ولهذا فكثيراً من قصص (( أفيال صغيرة لم تمت بعد )) تبدأ بالفعل الماضي بما يحمله من دلالات خبرية قاطعة ومحسومة في حدود ما هو واضح ، فما حدث بالفعل يمكننا أن نعرفه ولكننا لا نفهمه بأكثر مما هو مطروح ، ويتوارى الفعل المضارع للتأكيد على اغتراب الذات عن واقعها الذي لا تمتلك حقيقته ، فقط الممارسات اليومية المكرورة كفعل فتح صنبور ، أو عمل كوب شاي ، أو استلام إيصال النور من البواب ، أو تأمل مساحات السماء الواسعة ومتابعة طيور قليلة تحلق بعيداً كذات تنفصل عن واقعها .
ففي قصة “هكذا” ولنلحظ دلالة اسم القصة التي تعني أكثر من وهكذا نقرأ (( فتحت الصنبور – كالعادة – انتظرت حتى تندفع القطرات الصغيرة )) سنتوقف عن الصفة لتسأل ماذا أضافت ؟ الصفة هنا لا تضيف بقدر ما تؤكد ، القطرات بطبيعة الحال صغيرة هذه اللغة المحايدة لا تستهدف تحميل الكلمات معان فوق طاقتها وليست معنية بأن تعمق دلالة التساقط بقدر ما تحرص على تأكيد وجوده هكذا (( ولا شئ آخر )) في الوحدة الأولى لقصة هكذا ، التي تبدأ بفتح الصنبور حتى انهمار الماء هذه الوحدة المكونة من أربعة أسطر ، لا تسهم بحركتها في تطور أحداث النص فقصص من هذا النوع لا تدعي أسلوبية عميقة ، ولا تقول أن كل كلمة يمكنها أن تضيف أو تعمق .
لأن النص في مجمله لا يسعى إلى أن يقدم لقارئه اكتشاف خاص ، فقط بناء معلوماتي تراكمي ، ثم يترك للقارئ مهمة اكتشاف السياق الدلالي بنفسه ، لنلحظ كيف صيغت الوحدة الأولى من مجموعة معلومات (( فتح الصنبور – انتظار الماء – ضرب الصنبور – الالم – إنهمار الماء ))
إن اللغة التي تحرمنا من التشكيل البصري ، وتحتفي بالتفاصيل الإخبارية لن تحرمنا من اكتشافنا الخاص ، بأن فعل الحياة اليومي والبسيط مقرون بالألم الشخصي للذات الفاعلة ، إنه ليس ذلك الألم العام الذي قد تفجره القيم الإيديولجية ، فهو ألم الشخصية ذاتها في لحظة فصل خاص بها . والحشد الاخباري في هذه الوحدة يوضح لنا كيف تحتفي البنية الأسلوبية في قصص المجموعة بالتراكم المعلوماتي ولا تتحول إلى التشكيل إلا قليلا حتى يبلغ عدد الأفعال في صفحة واحدة (( ثلاثة وستون فعلا )) وقد يؤكد هذا التركيب المباشر الذي لا يسعى لاكتساب بلاغة اضافية ، فكثير من الجمل تتركب صراحة من الفعل والفاعل والمفعول (( اشعلت عود الثقاب ، أدرت مفتاح البوتجاز ، فهبت شعلة النار )) وفي قصة الحان منسية نجد (( انهمر المطر – مررت تحت الأشجار مسرعة – وتوقفت تحت شجرة كبيرة )) وقد تستدعي الجمل توابعها المعروفة ، والتي أكثرها استخداماً عند نجلاء هي الصفة ، حيث يمكنها أن تُحقق من خلال الصفات إيقاع جرسها الحاد (( القطرات الصغيرة – الماء الرفيع – اصفر فاقعا – حمراء متوهجة – الفتحات الضيقة – السماء الواسعة – الصالة الضيقة )) .
ويمكن للوصف أن يعمق الحالة الشعورية كما في وصفها للنافذة بانها وحيدة وكذلك البلكونة الوحيدة ، والفتحات الضيقة وهكذا تعمق الصفات حالة الوحدة التي تعيشها الشخصية إلى جوار الضيق والاضطراب الذي تنقله اللغة والجمل السريعة إلى المتلقي ، حيث ترتبك حركة الشخصية في مساحتها الضيقة وأمام أفعالها اليومية المعتادة في المطبخ ومع أدوات بسيطة كالصنبور والبراد والبوتجاز وحيث تصبح النوافذ الضيقة هي المتنفث الوحيد – أيضا – للإطلال على العالم الخارجي حيث السماء المتسعة ، وهذا الاتساع هو الذي يسبب ارتباك الشخصية في مساحتها الضيقة ، أو هو الذي يؤكد وحدة الشخصية واغترابها (( نظرت إلى السماء فوجدتها متسعة جدا وغريبة إلى حد كبير )) لنلحظ التأكيد على غرابة السماء هنا قد تفهم إنها متسعة ولكنها لا تفهم كيف تبدو غريبة إلا حين تتذكر اغتراب الشخصية وعزلتها ، وتتذكر الضيق النفسي والمكاني بحيث يبدو الاتساع أو الخارج كشئ غريب ومختلف يؤكد العزلة ولا يدعو إلى التواصل .
وكثيراً ما ، تعتمد نجلاء على الاشارات العابرة والذكية التي تحترم وعي المتلقي فبين ركام المعلومات التي تبدو عادية سوف تمرر شيئا هاما وخطيراً ، بحيث يكاد يكون هو مفتاح النص ، لكنه يلقي ببساطه بين ركام المعلومات الأخرى ، ففي قصة (( هكذا )) نحن لا نكتشف تاريخ الشخصية ولا نعرف عنها شيئا ثم ما تفعله من ممارسات معتادة داخل مطبخها ، لكنها حين تأخذ وصل النور من البواب تتحاشى النظر إلى الاسم المكتوب عليه ، يمكننا الأن أن نحدس من هو صاحب الاسم ؟ ربما الزوج إذن هو غائب ، ولماذا تتحاشى النظر إلى اسمه ؟ أيثير فيها تداعيات كريهة ، أم أنها تخشى يقظة الحواس وتخشى ذاكرة الجسد الذي تنهكه في ممارسات يومية معتادة ومكرورة إن جملة واحدة (( تحاشيت النظر إلى الاسم المكتوب )) قد تُفجر فينا كل هذا وهكذا تترك نجلاء مساحة واسعة لحركة المتلقي .
وفي قصة ( شعرات بيضاء بطول الشعر ) نفهم حركة الزمن من زيادة عدد الشعرات البيض التي تشير إليها الجملة الأخيرة لتصبح بدورها جملة كاشفة ، وتعني استمرار حالة العجز والاستلاب ، فلا وجود لشئ إلا ذكريات قديمة ، لجسد قديم هذا المعنى يجعلنا نعيد قراءة النص ، لنكتشف الجملتين الأولتين من جديد لنخرجها من سياق الاخبار ونتأملهما بدقة (( سحبت ضلفتي الشيش ، وأخذت تسد الفتحات بورق الجرائد )) إن المعني الكنائي الذي يصلنا الآن هو الإنسحاب للداخل والإنغلاق والظلامية يتواشج مع الرمز المباشر في جملة النهاية بزيادة شعرة بيضاء رابعة وجديدة لتؤكد معنى العجز ، وبين جملة البداية وجملة النهاية مساحة شاسعة من التأويل المربك فأيهما البداية وأيهما النهاية ، هل الانسحاب يؤدي إلى العجز، أم أن العجز هو الذي يفضي إلى الانسحاب ، وإنها بلا شك مساحات فارغة ، متروكة ليشغلها المتلقي بلا مصادرة أو تسيد ، مجازفة بمدى قدرة القارئ علي فهم النص .
_________________________
* مجلة مدارات : العدد الأول ، يناير 1998م .