسافر لتودعه فقط، المجموع كان تسعة، لكن ثلاثة منهم بناءا على الصور المخزنة في الذاكرة قصيرة المدى تركوا الأتوبيس ولم أرهم مرة أخرى. ثم أخيرا تحرك سائق الأتوبيس بيأس وتباطؤ، لأن رحلته اقتصرت على أقل من ربع الأتوبيس.

السفر في الليل هواية أحبها منذ تجرأت واخترت سفرياتي بحرية، هذا منذ أيام الثانوي والسفر لأجل الحبيبات والأصدقاء والمصايف والصعلكة، هي بطريقة ما وفق نظريتي في الحركة واللاحركة –أحاول منذ سنوات خلق تصور يتفق مع كل ظواهر العالم وغيبياته، لكن تلك قصة أخرى-، معركة وجود، اختراق المركبات الآلية الطرقات  التي كانت فيما مضى ظالمة وقاسية في ماض ليس بعيد، هذه القسوة حرمت الإنسان طويلا من التجوال والحركة ليلا، فهو تحدي وإتحاد غامض بيني وبين الآلة ضد الطبيعة.

الآن، ينظر المرء من شباك سيارته أو غيرها من المركبات، يشاهد وحشة وكآبة الطريق في التجلي الأعلى، اتحاد الأرض مع السماء، والظلام الذي يشمل كل شيء،  الأشجار في الحقول التي نمر بجوارها تلاحقنا كوحوش انتهكت أرضها، لكن في النهاية تتدلى أياديها الطويلة يائسة بعد مطاردة مرهقة فاشلة.  

أحتفظ قوائم موسيقية عديدة لهذه الرحلات الطويلة، كل مجموعة تمثل مزاج ما، أحيانا يكون شعبي وأخرى كلاسيكي وأخرى رومانسي أو حزين، الساوند كلاود سهل على الإنسان رحلاته. موسيقى الستارك -معبرة عن الفقد والحزن،والوحدة والألم وفوق كل ذلك الموت الذي يخيم على نفوس الجميع- مناسبة أكثر للجو العام الذي يحيطني، الأتوبيس يتمايل بنا كثيرا لأن بعض الطرقات غير ممهدة والمطبات لا حصر لها، التكييف قوي ويخلق نوع من البرودة الثلجية، ربما هذه درجة مبالغ فيها لكن أشعر بالكسل والنعاس يغزو عيوني فأعجز عن رفع يدي لأقلل من برودته.

اكتشفت فيما يدي تهتز مع الطريق أن الكرسي سيكون طول الرحلة بوضع ثابت لأنها لامست مكان الأزرار لكن لم أحس بوجودها، فوجهت عيني سريعا ناحيتها فلم أجدها، كان الكرسي على وضع مناسب للاسترخاء وربما مظهره هو ما أغراني لاختياره، بزاوية سبعين درجة تقريبا ينحني ظهره للخلف، وضع يساعد على النوم الذي يجتاحني الآن.

أخمن الوقت الذي مر منذ انطلاقنا، ربما نصف ساعة، ما زال أمامنا خمس ساعات على الأقل، لو داس السائق أكثر على البنزين وترك الحذر جانبا، الطريق يعطي شعورا شاحبا بأنواره الصفراء والقليلة -مرورنا الخاطف عليها يخلق رؤية مشوشة داخل العقل-، الكباري شديدة العلو كأنها ممر نحو أبواب السماء المفتوحة لاستقبالنا، عذرا الحياة تنتهي هنا.

في مرمى بصري، ثمة عجوز وحيدة، تقرأ من كتيب صغير -ربما أذكار السفر- أربط خشوعها بيونس عندما كان في بطن الحوت، تجلس ناحية الممر، هل تخشى الطريق وومواجهته ؟ تبدو من زاويتي مستكينة ومسلمة قدره كلها لله.  

تجعلني السيدة الكبيرة، أفكر في فرضية عجيبة، ماذا لو مات أحد الركاب الآن، غرق في صمت تام وأسدلت عيناه لللأبد وراح في سبات ليوم يبعثون، أي منا سيحس بالحضور الثقيل للموت وحصده لروح أحد رفاقنا، أليست طول هذه الرحلة يخلق بيننا رابطة أخوية ما ؟ وهل ذلك شيء رائع أصلا: أن تموت في هدوء دون جلبة أو احتضار شاق وتقضي لحظاتك الأولى بعيدا عن عيون الفضول.

أشعر بثقل في جفوني، يصبح النوم الخيار الأنسب لحظة بعد لحظة، أنظر في الساعة، الوقت  أصبح يمر ببطء الآن، كما لو أننا لا نتحرك، بكسل وخدر كبيرين أترك هاتفي على الكرسي المجاور، وأفقد إحساسي بالزمن.

بالتدريج تغيب الأصوات من حولي، من يهرب من من ؟ في كتب التنمية الذاتية، تلك النوعية أدمنتها فترة الثانوية عندما ارتبط مستقبلي بتلك السنوات، كان المستقبل مرتبطا بصورة كاملة بها، حياتك الاجتماعية علاقاتك العاطفية زوجتك، كله كله مرتبط بما ستحققه خلال السنوات تلك، فكنت أهرب من هذا الضغط الهائل الذي يقارب مستوى قنبلة نووية بقرائتها. كانوا يضعون في تلك الكتب وربما إلى الان، رسومات متتابعة لشخصين، أحدهما يمثل القارئ/المستهدف  والآخر يمثل الوقت ويحمل سيفا -إشارة إلى الحكمة الشهيرة الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك-، ولأن قارئ تلك الكتب يحتاج لتكرار المعلومة فكانت تتكرر الصورة لكن بإيقاع حركة مختلف، فمرة تبعث الصورة على التفاؤل عندما يبتعد الإنسان أكثر عن حامل السيف، وأحيانا تبعث على الخوف عندما تتقلص المسافة.

أستغرق في وضعيتي المخملية أكثر، روحي تشعر بالارتياح والسكون، كمن نال حرية وانعتاق الأبدية، يخبرنا العلم الحديث عند تعرض الإنسان المعاصر لأزمة قلبية أو سكتة دماغية فليس أمامه الكثير من الوقت -دقائق في أفضل الظروف- وبداهة إذا لم يكن المنقذ مدربا أو المسعف محترفا فالنهاية محتومة، وربما بسبب مفاهيم مثل الخصوصية من الصعب إنقاذ أو اكتشاف موت أحدهم إلا بعد وقت طويل، يكون حينها قد رحل خارج حدودنا المعرفية بلا رجعة. في الماضي،  طريقة التعامل كانت عملية بصورة مدهشة، يلقي البحارة موتاهم من سفنهم هدية للبحر ، ويدفن الرحالة الموتى على قارعة الطريق ثم يكملون سيرهم. 

دون أي قدرة على الحركة، أقارن بين أفكار الماضي وتقاليده والحاضر، في حين أذناي تضعفان ويفقدان التواصل البشري، وتنغلق عيناي أكثر فأكثر متجهة نحو الظلمة، التي يفتح العقل فيها أبوابا لا نهائية من الاحتمالات.

أجد أمامي مجموعة من الراقصين، ذكورا وإناثا، يؤدون رقصات متنوعة وبعضها يتسم بجرأة شهوانية، يبدو أنهم أنهكوا أنفسهم في التدريبات كي تخرج بهذا التناسق والدقة، يصنعون دائرة، يغلقونها ويفتحونها بإتساع مدى بصري حيث لا ينتهي الأفق، عدد الراقصين كبيرا لهذا الحد. لمبة صفراء دهنية تضيء وتطفئ فوقي، الراقصون يحاصروني من كل اتجاه، واللمبة تصبح فوق رأٍي مباشرة، نورها يزعجني فأفكر في إرتدا ء نضارة شمس، لم ألاحظ هل يرتدي الراقصون نضارات أم لأ، ينشدون، العجل وقع هاتوا السكينة- لعبة الطفولة المريرة- أجمع خوف بداخلي منذ الصغر، أصرخ: افتحوا، يخرج من فمي ريح صرصر عاتية على سبع طبقات وثماني درجات، بالركض أكسر التماثيل التي صنعها خوفي.

اللمبة تظل فوقي، تطاردني كظلي، الذي لا أراه فعلا. أحدهم يوقفني، بشنب عريض وفي حزامه مسدس أسود، يسألني عن بطاقتي، ثم بلا إجابة يدفعني بقوة من قفاي فأجدني فوق ترابيزة خشبية سطحها خالي من الأشياء، يخرج من اللمبة صوت أزيز كهرباء، قضية لا يمكن إصلاحها، من الغيظ، تنفلت مني لكمة نحوها، تقابلني بحرارة هائلة تحرق يدي اليسرى حتى تختفي عندما أطفئ اللهب من فمي بأنفاس باردة.  

يسألني بعنف شخص بنظارة تأكل نصف وشه، و أجنحة تخفق بصمت وخزي من ظهره ، أين أخفيت يدك الشمال يالا، ولماذا سرقتها، هي ليست ملك، جسدك كله يا حبيبي مش ملكك، إنها ملك الله، مكنتش عجباك ولا إيه ؟ ولآمرهن فليغرين خلق الله.

بغمضة عين أهرب منه، اختفيت كأنني صرت ذرات من تراب، أراه أمامي لكن كما لو حاجز زجاجي مبقع ببراز عصافير يضرب بيننا، يترك الغرفة غاضبا ثم يعود وفي يديه نصف دستة كلاب بوليسة مشرسة، يشممهم رائحتي بأحد بوكسراتي، أحمر وفي منتصفه  أحم أحم شعار سوبر مان، أهرب من الكلاب بينما حراسه يلطمون على وجوههم ويلولون، أخر ما ألتقطه منه كان الماء يقطر من حوض بنطلونه، ويشخط في الكلاب بينما تتهاوى أجنحته على الأرض، هاتوا العرص دا.

قطعت مسافات شاسعة، صحاري، طرقات، كباري وجبال، ألتوي كالزواحف في الشوارع لكن نباحهم يجمعهم خلفي مرة أخرى، مجهودي في كل مرة يصبح صفرا مثل بتاع 2005. استدرت لهم في النهاية، وأخرجت موس من تحت لساني كنت أحتفظ به مختالا لحبيباتي، وقفوا الكلاب كأن فعلي هذا لم يكن معدا في أدمغتهم، خاطبتهم كلهم، يا ولاد الكلب، قفوا واحد واحد وكله هياخد دوره واللي فيه النصيب، انصاعوا لتحولي المفاجئ، ضعفاء أمام الشجعان مثلي، اصطفوا في سطر عربي واحد، قضيت عليهم بقفزة واحدة بينما موسي الشرير يقطع أحشائهم واحدة تلو الآخر، كنت كاتبا يحذف سطرا كاملا مرة واحدة من قصته –هذه تحتاج شجاعة أكبر أعتقد-، أخذت رأس أكبرهم وركلتها مثل أوليفر كان بعنف وغضب، نحو الجنوب، حيث قررت ترك كل  هذا البؤس خلفي.

بينما أتمشى بسعادة الناجي، تنطلق أغنية من مصدر مجهول، بصوت مكسور وحالم على وشك الإنهيار، في كل اتجاه، يتردد صداها ويتضاعف، مئات المرات، أستسلم لوجودها الأسود، تدفعني للبكاء وأردد معها…

You know what paradise is?

May it be when darkness falls

Your heart will be LIE

You walk a lonely road

Oh, how far you are from home (A fantasy we created about people and places

As we like them to be)

أرقد على الأرض منهكا من الأغنية، أفرد جسمي كله، أنظر لأعلى، تدور الأرض من حولي ثم تحدث حركة ما لم ألحظها، ربما  ارتفعت وربما هبوط، لا أعلم، تقترب ثعابين في ضخامة الأناكوندا، السماء ألوانها حمراء والسحب مظلمة، أنتظر خروج طائر الرخ من السماء، ليلتقطني وينقذني قبل أن تبلعني الثعابين، حبيبات الساعة الرملية المتبقية قليلة، بالكاد تكفيان عملية إنقاذ سينمائية، تختلط الرؤية بصور متزاحمة، أنياب الثعابين تقترب أكثر فأكثر، ثمة منقار طائر عند كبدي، لم يكن سوى نسر أسود، ثمة ثعبان يزحف بجوار أذني، يصل فحيحه الجائع والفرح بوضوح، ارتعاشات جسدي تزداد، وصوت صرخاتي مكتوم، هناك قطن يحشو فمي، أرمش بعيني ألف مرة ربما تتغير الصورة ككاميرا الطفولة الزائفة، يربت أحدهم على كتفي، وصلنا، أدقق فيه النظر، لم أرى من قبل هذا الوجه، يرحل سريعا، الرؤية يشوبها بياض ثلجي، لا يمكن تحديد أي شيء، أحس ببرودة أكثر من ذي قبل، ثم تغلق عيني ثانية…

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب